صار التلفزيون فردا من أفراد العائلة!
أحاول أن أتذكر كيف كان الناس يعيشون قبل دخول التلفزيون الى البيت، فلا أستطيع تكوين مشهد كامل، ولو متخيل، لعائلة بلا تلفزيون!
أتذكر أن أول تلفزيون دخل بيتنا، كان بالأبيض والأسود، في أول السبعينيات، ورغم أن والدي العامل البسيط كان زاهداً في مثل تلك المتع، أو أنه بعبارة أدق، غير قادر عليها، إلا أن الفضل يعود للفنان زهير النوباني، الذي كان أيامها يقدم دور رجل شرير اسمه "مقبول العقدي" في مسلسل لا أتذكر اسمه، شاهد والدي حلقة منه بالصدفة عند الجيران، قرر إثرها اقتناء التلفزيون!
وهو القرار الذي جاء بعد اقتناء الثلاجة بعامين.. لكنه كان أخطر وقعاً على الأسرة، وأشد أثراً، حيث شكل نقلة نوعية في ثقافة عائلة!! إذ علينا أن لا ننكر أن التلفزيون وقتها كان دلالة رقي، وانتقالا من طبقة الى أخرى، كما أن تواجده في البيت اعتراف من عائلة فلاحة بأنه لا بد من... خطوة ولو صغيرة للأمام!!
وهي الخطوة التي مثلت انفتاحاً على عوالم أخرى كانت مجهولة للرجل الفقير، وأدخلت الى ثقافته المتواضعة مفردات وعوالم جديدة؛ فصار يتحدث عن أمور سمعها أو شاهدها في برنامج "فكر واربح" لرافع شاهين، ويترقب بشغف مباريات الملاكمة لمحمد علي كلاي، ويتناول البطيخ البارد عصر الجمعة وهو يشاهد مسرحية لعادل امام أو دريد لحام.
لكن التلفزيون في تلك السنوات.. أقصد أول السبعينيات وحتى أواخر الثمانينيات، لم يكن يلعب هذا الدور المهيمن والمستبد في الأسرة، ولم يكن هو الذي يتحكم، كما هو الآن، في مواعيد الناس وزياراتهم وسهرهم، وصحوهم ونومهم، بل وحتى في علاقاتهم الزوجية!
كان للناس فسحة من الوقت يلتقون ويسهرون ويتبادلون الحديث، لكن العائلة الآن تصاب بالصمت والهدوء عندما تسمع شارة المسلسل! أما في رمضان، الذي تحول من سنوات، ومنذ اختراع الفضائيات تحديداً، الى شهر درامي بامتياز، فتجد العائلة تجلس مبحلقة من ساعة الافطار وحتى آذان الفجر، ولا يتحدث أحدهم الى الآخر إلا ليطلب الريموت أو يسأل بانفعال عن موعد المسلسل الثاني الذي يخشى أن يفوته على محطة أخرى! ويحددون وقت خروجهم لأي مناسبة، أو استقبالهم لأي ضيف، حسب مواعيد بطل المسلسل، فالممثل هو الذي يتحكم الآن بالمشاهدين، وهو الذي يقرر لهم أن يناموا أو يتحدثوا أو يأكلوا.. أو أن يصفنوا حزينين على مصيره العاطفي مع من تشاركه البطولة!! التلفزيون الآن يتدخل في تربية الأولاد، وتشكيل أخلاقهم ورزمة القيم والمبادئ التي ينهجونها في الحياة.
والتلفزيون وفي رمضان على وجه الخصوص، هو أهم شخصيات العائلة العربية، فهو وسيلة الزوج للتهرب من الحديث مع زوجته، أو مع أقاربها المدعوين على الإفطار، وهو وسيلة الزوجة لتناكف زوجها حين تقارن تصرفاته بتصرفات جمال سليمان أو حسين فهمي.. فيرتد اليه البصر وهو حسير!! وهو، أي التلفزيون، صديق المراهقات في البيت، إذ يجدن قصة يبكين عليها، ما دمن غير قادرات ان يبكين علانية فشلهن الغرامي، وهو أيضاً يصلح للأولاد الذين يرقبون بشغف طلة سلاف فواخرجي أو هند صبري، فيما الجد يوزع ضحكاته الفاقعة على "طاش ما طاش"!!
وعلينا أن نعترف أن التغير الأهم الذي أصاب العائلة العربية في العقد الأخير هو تنازل الأب طواعية عن منصب "رب العائلة" لصالح.. التلفزيون !!

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  إبراهيم جابر إبراهيم   جريدة الغد