كنتُ أتمنى أن احتفظ في الذاكرة بتلك الصورة الساحرة لنبيلة عبيد في فيلم "الراقصة والسياسي" أو فيلم "كشف المستور"، كصورةٍ أخيرةٍ لها، وأن لا أراها كما بدت عليه في دبي الأسبوع الماضي في زيارة خيرية لمركز للمعاقين، مثل جدّةٍ مريضة ومتصابية، وتمنعها عمليات الشدّ في وجهها أن تضحك، ولو ضحكة صغيرة جداً، وهي التي كانت صاحبة أوسع وأجمل ضحكات السينما العربية.
أسوق ذلك وانا بصدد الحديث عن الصورة الأخيرة لمحمد حسني مبارك في محاكماته البائسة، وخلال تنقله من عربة الإسعاف الى القفص فالمستشفى فالسجن، حيث بدا لا تُهمّه أبداً صورته الأخيرة لدى الشعب الذي حكمه لأكثر من ثلاثين سنة! وليست تعنيه بحالٍ من الأحوال "الصورة" التي صنعتها، أو لفّقتها، له قبضتا الأمن والإعلام طوال تلك العقود. (ربما لأنه بداخله يعي جيداً انها ليست صورته فعلاً!).
وبدلاً عن تقديم صورةٍ أخيرةٍ تليق بجبروته، وتحفظ ماء وجهه في كتب التاريخ، ظهر مبارك بشكلٍ طفولي ومرضيّ، مُصرّاً على الابتزاز العاطفي لمشاهديه، متوسّلاً - بظهوره على السرير- الشفقة والعطف، رغم ان التقارير تقول ان بإمكانه الركض وليس فقط المشي، وكان بإمكانه في أسوأ الأحوال ان يجلس مسنود الظهر على كرسي متحرك ببدلة رسمية، لكن مبارك الأدرى بالتركيبة المصرية وبالروح المصرية ربما كان يتوقع انه بالشكل الذي ظهر به، سيؤثر في ردّات فعل المصريين، ويخاطب جوّانياتهم. ومن الظلم ربما هنا ان نقارن بين الصورة الاخيرة لمبارك والصورة الأخيرة لصدام حسين (سواء اختلفت معه او اتفقت)، حين بقي مبتسماً رافع الرأس مشدود الظهر بمشهد رجولي لا ينكره أحد ولم يشبهه فيه أحد، او الصورة الأخيرة لياسر عرفات الذي كان مبرراً له او متفهماً لو ظهر مودعاً شعبه من فوق سرير، لكنه تعالى على مرضه ووقف على باب مروحيةٍ وهي تطير ملوّحاً بصلابة رغم هزال جسده.
وهو ما يعيد للأذهان تلك المقولة الفذة لعمر المختار، أوّل من أسّس لوقفات الشموخ والعنفوان، على منصّة إعدامه، حين قال (إيّاك أن تنحني مهما بدا لك ذلك ضرورياً، فقد لا تأتيك الفرصة لأن ترفع رأسك مرةً أخرى).
لا أحد سيكون معنيّاً بك، أو بصورتك الأخيرة، حين يكون الأمر شخصياً وخاصاً، مثل صورتك الأخيرة وأنت تنهي علاقة عاطفية، أو شراكة تجارية، أو وأنت تستقيل من عملك في مؤسسة، لكنك حين تنهي حكمك لشعب وبلد عمره سبعة آلاف عام، تكون ملزماً ان تقف على رجليك، على الأقل حاول أن تثبت جدارتك بأثر رجعي، بأنك كنت تستحق أن تكون حاكماً لهذا البلد، لكن الصورة كانت تدعو للرثاء حين قالت التقارير إن آخر ما أبكى (الزعيم) في المستشفى هو إصراره على فتح التفزيون، وصراخه كطفل مدلّل كما قال ممرضون (انا عاوز التفزيون يعني عاوز التلفزيون)!!
من زاوية قراءة أخرى، ربما لا نستطيع أن نُحمّل الرجل اكثر مما يحتمل، ففي الغالب ما يصلنا من صور الحكام ليست صورهم، بقدر ما هي صور تصنعها فعلاً قبضتا الأمن والإعلام.. وتصنعها أيضاً رغبتنا بأن يكونوا كذلك!
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة إبراهيم جابر إبراهيم جريدة الغد