من يتذكر الآن تلك الأيام من السبعينيات حين كانت أغانيها "الراعي الرسمي" لكل العلاقات العاطفية!
ذلك الوجه المتورد المليء بالصحة والعافية، والشامة الأشهر في بلاد الشام!
وصورتها التي على ظهر المرآة المدوّرة، حين كان الأب يحلق ذقنه، فنظلّ نحدّق في المرأة الطافحة بالحياة.. فيما يظنّ أن مهارته في الحلاقة هي ما يبهرنا، ويروح يستعرض سرعته أكثر، حتى يجرح وجهه.. فنتخيل المطربة تضحك عليه، ونصير نحن نضحك ونتمتم: "ريتني خيط بعباية، ريتني ببيتك مراية"!
كانت "سميرة توفيق" من ماركات ذلك الزمان مثل ساعة "سيتيزن"، وعلب "الناشد" على العيد، وكانت أغانيها عائلية، وعاطفية، وحماسية في الوقت ذاته.. وربما كانت هي الوحيدة التي استطاعت خلق هذه التوليفة العجيبة حين جعلت الأغنية العاطفية ذات إيقاع وطني!
وهكذا كان المراهق يزداد توترا واندفاعاً، والمطلّقة تنتابها اللوعة ويسرقها الحنين، والجندي يضبط خطواته إن سمع صوتها.. كأنما رغم أنوثتها كان لها في صوتها صرامة "المارش العسكري"!
هل قلتُ أنوثتها؟ .. نعم كانت "سميرة توفيق" أول امرأة تدرّسنا (شو يعني مَرة!)، وربما أول امرأة نرى رقبتها البيضاء وذراعيها عاريتين على الشاشة، أما غمزة عينها المعبأة بالغواية فكانت كافية لتعريفنا، في ذلك العمر الصبي، الشيء الكثير عن المرأة، و.. عنّا!
جيلنا ذهب في الحياة الى آخرها.. فعرف لاحقاً أن المرأة لم تتوقف عند ذراعي سميرة البضّتين، لكن جيلاً كاملاً من الآباء دوزن حياته في تلك المرحلة على إيقاعها الصاخب، بل إن "خطابها" الجريء جعلها تبدو وقتها من علامات الانفتاح الاجتماعي بشكلٍ ما.. حيث العاطفة لم تكن قد ابتذلت بعد على أيدي المطربات الغانيات وعريهن الجائع، ودلع سميرة في أغانيها كان خجولاً ومتردداً، ويحسب حساباً لمنظومة الأخلاق والأعراف السائدة في سنواتها.. الذهبية تلك!
كانت أغاني سميرة تدفع رجلاً لأن يحب، وامرأة لأن تبكي، وفتاة لأن ترفض خطوبتها، وطالباً جامعياً لأن يحصل على إجازة كاذبة، يقضيها يتمرغ على عشب الجامعة، بتقرير طبي مختلق!
أما الرجال الذين يدّعون الوقار، ويلبسون أقنعة التجهم المنزلي، ويديرون وجوههم عنها في البيوت امام بَحلقة الأبناء والبنات، فكانوا يسمعونها في المقاهي، ويتراهنون وهم يوزعون "ورق الشدّة" .. إن كانت غمزتها ستكون الآن، أو بعد آهتين، أم في "الكوبليه" الأخير.. فيما يقسمُ واحدٌ منهم أنها كانت لحظتها تنظرُ في عينيه مباشرةً!
وسميرة، بغضّ النظر، عن أصلها وفصلها، الذي فيه حكايات كثيرة.. كانت ابنة عمان، وكانت جزءاً من المكونات الثقافية التي تشكلّ وعينا بحضورها الطاغي، بل كانت تُعدّ في وقتٍ ما من مفردات التراث والفلكلور الأردني.
صديقة عائلية حميمة لبيوتنا، ولسهراتنا، ولا يخلو نهارنا الإذاعي، أو ليلنا التلفزيوني غير الملوّن، من صوتها وصورتها، وضحكتها الناعمة (الضحكة التي حين نقارنها بإثارة هذا الزمان نراها مثل ضحكات الجدّات الطيبات)!
...
والآن ونحن نعيش عصراً من الغناء صارت فيه حتى نجوى كرم ونانسي عجرم من كلاسيكيات الطرب العربي (وهما اللتان قذفناهما أول ظهورهما بالفجور والابتذال، ليتبين لاحقاً تقواهما وورعهما أمام روبي وشقيقاتها).. ربما صار علينا أن نعيد الاعتبار لسميرة، كواحدة من رفيقات الطفولة والصبا والشباب لأجيال عريضة من بلدنا، وكمفردة مهمة من تراثنا الغنائي، وخيطٍ ثمين "في العباية".. وربما علينا أن نحتفل بها بتقدير أكبر في مهرجاناتنا الفنية الوافرة، وبتكريم له وجاهته، مثل طابع بريدٍ يحمل صورتها أو شارعٍ باسمها!
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة إبراهيم جابر إبراهيم جريدة الغد