في قصيدته (أوراق من مفكرة شارع عربي) التي طبعت في كتيب صغير أيام الانتفاضة، تساءل إبراهيم نصر الله، وأجاب في الوقت ذاته:(وأنتم هنا يا بقايا ارم 
هل يغضب الشارع العربي؟ تقولون لا. سأقول نعم !). هكذا الشاعر الرائي، والذي يقود الوعي الجمعي ولا ينقاد له. وهذه وظيفة الكاتب؛ يستبصر الممكن ولا يتفرغ لندب الواقع.
فالشاعر على رأس القائمة حين يفكر الحاكم المستبد بخصومه، الذين يقلقون راحة الطغاة، والذين يحاولون إقناع الناس أن يملأوا النصف الفارغ من الكأس، لا أن يكتفوا بالنصف الملآن.. فهو لن يكفي لإروائهم جميعاً!
والشارع هو همّ الشاعر، وهاجسه المقيم، أو هكذا يفترض، لكي يكون بحق ابن هذه الأحلام التي تخرج كل فجر لتسعى في الأرض، تتلقّط حريتها قبل رزقها، والناس على طيبتهم وبساطتهم، لن يقتنعوا بكل المجاز والبلاغة والبيان عند شاعر يتغيب عن إبداء رأيه في القضايا الوطنية، ولن يغفروا له أنه تجاهل أنينهم وراح يكتب غزلاً ساذجاً في نساء يقترحهن خياله اللاهي، لهذا يظل الشاعر (والقصد هنا هو الكاتب والمثقف عموماً) من يقضّ نوم الجنرال، ويخدش هدأته، ويظل يفضح فكرته الخادعة،.. ويظلّ بالمقابل مُعرّضا لبطشه ولقبضته التي تقطف الأعناق، أو كما قال الشاعر الجزائري عز الدين الميهوبي:
(الطغاة الهواة يقتلون الشاعر في الشارع
 الطغاة الطغاة يقتلون
 الشارع في الشاعر!).
فالأكثر أهمية على قائمة القتل ليس المتظاهر بل من يكتب هتافات المظاهرة، ومما يفزع الجنرال في نومه أن يكون الشاعر ساهراً لكتابة قصيدة جديدة، أكثر مما يفزعه ذلك الذي يفكر في اختراع متفجرة، فالمتفجرة تحملها يدٌ واحدة لكن الأغنية والقصيدة تحملها آلاف الأذرع والحناجر!
لهذا لن يمرّ الناس عابرين أمام ما يحدث الآن في كواليس الكتابة والثقافة، متزامناً مع ما يحدث في ساحة السياسة والثورات، ولن يتجاوزوا عن أولئك الذين خذلوا أحلامهم وأغنياتهم، وأولئك الذين ضلّلوهم طويلاً بالخطاب التقدمي، والصوت الصاخب، ثم انزووا في بيوتهم حين وقعت الواقعة!
والمواطن البسيط ليس بسيطاً، وليس غوغاء ولا دهماء، كما يتخيله بعض "المثقفين" وبعض "الكتّاب"، فهو ذو ذاكرة عميقة وخصبة ولا تغفر أبداً في الشأن الوطني، كما أنه ليس مجرد ذلك "المتلقي" الذي يتلقف ما نكتبه له من دون أن يُقلّبه ويتدبره ويهضمه، والمواقع الالكترونية التفاعلية أثبتت أن الفروق باتت ضئيلة جدا بين القارىء والكاتب، وهي لا تتجاوز الآن سوى معدّات هذا الأخير من البلاغة والبيان!
بل إن بعض كتابات الشباب الهواة أكثر سحراً أحيانا لأنها أكثر مصداقيةً، ولا تملك غرضاً خفيّاً!
..
وربما لم يمرّ تاريخنا العربي المعاصر بمرحلة فرز حادّة كالتي تحدث الآن، حيث تتصدى الجماهير بيدها لتقود مشروعها الذي أفسدته النُخب، أو باعته، أو زوّرته، أو في أحسن الأحوال لم تكن قادرةً على قيادته، والمرحلة تلغي -أيضاً- ذلك التفوّق غير المسوّغ الذي دائماً ما قدمت النُخب نفسها مسنودة إليه، والمثقف الذي تحدث كثيراً .. ربما عليه الآن أن يُنصت كثيراً.
وآن للكاتب الذي عاش في عزلته اللغوية طويلاً أن يخرج من تحت أكوام الورق ليرى أبطاله يمشون على أقدامهم، وأن يمشي معهم، وأن يستدلّ الطريق الذي يعرفونه هم جيدا؛ حتى وإن لم يجيدوا الكتابة عنه!
الكاتب ليس مجرد بائع أحلام، والكتابة -في رأيي- أكثر من مجرد مطرّزات لغوية باهرة!
..
وبالمناسبة كانت أمس ذكرى استشهاد غسّان كنفاني!

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  إبراهيم جابر إبراهيم   جريدة الغد