مثل النمور الحبيسة، ومكسورة الخاطر... يعيش المئات من الناس في صحراء مُسيّجة تُقفل عليهم كل أول ليل بالمفتاح!
يغسلون وجوههم صبحاً، يشربون الشاي، يُصلّون على النبيّ، ويجلسون على باب الخيام، يتأملون في الرمل الأصفر الممتد... ويتساءلون: ما شكل الحياة أبعد من هناك؟!
لهم ملامح الناس... مثل الناس، ولهم أطفال، وذكريات، ومشاكل مع الزوجات، ولهم نفس عصبية الزوج حين ينقطع زرّ القميص، وتذمر الابنة الكبرى حين يفرغ مرطبان السكّر، وتأفف العجوز النائم في الشمس من حدّة الشمس، والجدّة التي تكحّ منذ الصباح حتى تجرّح صدرها، والفتى الذي كبر هنا في ارض القيظ صار رجلاً ويفكّر: خيارات الزواج هنا قليلةٌ!
والأولاد الذين يملأوون المخيم شغباً وشيطنةً لا يكفّون عن السؤال: بابا إحنا ما إلنا بلد؟
والمعلم المتطوع يصرخ بصوتٍ عالٍ حتى يسمعه أولاد الصفّ، أولاد الخيمة، أولاد الحظ السيئ: يبلغ عدد الدول العربية اثنين وعشرين دولةً بعد انضمام جزر القمر!
تتساءل امرأة ساذجة بجوار الخيمة وهي تقشّر البصل مع جارتها التي تُلقّط الشعر من حاجبيها: ما شاء الله (صِرنا) اتنين وعشرين دولة؟!
الأطفال الذين أنجبتهم الحرب منذ ستين سنة، ورمتهم للمنافي، كبروا وصاروا عجائز، تداولتهم الحروب، وأنهكتهم الهجرات... وصار للأحفاد أولاد يعلّقون في أعناقهم خريطة بلدٍ يرونه في نشرات الأخبار!
ومثل أفعى تتلوّى خلف خطاهم لاحقتهم الحروب في منافيهم وشتاتهم، وفي المطارات، وفي قصصهم التي يروونها لصغارهم قبل النوم، وصار لزاماً عليهم أن يدفعوا كُلفة أي حرب، حتى وهم مجرد ضيوف على أهلها!
وصاروا لاجئين من حرب لا يعرفون أسبابها، هاربين من عدوٍ لا يعرفون وجهه، ومن كراهية لم يخططوا لها، ومن ثارات لم تكن، أبداً، في شهادات ميلادهم!
ها هم الآن على قارعة بلدان شقيقة، في مخيم بلا جدران يعلّقون عليه شعاراتهم، وبلا حيطان يكتبون عليها كعادة المخيمات: "فلسطين عربية"!
ولد صغير يُعلّق في عنقه خريطة كندا، ورجل عجوز يلّف دخّاناً رخيصاً، وامرأة تقنع جارتها بوصفةٍ مضمونةٍ للحمل، ومراهقةٌ معجبةٌ بموظف "كالة الغوث" الأشقر... وهكذا، هكذا يتكاثر سكان المخيم عن غير قصد!
لا أحد يفهم كيف صار هؤلاء الناس هنا، كيف أنجبتهم الصحراء في ليلة ماكرة، وأين اختفت ملابسهم ومفاتيح بيوتهم ووظائفهم وصابونهم وشايهم وملحهم و... كيف وُلد لهم عدوٌ من حرب لا تخصّهم، ولماذا هم وحدهم من دون الناس يخسرون في كل حربٍ تحدث... حتى لو كانت في برنامج وثائقي على التلفزيون!
هنا لا يعرفون ماذا يعني الربح، وماذا يعني أن تكسب الحرب؛ لأنهم  طردوا من الجنتين، وأياَ كان الذي سيكسب الحرب فهم بالنسبة له "ضيوف ثقال الظل"، غير مرحب بهم، وزيارتهم لا تؤنس أحداً من أصحاب البيت أو... محتلّيه!
... وهم آخر الأمر، ينضافون لقائمة طويلة من الذين طُردوا من المنفى فصاروا يطالبون بـ"حق العودة" إلى المخيمات!
هم مثل كل اللاجئين، عبء على الضمير القومي، وعقبة أمام الأعياد الوطنية، وهم من ينغص على الهانئين مواسم الاحتفالات ونقاء الهوية!
والعيد لا يمرّ بالطرق الصحراوية، لهذا لم يقل أحدٌ لأحدٍ في "مخيم الوليد": كل عامٍ وانت بخير!

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  إبراهيم جابر إبراهيم   جريدة الغد