يعرف الصحافيون الميدانيون (بل ولطالما عانوا من ذلك) أن الخوف والتحسب من مكونات المواطن الأردني، فهو دائما مرتاب ومتشكك تجاه أي شخص يحمل ورقة وقلما أو كاميرا، وهذا يرجع إلى أسباب كثيرة لها علاقة بالمرحلة العرفية، وخشية المواطن من التورط في أي تبعات تنجم عن تصريحه برأيه تجاه أي مسألة أو مشكلة لها علاقة بمشاريع الحكومة وقوانينها وإجراءاتها.
ويبدو ذلك واضحا، أيضا، في إحجام المواطن العادي عن الانخراط في الأحزاب أو الجمعيات المختلفة، فهو لم يلمس حتى الآن ما يؤكد له أن ثمة ديمقراطية حقيقية تكفل له حرية الرأي. وأغلب المشتغلين الآن بالسياسة والنقابات والرأي العام هم فلول الأحزاب التي كانت تمارس هذا العمل قبل العام 1989، أما المواطن الذي كان نائيا بنفسه عن ذلك، والذي تحكمه اعتبارات (آذان الحيطان) و(حط راسك بين هالروس) فما يزال نائيا، يتجنب قدر الإمكان (وجع الراس) الذي قد يصيبه جراء الانخراط في العمل العام أو حتى التعليق برأيه تجاه أي مسألة لها علاقة بهذا الشأن.
أما جموع الناس، تلك التي تسميها النخبة بـ (الدهماء) أو (العامة) فلم يصلها بعد أن تغييرا حدث، أو ان انفراجا ما في هذه المساحة بات ممكنا، فالذي يحدث في طبقات المجتمع العليا (السياسة والإعلام ورأس المال) لا يصل للمواطن، وليست لديه أية فكرة عنه، وهو أصلا غير معني به ... وأعتقد أن ذلك من حسن طالعه وإلا لو فهم المواطن ما يجري في صفوف هذه الطبقات لازدادت نسبة الوفيات بالجلطة!
لذلك فإن المواطن لم يحدث لديه أي تغيير جذري منذ التحول الديمقراطي، فهذا التحول صدر عن نخبة سياسية واجتماعية وتلقته نخبة سياسية واجتماعية أخرى، ولم ينعكس بأي شكل على حياة الناس الذين زهدوا منذ زمن طويل في التدخل بالشأن العام، وبقوا على تحسبهم وارتيابهم من أي شخص قادم من خارج صفوفهم، فإذا طرق الباب موظف حكومي فهذا نذير رعب، ولطالما لمسنا ذلك في عملية إحصاء السكان أو حتى التفتيش على عدادات الكهرباء!
الصحافي وحامل الاستبانات وموظف المساحة يثيرون ارتياب المواطن الذي يعتقد بمجرد رؤيتهم أنهم إما يستدرجونه لشتم الحكومة، أو انهم في أحسن الأحوال يخططون لشق شارع جديد وأن بيته (رح يروح في الشارع)! مثلما كان سائدا في السبعينيات أن أي شخص أشقر يتجول في حي شعبي هو موظف إعانات دولية يتراكض الفقراء باتجاهه! ولك أن تسأل كم من المواطنين البسيطين وربات البيوت والعمال والأمهات يعرفون أن الصحف ليست دوائر حكومية!! وإذا عرفوا ذلك فلن يطمئنوا لمندوب صحافي مسكين، وإن اطمأنوا فهم يؤثرون السكوت والفوز بالسلامة متكئين على يأسهم التاريخي ورعبهم الموروث: مين أنا حتى أحكي؟ وعلى مين .... ع الحكومة؟!!! حتى ولو كان موضوع التحقيق عن المباعدة بين الأحمال والصحة الإنجابية!
لا أجازف طبعا بالحديث عن أميّة سياسية كاملة بين صفوف طبقات عريضة، فثمة بين الصامتين الزاهدين من هو على اطلاع واسع، ويتابع الأخبار جيدا، ويستطيع التحليل بشكل عبقري أمام زوجته التي تشكل جمهوره الوحيد، لكنه لا يأمن لأحد، ويؤثر طبقا لتربيته العتيدة أن رغيف الخبز و(السترة) هما أولويته الوحيدة، وأنه أبدا لن ينادي من يأخذ أمه إلا بـ(عمّه)، وهو في غاية الرضا، ما دامت أمه راضية! هذا المواطن، من هذه الشريحة، يخاف أن يذهب لأي انتخابات في الدنيا حتى لا يتهم بتعاطي السياسة، وتعاطي السياسة في الموروث العائلي كان يودي للتهلكة، وإن حدث وغامر بالذهاب للانتخابات فهو على قناعة مطلقة وبديهية أن لحيطان قاعة الانتخاب آذانا عريضة، وعيونا تبحلق في ورقته!! ... البعض المغلوب على أمره، والذي كان ينظر بغيرةٍ وحسد إلى الإعلان الشهير (قلة من الناس تدلل أبقارها كما يفعل الدنماركيون) .. صعبٌ أن تقنعه الآن أنه صار مدللاً أكثر من بقرة!
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة إبراهيم جابر إبراهيم جريدة الغد