تسببت صناعة "التلفزيون" بأمراض كثيرة لدى المشاهد؛ مثل القطيعة العائلية، وانقراض عادة القراءة، وبلادة المشاعر، واعتياد الوحدة.. والمقصود هنا الوحدة الغبية لغايات البحلقة بالشاشة مع التهام الشيبس والكاجو، لا وحدة التأمل والتفكير.
هذا على صعيد ما أصاب المشاهدين أمام الشاشة، أما ما أصاب المذيعين والمغنين ومن هم أمام الكاميرا، فأخطر وأكثر تشويها، وله علاقة بمرض الشهرة!
إذ ليس مفهوماً أبداً ما قاله جورج قرداحي، هذا الأسبوع، لصحيفة عربية، باستعراضية فجة "أنا وأم كلثوم نمثل الإجماع العربي الوحيد على مدار التاريخ الحديث بأكمله". فأية ثقة يحتاجها مذيع برنامج مسابقات ليتجاهل جمال عبدالناصر وفيروز وناجي العلي وإدوارد سعيد ونجيب محفوظ وسعاد حسني ومحمود درويش وغسان كنفاني ودريد لحام وعادل إمام وووو... ويعلن نفسه أهم من كل رموز العصر العربي الحديث، لمجرد ربما أن بضع نساء سطحيات طلبن أن يتصورن معه، أو أن بضع مراهقات ضحكن له في المصعد!
هذا نفسه مرض مروى أو روبي أو هيفاء وهبي التي تعتقد أن مؤخرتها اللينة أهم من أدمغة فاروق الباز وأحمد زويل، والتي ظلت تعتقد أن كل أصحاب "رجب" مهووسون بالتحرش بها، وخيانة صاحبهم، لأجلها، فناشدته في أغنيتها التاريخية التي سيتذكرها العرب على مر التاريخ بأن ينتصر لها و"يحوش" صاحبه عنها!
فكرة النجومية في الوطن العربي صارت تلقائياً تحيل للشعبوية، وللغث من الأشياء دون السمين، ولرخيص السلع، لا ثمينها، والجماهيرية أصبحت رهناً بالانتشار الواسع مع أن الانتشار لا يعني الإيجابية بالضرورة.. فالنكات البذيئة هي الأكثر انتشاراً بين الناس!
حتى صار البعض يعتقد أن اجتماع الناس حول أي شيء يعني إجماعهم، مع أن الناس قد تجتمع في الشارع على حادث سير أودى بقطة، أو تلتمّ وتتجمهر على فضيحة!
والمرض الذي يصيب بعض هؤلاء المغنين أو المذيعين، ويجعلهم يتصرفون دائماً كبشر من نوع خاص أو فصيلة متفوقة على الناس، سببه الناس أنفسهم حين يعلون من شأنهم، ويصفقون لهذرهم ويندهشون بسخافاتهم ويفتتنون بأشياء عادية جدا يفعلونها.. فالمطربة في الأستوديو تقول للمذيع "أنا أصحو عادة في العاشرة صباحا" فيضج الاستوديو بتصفيق الجمهور... رغم أن هذا الجمهور الساذج أغلبه يصحو في العاشرة صباحاً، لكن لا أحد يصفق له!
هنا المصيبة، حين تصير أشياء هؤلاء النجوم وتفاصيلهم العادية أو الأقل من عادية.. خبراً مدهشاً يصفق له الناس، فالنجم في الاستوديو يمكن أن يقول: أنا امبارح كنت تعبان شوية ومصدع... وقبل أن يكمل يفاجأ بمئات من الحمقى يصفقون، لا يعرف ولا يعرفون لماذا، لكنهم يستجيبون للمخرج الذي عقد معهم الصفقة قبل دخولهم، والتي تقضي بأن يظلوا على أهبة التصفيق بانتظار إشارة من يده!
فكيف تصير الأمور إذاً حين تقوم شركات إعلام وفضائيات بتضخيم هؤلاء "النجوم"، وبذل كل ما يمكنها لزيادة "تنجيمهم"، وتسويقهم، فتصنع لهم عطوراً بأسمائهم، أو برامج عن حياتهم فتلاحقهم بالكاميرا في المطبخ والحمّام وتظهرهم كيف يتصرفون برأفة وحنان مع الخدم والشغالين!
القصة في جمهور عربي صار كله جاهزاً، وعلى أهبة أن يفعل أي شيء، إذا ما ارتفعت بالإشارة يد المخرج!
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة إبراهيم جابر إبراهيم جريدة الغد