ربما كان من السهل كتابة عبارات عاطفية تمجد صمود غزة، وتمتدح "انتصار" الدم على السيف، وتصرخ وتستنكر حتى يسيل الزبد من بين شدقي المقالة!
ذلك أن الكثيرين لا يريدون رؤية الحقيقة كاملة، ويفضلون الخيار المريح الذي يعود بالجماهيرية، ويستجدي تصفيق السذج من الناس، فليس أسهل من صف الشعارات جانب بعضها، واستخدام مفردات مبحوحة ومهترئة، عن النصر والصمود، والبطولة، في حين أن الذين يسقطون هم من طرفنا فقط... فكيف نحن إذا من صمد ومن انتصر ومن قاوم ؟!
هل ثمة من يزعم أن هناك مقاومة الآن في غزة؟
تساءل أمين عام الجامعة العربية عن "الرقم السحري" الذي يجب أن يصل اليه عدد الشهداء ليتحرك مجلس الأمن لاتخاذ قرار بوقف العدوان !
وكان عمرو موسى يتحدث وكأن "اسرائيل" ستنصاع من لحظتها للقرار، وتلمّ سلاحها وتعود أدراجها، وكأنها لم تضرب عرض الحائط بعشرات القرارات السابقة من هذا النوع.
لكن السؤال الذي لم يسأله أحد هو ما الرقم السحري، أيضاً، الذي يجب أن يبلغه عدد الشهداء، لتتحرك حماس وتنفذ تهديدها ووعيدها الذي نسمعه على الفضائيات يوميا، بأنها ستزلزل الأرض تحت اسرائيل، وستجعلها تندم على حماقاتها، وأنها ستحرق وتدمر وتقتل وووو... فماذا تنتظر حماس ؟!
اذا كانت الحركة الاسلامية تمتلك فعلا أسلحة قادرة على فعل ذلك، ولا تستخدمها، فتلك مصيبة تصل حد الخذلان لكل هؤلاء الشهداء.. لأنها لو استخدمتها لاستطاعت صنع نوع من توازن الرعب ودفعت المعتدي لإعادة حساباته، ولتناقص عدد الذين يموتون كل يوم.
أما اذا لم تكن تملك أسلحة قادرة على ذلك، فتلك المصيبة الأعظم، والخذلان الأشد، فهذا الانفاق السخي يوميا من التهديدات بحرق اسرائيل هو الذي يعطيها الذرائع أمام العالم لحرق الناس والأطفال والبيوت والأشجار!
فكيف تزج الحركة بشعبها الى هذه المذبحة، ثم تختفي فجأة هي وقادتها، تحت الأرض، كعادتها في كل قصف او اجتياح، فلا نرى سعيد صيام ولا الزهار ولا غيرهما، الذين كانوا يظهرون بكثافة أيام الصدامات الأهلية !
(أثناء كتابة هذه المقالة فوجئت بسامي ابو زهري يخرج على مشاهدي الفضائيات من دمشق التي لا نعرف متى وكيف استطاع الوصول اليها)!!
أما الحديث الغريب عن "الانتصار" الذي ستحققه الحركة في هذه الحرب فهو حديث لا يرقى الى مستوى العقل، ولا يخاطب سوى السذج، أو الذين يتعامون عن الحقيقة، فأي انتصار والشهداء وصلوا الى حوالي 400 شهيد ولم تقتل صواريخ حماس سوى اثنين او ثلاثة أولهم كان عامل بناء عربي من أهالي ال 48 !!
إلا اذا كانت حماس تطبق النظرية العربية القديمة القائلة بأن الحرب لا تعد خاسرة، حتى لو مات كل الشعب، ما دام قد سلم رأس النظام، وهو ربما ما أشار اليه صراحة اسماعيل هنية في ظهوره الوحيد أول أيام القصف حين قال: "سنصمد ولو أبيدت غزة كاملة، وسننتصر"!! فأي انتصار الذي يقصده ؟ وماذا سنفعل بغزة إن صارت مجرد مقبرة كبيرة للشهداء؟! لعنة الله على الأوطان إن كانت مجرد تراب وأرض خاوية ينعق فيها الناطقون الإعلاميون!!
ثم لماذا تشتم حماس الأنظمة العربية، وتوزع الاتهامات يمينا وشمالاً من دون وعي إذا كانت لا تفعل أكثر منها بكثير؟ ما الذي فعلته حماس في هذه الحرب ونحن اليوم في نهايات اسبوعها الأول تقريباً ؟ أكثر من خمسين صاروخا قتلت اثنين أو ثلاثة مقابل 400 شهيد وألفي جريح ومئات البيوت المهدمة وخسائر اقتصادية بالملايين؟
ما الحكمة من ذلك؟ وما معنى الصمود عند هذه المجموعة من خطباء المساجد الذين يتولون ادارة حرب؟!
ما تعريف الانتصار وما تعريف العمل الوطني وما تعريف المقاومة؟ وهل لو توقفت الحرب غدا ستقيم حماس احتفالاتها بأنها انتصرت وأن اسرائيل لم تحقق أهدافها؟ هل الأهداف الثمينة فقط هي رؤوس قادة الحركة والى الجحيم بكل اؤلئك الأطفال والطفلات والنساء والشباب الذين استشهدوا؟!
هل فعل خالد مشعل ما عليه واكتفى حين خرج في اليوم الأول للمجزرة على قناة الجزيرة فألقى خطبة عصماء وجه فيها الناس كيف يموتون، وألقى تعاليمه الرشيدة بالصمود حتى موت آخر غزاوي، وبدا مشعل في تلك الليلة أشبه بالملقن الذي يقف فوق رأس الميت عند القبر، قرأ حشدا كبيراً من الأحاديث النبوية والآيات القرآنية حتى تطاير الزبد من فمه، ولم يقل كلمة واحدة يمكن أن تنسب لما يسمى بـ "السياسة" !!
ربما هكذا يرضى عنه شيوخ طهران، طهران التي لا نعرف أيضاً متى ستحرق ما كان قبل سنوات نصف اسرائيل، ثم صار ثلث اسرائيل، ولا نعرف كيف تجرؤ العاصمة الايرانية على مهاجمة الدول العربية في تصريحاتها، وهي التي تملك أكبر ترسانات السلاح الحديث في المنطقة، وهي التي تجاهر ليل نهار بأنها ستزيل اسرائيل من الوجود، .. (على الأقل العرب لا يزعمون أنهم بصدد ذلك) !
فما الذي تريده حماس من هذه الحرب؟! برأيي أن هذه الحرب تخاض لأجل شخص واحد فقط هو خالد مشعل الذي أصيب بوسواس، أو هاجس، أو عقدة اسمها حسن نصرالله، وظل لوقت بعد حرب تموز يقلده بالشكل والحطة على الكتفين، وحركات اليدين، والمفردات والعبارات، ثم لم يقتنع فأراد أن يخوض حربا مشابهة، بحثا عن "نجومية" مشابهة، حتى لو دفن بيديه مليونا ونصف المليون فلسطيني!!
الطريف في الأمر أن حماس تتصرف في بياناتها ومؤتمرات ناطقيها الإعلاميين كأنها فوجئت بردة فعل النظام الرسمي العربي، وكأنها كانت تتوقع جيوشا جرارة تهب لانتشال الحجر الذي رمته هي في البئر، بينما لم تفعل هي أي خطوة سوى ما فعلت الأنظمة، بل تفوقت على العرب الرسميين ببيانات الاستنكار والاستهجان والتهديد الصاخب.
أما الذين ينادون بانتفاضة فلسطينية ثالثة، مثل حسن نصرالله، فهم لن يدفعوا قتيلاً واحداً من عائلاتهم أو تنظيماتهم لو اندلعت انتفاضة جديدة مات فيها آلاف الفلسطينيين، ولن يخسروا سوى ثمن الورق الذي يتلو منه بيانات الشجب والتأييد !
رغم أن حسن نصرالله لم يعد مقبولا منه أو كافياً أن يناشد غيره التدخل، مثل أي مواطن عربي، بعد أن صار تحت إمرته من الصواريخ أكثر مما لدى بعض الدول العربية، وبإمكانه أن يبادر فورا الى فعل ما يطالب به غيره، إلا اذا كانت حساباته الآن غير مواتية، ومن حق غيره إذا أن يتذرع بالحسابات، فما الذي اختلف؟!
ثم لو بادرت مصر الليلة، وفي حالة الحرب هذه، إلى فتح المعبر دون أي سلطة رسمية عليه من الطرف الفلسطيني، وتركته رهن العشوائية ومشرعا لجموع الناس، الذين سيجدون بوابة ضخمة مفتوحة أمامهم للهروب من المجزرة ، فكم فلسطيني سنجد في غزة صباحاً؟ أجزم أنه لا أحد !
وسنكون أمام موجة نازحين جديدة تعيد للأذهان سنة الـ67 أو الـ48، وأمام غزة فارغة ومشرعة لاحتلال سهل.
فلأجل من يموت الغزّاويون الآن ؟!
أرجوك لا تقل لي من أجل فلسطين.
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة إبراهيم جابر إبراهيم جريدة الغد