زمان كان للمعلم هيبة، وكان مثل أب، وكان التلميذ أكثر خجلاً، بل يسرع ليقفز إلى الرصيف المقابل إن شاهد المعلم مقبلاً في الطريق!
حتى أن العائلة كانت تهدد طفلها إن أخطأ، بأنها ستخبر معلم المدرسة، فيخاف الولد ويهدأ.
كانت للحياة قيمها الثمينة وأخلاقياتها، وفرصتها الكبيرة، بأن تكون صادقة وحميمة و"محترمة!".
وكنا نضع معلم المدرسة في مكانة عليا، وننظر له بانبهار وتوقير، وننتظر دائماً، أن نسمع رأيه في كل شيء: في ملابسنا الجديدة أول السنة، شكل خطنا ورسمنا للحروف إن كان يعجبه، الكوخ الخشبي الذي نتبارى في رسمه في حصة الرسم!
وكان رأيه يدفعنا للأمام ألف خطوة، ويملؤنا بالبهجة، أو يصيبنا بالإحباط، حتى تدمع عيوننا أحياناً!
كانت الأيام مختلفة تماماً، عما يحدث الآن، ولها مذاق مختلف في العلاقة بين المعلم والتلميذ، علاقة الحب والقدوة، والمثل الأعلى الذي يصعب جدا أن يطال!!
قد نهرب من أمام الأب إن انتهرنا أو أوشك أن يضربنا، لكن أحداً لم يكن ليفكر، أن يهرب من أمام المعلم، أو يراوغ عصاه، أو يرفع عينيه في وجهه متذمراً أو حتى متسائلاً!
بل إن الاحترام كان يمتد لكل ما أو من له علاقة بالمعلم، فإذا كان ابنه طالباً في مدرستنا، تسابقنا على صحبته ورضاه.
وحين نتنافس على حل الأسئلة، أو البحث عن إجابات، نفعل ذلك سعياً لنيل نظرة الرضى وابتسامة الإعجاب، قبل العلامات العالية، كنا نهجس في البيت والشارع، وخلال تناول العشاء برضى المعلم!
ونقضي يوم الجمعة في التفكر والتدبر، عما سيكون عليه مزاج "مربي الصف" يوم السبت، وهل سيكون باسماً أم عابساً، وهل سيمازحنا، أم سيداهمنا بامتحان مفاجئ!
أذكر أنني حين طبعت كتابي الأول قبل 17 عاما، كان همّي أن أهدي النسخة الأولى لمربي صفي، ومعلم اللغة العربية في الصف الرابع الابتدائي ج، "الأستاذ حسن عبد الحي عثمان"، وحين ذهبت إليه، بعد كل هذه الأعوام، واحتضنني بمحبة الأب، أحسست للحظة أنني عدت تلميذا صغيراً، وحين سألني عن مهنتي خجلت، أحسست أنه من العيب أن أكبر، أو أن أكون أي شيء بحضرة أستاذي ومعلمي! وكنت أتمنى لو أنحني لأقبل يده.
وشعرت بسعادة غامرة، حين علمت مرة أنه يعلّم أحد أولادي، فذهبت مع ابني لأسلم عليه، وحين رأيته خجلت من الشيب في رأسي وارتبكت، وكأنني يجب أن أبقى طفلاً في حضرته!
فمن الذي خرّب هذه الصور الجميلة؟ من الذي أساء للمعلم وخدش ذلك المقام البهيّ؟
كثيرون، ومنهم بعض المعلمين من الجيل الجديد الشاب، الذي تكاد لا تميزه في ملابسه وهيئته (والجل على شعره) عن طلابه في ساحة المدرسة، وإن تحدث، فأنت حينها لن تميزه أبداً، لركاكة منطقه وهزال أفكاره، وسطحية اهتماماته!
صورة المعلم قد تضررت أيضاً، من انتشار ثقافة "اللاقيم"، وثقافة الاستهلاك، والتهكم على كل ما هو قديم وأصيل ومرتبط بالماضي!
وفي رأيي الشخصي (الذي لن يرضي الكثيرين)، أن منع الضرب في المدارس، قد قلل كثيرا من هيبة المعلم، وقيد يديه وصلاحياته، فالضرب (وبالتأكيد لا أقصد الضرب الأهوج والمبرح)، كان وسيلة من وسائل كثيرة للترهيب، وفرض الهيبة، وتعزيز الحضور الطاغي والمطلوب للمعلم. وليس من الخطأ، أن يقوم الرجل المربي الذي نأتمنه على أولادنا، وعلى تربيتهم قبل تعليمهم، والذي يقوم أحيانا، بما يتجاوز ما يقوم به الأب، باستخدام كل الوسائل التي يراها، بحكم قيمه وثقافته مناسبة لعمله، ثم ما دمت قد ائتمنته على عقل ابني، فكيف لا ائتمنه على أصابع كفّه؟!
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة إبراهيم جابر إبراهيم جريدة الغد