ليس مطلوباً دائما من المؤمن العادي، المغلوب على أمره، أن يكون خبيراً في كل شيء، متبحّراً في كل فقه، ومحيطاً بكل علم؛ فالدين كما ورد في الحديث ييسر له آخر الأمر ما استعصى عليه بأن "يستفتي قلبه"!
وقلب المؤمن دليله وهاديه، فما اطمأن له ووجده يقارب المنطق والعقل، فهو الصواب، وما جافى ذلك ونفر منه قلب المؤمن، ولم يطمئن له عقله، فهو مريب، والمؤمن من ترك ما يريبه إلى ما لا يريبه!
وهنا، في هذه المساحة بالضبط، أي ما يريب وما ينفر قلب المؤمن، تقع هذه الفتاوى التي حفلت بها وسائل الإعلام في السنتين الأخيرتين، منسوبة لعلماء كبار ولمحافل إسلامية مهيبة، أحياناً، كالأزهر!
وهي فتاوى مختصة بعلاقة المرأة والرجل، وليست مجازفة أبداً القول بأنها "تتسلّى" بهذه العلاقة!!
فمن فتوى إرضاع الزميل، التي لا يستقر لها عقل عاقل، ولا يرضاها قلب مؤمن أو حتى كافر، إلى فتوى تحرم على الرجل الواقف في الباص أن يجلس مكان امرأة أخلت مقعدها إلا بعد مرور عشر دقائق، يكون فيها المقعد قد خلا من حرارة جسمها!
وربما كان في تفاصيل الفتوى ما يفرق بين مقاعد الجلد والحديد، وبين مقاعد المترو وباصات النقل العام، وبين مقاعد الدرجة الأولى والثانية!
وهي فتوى تنكر عقل الإنسان وقلبه وطيبته، وتتجاهل هموم ذلك العامل المهدود الواقف منهكاً وجائعاً في الباص، وتضعه في مربع واحد فقط: الذكر المفترس الذي لا يفكر إلا بتلك المرأة المسكينة كصيد أفلت من يديه !
كما تضع هذه الفتوى المرأة في مربع وحيد أيضاً هو: الوجبة الشهية التي لا نأكلها فقط لاعتبارات الحلال والحرام، ولا تتعامل معها كإنسانة ولا كعقل أو كسيدة صاحبة أمرها!
كما الفتوى الأخيرة التي حرّمت على المرأة الجلوس أمام الفيسبوك من دون محرم، كأنما هي قاصر تحتاج وصياً عاقلاً وناضجاً وراشداً حتى لو كان أصغر منها بعشرين سنة... مثل ذلك الطفل الذي يخرج محرماً مع أخته وخطيبها لحمايتها من نفسها!
لكن الفتوى التي خرجت مؤخراً في اليمن والسعودية كانت أقسى هذه الفتاوى، وأكثرها افتقاراً للإنسانية، فبعد أن ثار الجدل طويلاً حول تزويج الطفلات الصغيرات، واللواتي لا يتجاوز عمر الواحدة منهن أحياناً العاشرة أو الثانية عشرة، وبعد الاحتجاجات المحلية والعالمية، وتدخل منظمات حقوق الإنسان، ووفاة بعض الصغيرات بعد زواج متعسف من رجال لا يليق بهم أن يعيشوا خارج الغابات، خرج الحل العبقري من بعض العلماء هناك فأفتوا أنه يجوز زواج الطفلة بهذا العمر إن كانت "قابلة للوطء"!
والوطء مفردة من قاموس الفقه الإسلامي تعني ممارسة الجنس، فمن هو الذي سيقوم هنا على التيقن من وقوع الشرط، ومن هو الذي سيحدد إن كانت الطفلة "قابلة"، وما المقصود بـ"قابلة"، وهل يكفي أن يقول الأب، وهو الجاني الحقيقي والأول في أغلب هذه المجتمعات، إن ابنته "قابلة للوطء" ليصير هذا الزواج صحيحاً؟!
مؤسف أن يظلّ البعض مؤجراً عقله لمن يشوهون روح الإسلام، ومبايعاً أمره لمجموعة من الناس تستمد شرعيتها من وصايتها على الدين، واحتكار الحديث باسم الله، واستبدادها بحياة المرأة باسم الشرع والدين، كأن الشرع لا عمل له إلا تعقب هذه المرأة وتصيّدها، وترقب زلاتها، فهي متهمة دائماً ومشكوك فيها حتماً ما لم تثبت براءتها، وغالباً ما تقضي عمرها وهي تحاول إثباتها!
والمؤلم في الأمر أن سطحية هذه الفتاوى وغرابتها، تشير إلى حجم الفراغ والبطالة الفكرية التي أصابت هذا الرهط من العلماء، إلى حد أن يخرج مفتي الأزهر علينا مؤخراً بفتوى تقول، إن الطلاق كي يكون صحيحاً يجب أن يكون بكلمة "طالق" حرفياً، ولا يصحّ بكلمة "طالئ"، التي تلفظ فيها "القاف" مخففة، كما اللهجة المصرية أو المجتمعات المتمدنة، التي تحرمها هذه الفتوى من حقها في الطلاق!
ولا ينتبه سماحته هنا أبداً لما يسمى في الإسلام "توفر النية"، وأن أغلب الفرائض والسنن تكتمل بمجرد توافر النيّة، كما لا ينتبه أنه يلغي فتوى سابقة، لا أتذكر إن كانت له أو لغيره من جهابذة الإفتاء، تجيز الطلاق بواسطة الرسائل القصيرة، "المسجات"، والإيميلات، كما أنني أتساءل جاداً كيف يُطلّق الأخرس إذن، وهو الذي لا ينطق "القاف" مفخمة ولا مخففةً، وكيف يُطلّق الهندي المسلم الذي لا يجيد العربية؟!

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  إبراهيم جابر إبراهيم   جريدة الغد