سأصحو هذا الصباح في سيدي بوزيد.
مدينة البوعزيزي، الفتى الذي صار سبب الثورة، وتُوّج أيقونةً لها.
تحتفل تونس اليوم بمرور سنة من الحرية، حيث صارت أسماء الناس أوضح، وأعمارهم أكثر بلاغةً.
تونس التي زرتها في نيسان الماضي، بدت لي حين وصلتها الليلة الماضية، أنها اختارت مكاناً ومكانةً جديدةً لها في العصر العربي المقبل؛ وأنها ستقود فكرة النهوض للعرب عامّةً؛ من زاويتين: قوة وديناميكية الشارع، ومن حيث، أيضاً، الفهم الجديد للحكم، الذي يتوقع دائماً أن الشارع لم يعد ذلك (الرعيّة المسالمة) الراضية بما كُتب عليها.
تونس اليوم عبرت مرحلة البوعزيزي الى مرحلة المنصف المرزوقي؛ من مرحلة البطل الى مرحلة صناعة الدولة الجديدة، التي تتلقى أشواق الشارع وتترجمها الى سياسات، ليس هو كشخص وإنما ما يمثله كرجل يشبه أي تونسي قد اكون التقيته يوما في المقهى وتجاذبت معه أطراف شجون عن الأحلام والمستقبل وحقوق الانسان والشعر والمرأة، .. هو الآن قائد التونسيين، وليس رئيساً بروتوكولياً، طوبى لتونس وهي تعبر مرحلة ما بعد الثورة سالمة.
لتعلمنا المعنى الحقيقي للحرية، وكيف تصير خيارات الناس هي خيارات الدول، وكيف لأحلام الناس أن يروها تمشي على الأرض.
مشتاق لكل شارع وكل مقهى وكل باب.. لن أقول: مشتاق لاصدقائي؛ لأن أي رجل يمشي الآن في الطريق هو صديقي أُسلّم عليه فيبادلني حرارة السلام.. مشتاق لإنسان تونس.
تونس الحرة، التي ثارت وملأت الدنيا برائحة اللحم المحروق.. ثم ذهبت لصناديق الاقتراع لتختار ما أرادت.. ثم توجت مثقفاً حرّاً وإنسانا يشبه الذين ماتوا من أجلها، ويشبه متظاهريها، ويشبه حريتها التي حلمت بها عقوداً مُرّة وطويلة، ليكمل ما تبقى له من قصائد في حبها.
هي الممارسة الحقيقية للحرية، والولادة، والنهوض، .. وربما يتاح لجيلنا لأول مرة ان يرى تفتّح مشروع كهذا امامه مباشرة، .. ولا يقرؤه كتاريخ مشكك به!
نرى دولة تكتب التاريخ يومياً، دون تدخل الرواة، والمؤرخين وتجار الأكاذيب، الذين يُعظّمون الموتى، ويُصغّرون شأن من عاش،.. هذه الآن دولة عربية تعود من غياب طويل بعد أن سرقها نظام جائر من عروبتها، وأقصاها عن أمتها في عز حاجتها لها، فلنرحب بها، ولنقف طويلاً في استقبالها، ونستعير لها ولو مؤقتاً لقب الشقيقة الكبرى، فهي التي قادت العربة والعرب لصناعة هذا الفجر العفيّ، والبهيّ، وهي التي أهدت لجيل جديد صفحات بيضاء ليكتب تاريخاً جديداً، كما حلم به دائما واشتهاه، لا كما لقنته اياه كتب المدارس والمراجع التي وقف طويلاً أمامها، لتقف هي الآن أمامه مشدوهةً، وجاهزة لتكتب روايته هو، يمليها بيديه، وبجسده، حاضراً، وصانعاً، وفاعلاً.
حين تنتصر الثورة لا نعود بحاجةٍ لنحت تماثيل الأبطال، بل نحت أبطال الحياة اليومية، وأن يندفع الآن البناؤون والفلاحون والشعراء والباعة والأمهات لحمل هذا الانتصار.. واستحقاقه.
..
حين تصنعُ مدينةٌ ثورةً تصير أشجارها أعلى، ويصير الغبار على شبابيكها أثمن!
وتصير نساؤها أجمل.
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة إبراهيم جابر إبراهيم جريدة الغد