كان لدينا بعض الضيوف، قلت لزوجتي أوصليهم أنت بالسيارة، وسأرتاح قليلاً! بعد أن خرجوا لم يحضرني النوم بسهولة، بقيتُ أتقلب في ذلك الكسل الذي يصيب الناس ساعة العصر. ثم لم أجد ما أفعله، فدخلت المطبخ بهمّّةٍ وحماس، وخلعت الساعة من يدي، وغصت في كومةٍ كبيرةٍ من الأواني، التي خلّفتها عزومة الغداء. أكثر من عشرين صحناً، وعشرات الملاعق والسكاكين والشوك والمغارف، والكؤوس الكبيرة والصغيرة وفناجين القهوة، والطناجر التي تلصق والتي لا تلصق، والقلايات وكؤوس الماء وأطباق كبيرة وأخرى صغيرة مختلفة الاستعمالات.. كان المطبخ مكتظّاً، وكان عليّ أن أفرغ كل هذه الأواني من بقايا الأكل، ثم أن أفصل الكؤوس والفناجين عن الأطباق والطناجر الملوثة ببقايا الدسم! للحظات أحسست أنني تورطت، وفكّرت بالتراجع، لكنني كنت كلما تخيلتُ فرحة زوجتي حين عودتها .. امتلأت بالحماسة والهمة من جديد!! كان الماء وصابون الجلي يتراشق حولي، من قلة الخبرة، وكنت أفكر باستغراب وحزنٍ شديدين: كيف تفعل النساء ذلك في كل يوم أكثر من مرّة؟ وكيف لا يتردد الرجل على المائدة أن يعيد الطبق أو الكأس أو الملعقة لأسبابٍ سخيفةٍ طالباً غيره، أو أن يستخدم نصف أواني المطبخ إن دخله مرة ليقلي بيضة أو يعد صحنا من السلطة، بلا اكتراث بمن سيغسل الصحون!! وحين كنت أكوّم الجلي على رخام المطبخ، أصابني الرعب من فكرة أن الأولاد سيعودون بعد قليل من مدارسهم وسيستخدمون هذه الأواني التي غسلتها، لوجبة غدائهم، وستعود ثانية لدورة الجلي، قبل أن تكون قد جفت من الماء!! ولم تخل تجربتي من بعض الخبث، حين كنت أؤخر غسل الأطباق شديدة الدسم، لعل زوجتي تدخل البيت فجأة، وتكمل هذا العناء الذي اعتادته يداها! كما أنني غسلت بعض كؤوس الشاي، والأطباق التي كان فيها اللبن، من دون منظفات، مقنعاً نفسي أنها نظيفة ولا تحتاج لذلك!! وأخيراً .. أخيراً انتهيت من كومة الأواني الضخمة، ولملمت بقايا الأرز وقطع البندورة الصغيرة من قاع المجلى، وفي تلك اللحظة بالضبط، دخلت ابنتاي الصغيرتان من المدرسة، واتجهتا للمطبخ على الفور، وحملتا عدة أطباق وكؤوس وملاعق، ببساطة، من دون أن تدركا خيبتي الشديدة، ومن دون أن تشعرا بفداحة ما فعلتا، وجلستا تتناولان طعامهما، ثم .. اكتشفت بعد دقائق أن نصف الجلي النظيف الذي كان على يميني، عاد ليتكوّم على يساري، قبل حتى أن أغسل يدي!! يا إلهي كم هو مرهقٌ أن يكون الإنسان امرأة، وأن تكون المرأة ربة بيت، وأن يكون البيت مكتظّا بالأبناء، و.. بالجلي!! وتذكرت أن تجربتي كربّة بيت لساعةٍ واحدة لم تتجاوز دوراً صغيراً وهامشياً، امام تربية الأبناء وتدريسهم، وترتيب أسرّة نومهم، وتنظيف الحمامات والكنبات وسقاية الحديقة وكنس الكراج وتقشير البصل وشطف الدرج وغسل الملابس، وووو .. وحين عادت زوجتي، لم أشعر أبداً بأي إنجاز، فهي لم تصب بالدهشة بالحجم الذي تخيلته، أو تمنيته .. فالأمر بالنسبة لها عادي، عادي جداً .. ولا يستحق هذه الفرحة العارمة على وجهي، وشعرتُ كما لو أنها تريد أن تقول: أنا أفعل ذلك عدة مرات في اليوم من دون أن يثير ذلك انتباهك فلماذا تتوقع مني الآن أن أصفق لك إعجاباً؟! .. أما الذي أزعجني جداً فهو أن الجلي كان قد عاد كله إلى يسار المجلى!!

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  إبراهيم جابر إبراهيم   جريدة الغد