مثل قصيدة عمودية، ولكن جميلة، يقف المخيم بقامته المتطاولة!
ماذا كنت تعرف عن "شاتيلا"؟.. أخبار قديمة في الصحف، مقاطع من "الظل العالي"، وملحمة إغريقية تقول إن الأرض شربت آلاف الأرواح مرةً واحدة!
تعال إذاً (يمسكني من يدي الرجل الذي بشاربٍ أبيض كبيرٍ وكثّ) لترى أين نامت الصبايا بعد نهار موتٍ طويل وشاقّ!
تدخل في الأزقّة، الأطفال ينظرون إليك بفضول القطط... مياه الغسيل تقطر من الشرفات، والشهداء تقاسموا الجدران، كأن "البوسترات" غرفٌ إضافية لمن لم يسعه بيت العائلة!
وأنا سعيدٌ، ومترددٌ، كمن يتفقد أساور أمّه بعد وفاتها!
هذه (شاتيلا) إذاً؟!
هنا ارتفعنا عالياً ثم هَوينا، وهنا متنا ليس لسبب مُلحٍّ.. هي عادتنا السيئة في التوقيع على ظهر الطريق الذي نمرّ منه!
أمشي برجفةٍ في قدميّ. وفي داخلي شخصٌ ما عاتبٌ: كيف تمشي فوق القصيدة؟! فأقعُ على وجهي .. ويقعُ وجهي على اسمهِ: عائلةٌ كاملةٌ هنا كان ينقصها أنا، وأجدُ فِراشي دافئاً، وعلى مقاسي بالضبط!
***
العجائز يحملون "راديوهات" صغيرة يتلقطون أخبار حربٍ ما، أي حرب، ويهزّون رؤوسهم كأنما: (نعرف .. نعرف .. لقد جربنا ذلك من قبل)!
إذا كانت "فلسطين" ستتأخر في الحضور فنحن نريد أدوية للسُكّري، وأعمدة للهاتف، وماء صالحاً للوضوء!
قال رجل سبعيني بمنتهى الجدّية!
وبدا كما لو أنه ينتظر مني إجابة، .. أو كأن "العودة" تأخرت لأسباب فنية، أو لخلل في مواعيد الطائرات!
وأضاف: ها أنت ترى، الناس هنا لو حلَّقت طائرة فوقهم لانهارت منازلهم؛ لأننا ارتجلنا البيوت في الهواء بلا أساسات قوية... وضحك بتخابث وهو يؤكد: كالعادة!
الشارع عادي: حرارة عالية ورطوبة، شعارات على الجدران تتوعد بالعودة، محلات لبيع الأشرطة، وأخرى لتأجير الدراجات، ونتافة للدجاج، ودكان صغير بعتبة وباب زينكو تفاجأ أنه مقر لحركة تحرير وطني، وبسطة للخضار الذابلة!
الشهداء يتململون في ساحة المسجد، ضاقوا ذرعاً بالقبر الجماعي، وتغريهم بالخروج أصوات المظاهرات!
مقر اتحاد المرأة في بيت درج، والحارس على باب المكتب السياسي يُلمّع بارودته، واليافطة على باب الحركة المناضلة تشجيعية كأن هناك خصماً على رسوم الاشتراك!
الناس هناك يعتقدون أن الحياة بلا بيت أو نوافذ هي سُنّة الحياة!
وهم لا يطلبون أكثر من حصّتهم: وجبتين في النهار، قميص بأكمام في الشتاء، وطريق – ولو طويل – يمرُّ من الشمال الى البلاد!
***
مثل هتافٍ مبحوح مكتوبةٌ "فلسطين" على باب بيت، ومثل قوس نصرٍ مكسور يقف طفلٌ على سطح بيته يُرخي الخيط لطائرةٍ ورقيةٍ لا تعرف أين ستحمله!
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة إبراهيم جابر إبراهيم جريدة الغد