في الوقت الذي تسعى دول متقدمة الى إقامة مدن سكنية على كواكب أخرى، وتسيير رحلات الى المريخ، يعيش الكثيرون في ماضوية مقيتة، تتكئ على الاستعانة بالموتى!
الكسالى، عديمو الفائدة والمخيلة، يصرّون على استحضار أمجاد قديمة وبالية، بحجة أنها من إنتاج أجداد عظيمين، ويعلقونها على شكل تعاويذ، وحكم لا يأتيها الباطل من أي جهاتها، وأنا لا أفهم حقيقة أن الجينات يمكن أن تتعرض لطفرة مفاجئة الى هذا الحد؛ بحيث نصدق أن ثمة أجداداً عباقرة وفاتحين أنجبوا أجيالاً من الناس تقضي وقتها في التثاؤب ومضغ ما ورثته من حِكَم ومواعظ، بدون أن تجرب مرة وضع هذه الحِكم على الأرض!
يتعامل العربيّ المعاصر مع ما ورثه من تاريخ بتبجيل زائف، واستعراض يخدم صورته هو عن نفسه لا الصورة التي يريد تسويقها للتاريخ، ويتفرغ الآن لنسخ التاريخ كله على شكل "بطاقات معايدة"!
لا أحد ضد توقير التاريخ، خصوصاً الفترات المضيئة منه، على قلّتها، لكن الاختلاف في آلية ذلك، والاختلاف أيضاً على المدرسة الساذجة التي تنتشر عربياً والتي أهم سماتها وجود جيل واسع وعريض اعتمد في ثقافته على أذنين كبيرتين، جيل يحفظ سماعياً بدون أن يقرأ!
هذه الظاهرة، التي طبعت الكثيرين، وتنتشر في الشارع العربي، تروّج لمقتطفات من التاريخ العربي القديم والحديث، اجتزئت بدون تدقيق، وحُملت على ظهور مرحة بدون التوقف أمام سياقاتها الحقيقية، أو وظائفها البلاغية، فتجد في السوق مقولات ثمينة منذ امرؤ القيس والمتنبي، الى رفاعة طهطاوي ومحمد عبده، الى غسان كنفاني وطه حسين، (الى أحلام مستغانمي وواسيني الأعرج كأهم منظري الرومانسية العربية في العقد الأخير!!)، تساق في كل كلام، وتورد كحديث صالح لأي مقام، حيث المهم هو أن يبدو الحاكي كشخص حصيف، ومثقف، وحافظ!
لكنَّه، ورغم استخدام أدوات حديثة في نشر هذه المقتطفات، والنتف الشعرية والفلسفية، مثل "فيسبوك" و"تويتر" وغيرهما، إلا أن المحصّلة تقودنا لتذكّر تلك العبارات الملوّنة على ظهور سيارات الأجرة، وذيول الباصات،.. حتى لو اختلفت أهمية وثقافة المحمول، لكن الحامل يتشابه!
ويتبدى سقم الحال أكثر حين يرمي هؤلاء بكل همّهم ومصائبهم على عواتق الموتى، فيتسابقون الى الصراخ عليهم ومناداتهم، ليحرروا البلاد، أو يقيموا الدين، أو ينقذوا الفن، وهو تسليم واضح بفشل الأحياء، وعجزهم، وانفصالهم عن الواقع ليعيشوا في جزر الخيال الفسيح، محتمين بفرسانٍ تعفنوا تحت التراب، وبأمجاد واهية ومشكوك فيها، وبخطاب ينفضون عنه الغبار ليليق ببطاقات معايدة لامعة!

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  إبراهيم جابر إبراهيم   جريدة الغد