يقول المخرج الألماني المغمور ماينز بيتر لوغاه، (الذي اشتغل ثلاثة أفلام وصفت بأنها الأكثر دقّةً في التاريخ في وصف التضليل، وتوفي في الثلاثين من عمره): وضعتُ هذه الأفلام لوصف بلادي التي تنتجُ إعلاماً ليس أقلّ تضليلاً من ذلك!
أفلام لوغاه الثلاثة التي وضعها معاً على شريطٍ واحد، ولم تتجاوز مدّتها معاً دقيقتين ونصف، تُصَوّرُ سرب نملٍ أحمر يحاول التصرف وسط عاصفة من الرياح التي تُطوّحُ به، .. وفي آخر المشهد تتكشّف يدُ المخرج التي تمسك بمروحة كهربائية تترصَّدُ سرب النمل فتوجّهُ طريقه!
ليس أقلّ من ذلك ما يحدث الآن في الشارع العربي. وليس أقلّ ترويعاً!
مع فارق أن كل مواطن صارت بيده مروحته؛ ولم تعد لعبة المخرج تقتصرُ على شخصٍ واحدٍ فقط؛ فالكلُّ يتوق للدور، والكُلُّ لديه فكرته التي يريد ان يدفع سرب النمل باتجاهها.
وهنا؛ أقصد في المراحل التاريخية الفاصلة في تاريخ الدول والشعوب، يقفز أصحاب المواقف والسياسات والأيديولوجيات على ظهر الإعلام، فينشئون خطابهم الباهر، الذي يجد تربة صالحةً وطريّةً للنموّ، حيث كلّما سادت البلبلة وانتشرت الأسئلة صار سهلاً أن تبيع أفكارك مهما بدت غرابتها؛ حيث يرحّبُ الناس بالاجابات أيّاً كانت، على أن يظلّوا نهباً للأسئلة.
ويحدث التضليل هنا؛ في المجتمعات المصابة بيقينياتها، ووسط الناس الذين تعرضت حتى البدهيات في حياتهم للتشكيك؛ فصاروا يحتفلون بأي معلومة تقودهم؛ دون أن ينتبهوا لليد التي تمسك المروحة، والى أين يسوقهم الهواء الكهربائي الذي تصنعه المطابع والفضائيات والأدمغة مدفوعة الأجر!
وهكذا يصعد السياسيون، أيضاً، إلى مقعد فاخر لهم في العربة، حيث الجو يصير مواتياً لحشد الأنصار، و"صناعة الجمهور"، وترديد الخطاب على الناس مرة تلو مرة، ويختار الناس في مناخ كهذا ما هو أقرب لتطمين قلوبهم أكثر من مخاطبة عقولهم، حيث يفضّلون الحلول الجاهزة والوعود الخلّبية مثل الجنة والحور العين ووضع حد أدنى للرواتب وتحرير فلسطين!
ويُفضّل السياسيون وأصحاب الإعلام غالباً الناس التي لا تودّ إشغال عقلها، وتفوّضهم بالتفكير بدلاً منها، وتنتظر منهم الإجابات المريحة والسهلة وغير المُكلفة. فيعمدون الى تقديم الإجابات التي تخدم سياساتهم، والمحشوة بسموم مختلفة وذات مذاق حلو، ومن البدهي القول إن أكثر مادتين تستغلان أبشع استغلال لهذه الإجابات هما الدين والأوطان!
حيث ينتظر الفقراء الذين يعيشون في جحيم حقيقي غالباً فكرة الوطن بانشداه وأفواه مفتوحة انبهاراً، لأنه يعني ببساطة في أذهانهم صورة بيت جميل تتوفر له الماء والكهرباء وشبكة الصرف الصحي والشبابيك المشمسة، وحين يشعرون بصعوبة ذلك يفكرون بالجنة كبديل يصعب إحباطه او التجرؤ عليه!
وهكذا تكون المجتمعات المصابة جاهزةً لنقل او زراعة أي فكرة أو خطاب.
وهكذا بالضبط يحدث التضليل؛ ومن إحدى مدارسه الشهيرة أنك لكي تكسب تصديق الناس لاحقاً لمعلومات أكثر أهمية تريد دسّها في رؤوسهم يمكنك أن تبدأ بمعلومة بريئة ولا تلفت الانتباه؛ مثل أن تبدو عفوياً تماماً وأنت تبدأ مقالتك بالحديث عن سرب نملٍ مُختلق، ومخرج ألماني غير موجودٍ بالمرّة يُمسك بيده مروحة كهربائية مُتخيَّلة ... الخ!
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة إبراهيم جابر إبراهيم جريدة الغد