قال صاحبي: ولدتُ لعائلة كان ابناها مقاتلين، فبقيتُ لسنواتٍ طويلةٍ أعتقدُ أن "منظمة التحرير" هي أبي!
ضحكتُ بمرارةٍ، واستزدتْ: طيب..؟
فأكمل بلهجة من يرثي أحداً: موجعٌ أن ترى أباك عاجزاً حتى عن قطع الشارع الى "بيت المسنين"، وأنت تقوده من يده، وعينه الضريرة!
صفنتُ في رثاءِ صاحبي لـ "أبيه"؛ لا بدّ أن مرارات كثيرة ذاقها هذا الأربعيني، ليكتشف الآن.. لكنه قاطعني بحكمة العارف بما أفكّر: لم تكن خديعةً يا صاحبي..هذا ما يؤلمني، أنها لم تكن خديعة!
كانت حلماً أسطورياً تعاونّا، كلٌ بما استطاع، على تحطيمه، وأقمنا له ضريحاً فاخراً، يليق بشعورنا بالذنب!
وحيث يجبُ البكاء، ضحكتُ ثانيةً، من هذه الرومانسية الوطنية، وتساءلت: ألهذا الحد تشعر باليتم؟
فقال: بل أشعر بالعلقم في فمٍ لطالما تكدّس فيه طعمُ السكّر!
حدّقتُ في عيني صاحبي، القادم من تاريخٍ مدجج بالخيبات، فأرخى عينيه وتمتم: لم يعد هناك رجال بذلك المعنى.. أحسُّ ظهري عارياً تصفعه الريح وتسلقه الشمس!
ماذا ترى الآن؟ سألتُه!
سارع للقول كأنما يشتهي أن يُنزل حملاً أنقض ظهره: الفصائل صارت أكثر من "المولات"، لكن الوطن تناقص، حتى لو أن الشهداء وحدهم عادوا اليه لما وجدوا مواقف تكفي لسياراتهم!
"فتح" التي فقدت "ختيارها" تشبه أمّاً عجوزاً نسيت أسماء أحفادها، وأضاعت "دفتر العائلة"، و...لم يبق سوى بضعة أبناء يتنازعون على البيت الذي يفكرون في بنائه!
فإذا استثنينا "السلطة" التي ليست أكثر من مجمع دوائر حكومية، لا يعرف موظفوها لأي دولة يتبعون، فأين "فتح"..أين مؤسساتها، أين خطابها، أين مسؤوليها، أين برامجها، أين موقفها من الذي يجري؟!
"السلطة" ابتلعت "فتح".. وكان يمكن أن نفهم لماذا، لو أنها استطاعت هضمها، لكنها غصّت بها، فتوشك أن تقتلها ... لتعيش!!
أما "الشعبية " التي فقدت "حكيمها"، فلم يبق منها غير فلكلور سياسي: بعض المطرّزات وبعض الكتب بأغلفة حمراء، وتراثٌ من الأغنيات، يذكّرنا دائماً بابراهيم نصر الله وفرقة بلدنا، وبعض الصبايا اللواتي قضين العمر يشربن القهوة المرّة والسجائر،.. ونقاء ثوري لا يفهمه أبناء الـ "دي. في. دي" الذين لا يعرفون أن موسكو كانت يوماً ما هنا.. جارةً من "دول الطوق"، و"عواصم الممانعة"!
و"الديمقراطية" أمدّ الله في عمر زعيمها، الذي اكتفى بعد رحيل رفاق العمر (الأصدقاء والخصوم الذين كانوا ضروريين للحياة)، بأن يعيد صياغة النظريات، وقراءة الصحف، والتأمل في قميص الفوتيك.. الذي تعبت في مراده الأجسام!
وتنهد صاحبي: لم يبق من "المنظمة" العتيدة غير فندقٍ فارغٍ إلا من بعض النزلاء الذين تأخروا على طائراتهم، غابة البنادق صارت حديقة للطيور الأليفة المستأنسة!
...والسلطة؟! سألتُه!
"السلطة" يرأسها رجلٌ لينٌ متسامح يصلح رئيساً بعد عشرين سنة، عندما يصير لدينا قصرٌ جمهوري!
...
طيّب يا صاحبي !! هذا "ما تبقى لكم" فأين ترى "حماس"؟!
حماس لديها مشكلةٌ طريفة: تريد مجد المنظمة بأثر رجعي، وتريد أن تظل جالسةً على سدّة الحكم فوق الشجرة، دون أن تعترف أن هذه الساق السميكة التي صعدت عليها هي "أوسلو" النجسة!
"حماس" تريد أن تقنعنا بأن حكومتها شرعية فيما الذي كلّفها بتشكيل الحكومة غير شرعي!!
وأن ولايته انتهت فيما ولايتها مؤبدة كولاية الفقيه!!
ثم لماذا صار الآن حراماً في الإسلام إطلاق الصواريخ من القطاع؟ ونشر مئات من "رجال المقاومة" لمنع ذلك؟!! رغم أن هدفاً واحداً من أهداف اطلاق الصواريخ لم يتحقق: لا رُفع الحصار، ولا فتحت المعابر، ولا أطلق الأسرى!!
إذاً.. ما الثمن الذي قبضناه من حرب غزة، أو "صمود" غزة، مات الناس بالآلاف، وتهدمت البيوت، والأنفاق، واشتد الحصار، وآلاف يسكنون الآن في خيام فوق ركام بيوتهم، ما الذي تحقق؟ بقي رأس مشعل سالماً؟ الحمد لله.. الحمدلله.. الحمدلله!!

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  إبراهيم جابر إبراهيم   جريدة الغد