أتاح لي حظي السيئ أن أسمع كاتباً (كبيراً) يقول: أعتذر عن تاريخي.. وعن ذلك الحمق الذي مارسته في شبابي!
الكاتب الذي أفل نجمه (وهو في الحقيقة لم يكن نجماً إلا بقدر ما كنا بحاجة لاختلاق النجوم) كان يعتذر كما أوضح لاحقاً عن تاريخه السياسي بمجمله؛ ويود لو يستطيع استثمار ما تبقى في المكيدة لذلك التاريخ!
هذا الذكاء المفاجئ، والذي بأثر رجعي، يمكن التساهل معه بما يخص الكاتب؛ واعتباره حرية شخصية؛ ولكن ماذا عن أولئك الذين تم تجنيدهم، على مدار عقود طويلة، لصالح أفكاره أو ما يراها الآن حماقاته؟!
يسوقنا ذلك للسؤال البدهي: هل القراء مجرد قطيع؟
عربياً، في السياسة والفن والثقافة يجري التعامل معنا كذلك؛ فالراقصة التي تحجبت تود لو تأخذنا معها الى العمرة، واليساري المتقاعد يبذل وسعه لإقناعنا بفضائل الإصلاح الأميركي، والكاتب المرتد يقدم لنا المواعظ التي علينا -مجدداً- أن نعتنقها !
لا أدافع عن الدوغمائية، بالضرورة، ولكنني أتوقع المبررات المقنعة، التي تجعل القارئ يخوض عن رضا وتسليم حروب الردة الجديدة، مع الكتاب والفنانات والساسة، وتجعله يهب عمره للفكرة التي عاش يحاربها، وينشر في الناس محبة صافية للعدو، ويزوج عقله للضلالة التي كان يتحاشى السلام عليها!
فالجيل الذي كان يختصر من قروشه القليلة ليشتري ديوان شعر، أو يضحي بأمن بيته حين يحمل منشوراً سرياً، أو يلصق صورة الفنانة على خزانة الملابس، من حقه أن يسأل، وأن يفهم، وأن يناقش؛ قبل أن يبيع خزانته في سوق الأفكار المستعملة ليشتري لكاتبه الملهم سيارة فاخرة !
وللمفارقة فقد أصيب جيلنا بالصدمة المروعة، في كثير من أولئك الذين علقنا صورهم على خزانات ملابسنا، من ساسة وفنانين وشعراء بل ورياضيين.
قد يهدي الإنسان قلبه، لمن يهوى، وعن طيب خاطر!
لكنه من الابتذال أن يؤجر رأسه، للآخر يحشوه له، بما يراه وما يريده الآخر من أفكار وبدع وخصومات وآراء متناقضة مع بعضها.
لا يفعل ذلك سوى إنسان يمتهن عقله، أو يعجز عن إدارته واستخدامه، فيقدمه رخيصاً لكاتب صحافي، أو إمام مسجد، أو شاعر، أو حتى لرجل جالس على مقهى ! ذلك أن الأمر التبس على كثيرين، حين آمن المريد أن عقله لا يلزمه في حضرة شيخه، وتباهى التلميذ أنه يحفظ غيباً كل تعاليم أستاذه، وقال القارئ إنه لا يُكذّب ما تقول الصحيفة، وأغمض المصلي عقله وأرخى أذنيه لخطيب الجمعة!
ونسوا جميعاً أن العقل ماكنة للتفكير والخلق والاقتراح، وليس آلة تسجيل!
من الطبيعي أن ينتظم الناس في حراك سياسي أو فكري جمعي، وأن يلتزموا بتوجه أو يقينٍ ما، لكن من المعيب أن يخلعوا رؤوسهم قبل بدء الاجتماع!
فالنائب، أو الكاتب، أو السياسي، أو المذيع المفوّه، أو شيخ الجامع، كلها ليست صفات للعصمة، أو أسبابا للحكمة، ولا تمنح صاحبها حصانة على قوله، أو أوراقه، أو "خراريفه" التي يقصّها على زوّاره في المضافة!
والجمع من الناس، الذين يؤجّرون عقولهم، ويبصمون بأصابعهم العشرين على ما يتلقفونه في نشرة الأخبار، أو بيت العزاء، هم غير جديرين أبداً بأن يحملوا رؤوسهم بين أكتافهم، ما دام حملها أو تركها في البيت، لا يغير شيئاً.
يكفيهم إن خرجوا من بيوتهم أن يحملوا معهم آذانهم فقط !
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة إبراهيم جابر إبراهيم جريدة الغد