وأخيراً صدر قانون الصوت الواحد المشؤوم، بذات الصيغة التي وضعتها السلطة الخفية، وقررتها السلطات الظاهرة، الحكومة ومجلس الأمة، مع توجيه من جلالة الملك برفع عدد مقاعد دائرة الوطن.

 

ووفقاً لصيغة القانون الذي صدرت به الإرادة الملكية، فإن النظام الانتخابي في هذا القانون، يقوم على أساس تشكيل مجلس نواب من (108) عضواً يتم انتخابهم على أساس الصوت الواحد، من خلال دوائر انتخابية ضيقة نص عليها جدول الدوائر المرفق بالقانون، و (15) مقعداً للنساء، و (17) عضواً يتم انتخابهم على أساس القوائم المغلقة على مستوى الوطن.
 
ورغم الأصوات التي بُحّت وهي تعلن اعتراضها على نظام الصوت الواحد المكروه شعبياً والمطالبة بإلغائه من قِبل مؤسسات المجتمع المدني، وأطياف المجتمع الحضري والقروي، وأهل البادية، وأصحاب التوجهات السياسية جميعاً، إلا أن أحداً لم يسمع.
 
والسبب، أن السلطة الخفية هي التي تفرض وتأمر وتنهى، وعلى الجميع أن ينحني، وليذهب الشعب ومطالبه بعد ذلك إلى الجحيم. والويل كل الويل لمن يحاول أن يعترض أو يحاول التنبيه للخلل، إذ عندها ستنطلق عليه الثيران البشرية لتنطحه فجأة، بأمر من السلطة الخفية، قبل أن يتمكن من التلويح لها بقطعة قماش حمراء لتجنب خطر تلك الثيران الهائجة. والمؤلم حقاً، هذه الدرجة من الاستخفاف الذي تمارسه السلطات الظاهرة بحق الأردنيين، ذلك أن هذه السلطات، لم تتورع عن ممارسة دور المخرج المسرحي الرديء، أمام سمع الشعب الأردني وبصره، عندما طلبت سماع ممثلين عن المجتمع المدني، وأجرت المناقشات والحوارات المطولة معهم، وبعد ذلك ضربت عرض الحائط، بكل ما قُُدم لها من آراء تستهدف إخراج الوطن من محنة الصوت الواحد.
 
أما عن تعديل القانون، فإننا لا نعرف عن تفصيلات اللقاء الذي جلس فيه رؤساء الحكومة والنواب والأعيان مع جلالة الملك، لكن ما تناقلته الصحافة يؤكد، بأنه صدرت تعليمات من الملك بتعديل الفقرة (ج) من المادة (8) لزيادة عدد أعضاء قائمة الوطن المغلقة، ولا أحد يعلم كم هو العدد الذي ستزداد بموجبه هذه القائمة.
 
ووفقاً للأخبار، فإن مقاعد الصوت الواحد المنصوص عليها في المادة (8/أ) ستبقى (108) مقاعد، وسيتم الانتخاب إليها وفقاً لجدول تقسيم الدوائر المرفق بالقانون، لأنه لم يرد ذكر في تلك الأخبار عن زيادة عدد المرشحين الذين سيختارهم الناخب، أو تعديل الجدول. ومن الناحية الدستورية، فإن تنفيذ ما أمر به الملك يعني قيام الحكومة بإرسال مشروع قانون إلى مجلس النواب، ليوافق على تعديل المادة (8/ج) من القانون الذي صدرت الإرادة الملكية بالموافقة عليه يوم الخميس 28/6/2012، ومن ثم ليوافق عليه بالضرورة مجلس الأعيان، وذلك خلال الدورة الإستثنائية التي سيعقدها مجلس الأمة، وبعد هذا لتصدر بالتعديل إرادة ملكية جديدة.
 
أعلم أن الخطيئة التي قارفتها السلطات الظاهرة، لم تترك للنصاح من أجل علاج الجزئية التي سيطالها التعديل، سوى خيارين أحلاهما مرٌّ، إما عودة كامل القانون للسلطة التشريعية، وتأخير عمل هيئة الإشراف على الانتخابات، وإما التصديق عليه، وفي ذات اللحظة إصدار الأمر بإجراء التعديل بموجب قانون معدل لاحق، توقع عليه سلطتا التنفيذ والتشريع على التعاقب، وذلك خروجاً على المستقر والمألوف في منطق إصدار التشريعات.
 
ولذلك، تم الأخذ بالخيار الثاني باعتباره أهون الشّرين. وكنا نتمنى، لو تم رد القانون، مع توجيه بالتخلص من نظام الصوت الواحد، وتوسيع الدائرة الانتخابية وزيادة عدد المرشحين الذين يختارهم الناخب. بالتأكيد، فإن ما أمر به الملك السلطتان التنفيذية والتشريعية الظاهرة، كان بهدف الاستجابة للمطالب الشعبية العارمة، بإصلاح الخلل في النظام الانتخابي.
 
ولكن ألم تسمع هذه السلطات، ومن ورائها السلطة الخفية، أصوات الشعب الأردني واحتجاجاته أثناء طبخ القانون لتستجيب، وتغنينا عن التوجه لتعديل القانون في ذات يوم إصداره!! ألا يعني ما حدث أن هذه السلطات تثبت مدى استخفافها بالشعب ومطالبه، وأنها لا تأبه بالخروج على منطق إصدار التشريعات، الذي يجسد كرامة الدول وسلطاتها التشريعية!! ومن ناحية أخرى، فإنه إذا كان النظام الانتخابي بوجه عام، سيقوم أساساً على الصوت الواحد الذي خصص له (108) مقاعد، وتم تقسيم الدوائر الانتخابية انطلاقاً من ذلك، فإن معنى هذا، أن السلطة الخفية، والسلطات الظاهرة، لا تزال تصرُّ على استمرار تمزيق الوطن إلى كيانات وجزر اجتماعية متناحرة.
 
إن عمر الدولة الأردنية حتى الآن تسعين عاماً، وقد عمل المخلصون في هذه الدولة جاهدين، خلال السبعين سنةً الأولى، على صهر أبناء المجتمع في بوتقة كيان سياسي واجتماعي واحد متماسك، يشكل أساساً لدولةٍ حديثة، تعمل على تحقيق التقدم لمواطنيها في المجالات كافة، وذلك رغم ظروف الحكم العرفي، ومحاولات الاستئثار بالسلطة.
 
أما خلال العشرين سنة الأخيرة، التي أُطلق عليها العهد الديمقراطي، فقد دخلت الدولة في حقبة جديدة، تم فيها عقاب الأردنيين بسبب حصول الإخوان المسلمين على (28) مقعداً نيابياً في المجلس الحادي عشر، وتحولنا تدريجياً إلى مرحلة تصاعد فيها الاستبداد والإنفراد في القرار، وتزوير المجالس النيابية، بعد أن فرضت السلطة الخفية قانون الصوت الواحد.
 
ذلك أن هذا القانون، مزق لُحمة المجتمع وفكك ترابطه، حتى بين أبناء العشيرة الواحدة، لنتحول إلى مجتمعٍ يتكون من جزرٍ اجتماعيةٍ، متناحرةٍ بينها على المقعد النيابي، مع ما يترتب على ذلك من سلبياتٍ غزت الحياة الاجتماعية والسياسية في الأردن، وساهمت إلى حدٍّ كبير في جعل هذه الجزر تستعين بالسلطة على بعضها، وتسكت عن أوجه الفساد والإفساد الذي أصبح كالسوس ينخر في بينان الوطن، وقاد إلى مديونيةٍ زادت على العشرين مليار دولار، نتيجة النهب والسطو على المال العام، دون رقابة يمارسها مجلس نواب شرعي جاء بانتخاباتٍ حرة نزيهة ليجسد إرادة الناس.
 
وفضلاً عن أن قانون الصوت الواحد، على النحو الذي صدر فيه، يؤكد أن السلطة الخفية والسلطات التي تظهر أمام الشعب، لا يهمها استعادة تماسك مجتمع تم تمزيقه، فإن القانون تضّمن مخالفات دستورية معيبة، مثل فرض الكوتات، وتنمية وتشجيع الانتماءات القومية والعرقية والتمييز بين أردني وآخر، والمغايرة في الترشيح والانتخاب بين أفراد وقوائم مغلقة.
 
والغريب، أنه ظهر على السطح تخريجات دستورية وقانونية، أصبحت تُستخدم للإبقاء على نظام الصوت الواحد، وتخصيص (108) مقاعد نيابية له، ثم تقسيم الدوائر الانتخابية على أساس ذلك. وهذه التخريجات تقول، إن المقاعد المذكورة هي حق مكتسب لا يجوز المساس به، واصبح على أهل القانون إلغاء عقولهم.
 
فلقد شعرت بالحزن والألم، وأنا أسمع إدّعاء رئيس حكومة الأردن، على التلفزيون الأردني مساء يوم الجمعة 22/6/2012، عندما برّر القانون الذي بذل جهده من أجل فرضه على الأردنيين، وتغنّى به بعد موافقة سلطة التشريع عليه، بتأكيده أن الـ (108) مقاعد في مجلس النواب التي رتبها قانون الصوت الواحد، أصبحت 'حقوقاً مكتسبة'.
 
وحتى لا يعتقد الأردنيون أن نظامنا القانوني انحدر إلى القاع فجأة، فإني أؤكد لهم، أن اصطلاح (حقوق مكتسبة)، هو اصطلاح قانوني مستقر المفهوم، في نظامنا القانوني وفي العالم المتحضر، وأنا أقطع بأن الرئيس لا يعرف مدلوله أو معناه في علم القانون، إذ لو كان يعرف، لما قال ما قال، وأثار حفيظة كل من لديه معرفة ببديهيات القانون.
 
وحتى لو أخذنا بفهمك للحقوق المكتسبة يا دولة الرئيس، فهل تعلم، أنه منذ صدور الدستور الأردني عام 1952، وحتى عام 1993، كان النظام الانتخابي الصادر عن السلطة التشريعية، يعطي للمواطن الأردني حقاً بانتخاب مرشحين لمجلس النواب بقدر عدد المقاعد المخصصة لمحافظته كدائرة انتخابية؟ وهل تعلم أن هذا الحق الذي استمر لمدة (41) سنة، بموجب قانون صادر عن مجلس الأمة، ألغاه قانون الصوت الواحد المؤقت، الصادر عن حكومة مثل حكومتك، وجعله على الأردنيين من المحرمات!! فإذا كان ما تقوله عن الحق المكتسب يعني شيئاً لديك، ألا ينبغي أن يعني أيضاً لديك، أن قانون الصوت الواحد الذي ألغى ما أكتسبه الأردنيون على مدى (41) سنة، هو قانون يصادر الحقوق المكتسبة وفقاً لمعيارك!! لست أدري أي جاهل في القانون، استخدم أمامك يا دولة الرئيس، اصطلاح الحقوق المكتسبة، لتجميد قانون الانتخاب عند زمن معين، ومصادرة صلاحيات سلطة التشريع، ليغرر بك.
 
يا دولة الرئيس، إن قانون الانتخاب، هو قانون مسمى تحديداً في الدستور، أي من القوانين المسماة في دستورنا، وصاحب الاختصاص الأصيل بتشريعه كمبدأ، هو مجلس الأمة المستقل حقّاً لا شكلاً، وهذا المجلس يتغير أعضاؤه باستمرار، وكان من العار على دولتنا أن تجري انتخابات مجالس التشريع، بموجب قانون مؤقت، رغم أن قانون الانتخاب هو مسمى في الدستور تحديداً كقانون، ويمتنع أن يلحق به اسم أو وصف المؤقت، حتى لا تعبث به الحكومات ويختل توازن السلطات.
 
هذا فضلاً عن أنه يعتبر من الكفر بعلم الدساتير ومفهوم القوانين، أن تصدر الحكومة قانوناً مؤقتاً للانتخاب، تحت ذريعة وجود حالة ضرورة لا تحتمل التأخير، وهي لم تحدث، ليلغي قانون انتخاب صادر عن سلطة التشريع. لكنه حكم القوي على الضعيف.
 
وأرجوك يا دولة الرئيس أن تعلم، أنه مهما تغير أعضاء المجلس التشريعي، فإن المجلس يظل جسداً دستورياً مستمر الوجود، ويمتنع دستورياً على مجلسٍ بتشكيلٍ معينٍ، أن يقيد حق مجلس بتشكيل لاحق، أو يحجر على صلاحياته، في إصدار التشريع الذي يراه. لا يا دولة الرئيس، إن الحكومات، مهما كان مدى السلطة التي استحوذ عليها من يوجهها بالخفاء، لا تستطيع وقف الزمن، ولا مصادرة التطور، ولا الاستمرار في زرع القهر المجتمعي الذي بلغ تراكمه في الصدور مداه، ويوشك على الانفجار.
 
أما عبارة الحقوق المكتسبة الواردة في عجز المادة 94/1 من الدستور، فلا شأن لها بالمقاعد الـ (108) التي تحدثت عنها. فإن أفتى لك أي مستشار قانوني بغير البديهية التي أقولها لك، فإني أنصحك أن تقول له بكل ثقة، يكفيك انتهازية ودجلاً وتغريراً وخداع، حتى ولو كان من أعضاء السلطة الخفية. إن الغثيان يكاد يصيبني، كلما استمعت إلى تلك الفئة التي أصبحت طبقة، ممن يطلقون على أنفسهم، ويطلق عليهم غيرهم، أنهم من أهل القانون، ويصدرون الفتاوى والتخريجات بهذه الصفة، مع أنهم لا يملكون من التأهيل سوى الصوت العالي، وبواقي بعض الفضلات، من عبارات ينسبونها ظلماً إلى القانون، حتى أوصلونا إلى ما يعاني منه القضاء، وعلماء القانون، والدولة، من سوء التشريعات، صياغةً ومضموناً.
 
إن إلغاء نظام الصوت الواحد الذي مزق لُحمة المجتمع، أصبح مطلباً شعبياً، ومن غير الطبيعي استمرار هذا التعنت وعدم الاستجابة لصوت الشعب، لأن ذلك يشكل تحدٍّ مكشوف واضح لإرادة الأردنيين وتطلعاتهم.
 
وأتساءل: ألا يعني استمرار التعنّت في الإبقاء على نظام الصوت الواحد، أن السلطة الخفية، ومن يأتمر بأمرها، تضع النظام في مواجهةٍ مع شعبه!! أقول ذلك، لأن الشعب لن يقبل الاستمرار في الشحدة والاستجداء، لقانون الانتخاب الذي يريد، ولا الصبر على التحسن عليه برمي كسرة له لا تُسمن ولا تغني من جوع، رغم أن صوته بُحَّ من استمرار صراخه الذي لم يهدأ على مدى الشهور. بالتأكيد سوف يفرض هذا الشعب في النهاية إرادته، وجاهل في التاريخ وقراءة الواقع، من يعتقد أنه يمكن معاندة الشعوب، دون أن يتعظ من تجارب النظم السياسية في العالم، ومما جرى ويجري في المحيط العربي والشارع الأردني.
 
فهل تريد السلطات، وخاصة الخفية منها،أن يصطدم الشعب بالنظام، للحصول على قانون انتخاب يوفر له الحد الأدنى من نظامٍ انتخابيٍّ متوازن، يضمن وصول الكفاءات إلى مجلس النواب، ويمكّن الأحزاب من النمو وإيصال مرشحيها إلى المجلس، وقيام ديمقراطية حقيقية!! إنني أؤكد أنه ليس صحيحاً البتّة، أن قانون الصوت الواحد قد رتّب حقوقاً مكتسبة لأحد، وأرجو أن لا ينخدع أحدٌ بمثل تلك التخريجات الجارحة للعقل القانوني.
 
وأتمنى أن يمتد توجيه جلالة الملك إلى طي صفحة نظام الصوت الواحد إلى غير رجعة، والتخلص من سلطان السلطة الخفية ونهجها، في ضوء ما أوصلت الوطن إليه من حال.
فهذه السلطة هي التي استخدمت ذريعة حماية النظام من الإخوان المسلمين لفرض قانون الصوت الواحد، وعطّلت نمو الأحزاب والحياة الديمقراطية، وفرضت تركيز السلطة، وهي التي جرّفت الوطن من كفاءات أبنائه، وتاجرت بالنهّابين والبلطجيه، وأطلقت العنان للثيران البشرية، ونصّبت علينا البرامكة، وأصحاب الفقر المعرفي بشؤون الوطن، حتى بلغ الأمر أن يحكمنا أبناء الأنابيب السياسية.

 

نعم، إن هذه السلطة هي التي وجهت، ولا تزال توجه، للإنقلاب على الإصلاح، وإصدار صكوك الغفران والبراءة للفاسدين، وبالتالي تدفع النظام والوطن إلى الهاوية!! ومرةً أخيرة أتساءل: هل تختلف هذه السلطة الخفية عن مثيلاتها في دولٍ عربية، قادت السلطات الخفية أنظمة الحكم فيها، إلى الاصطدام بشعبها، فكانت النتيجة ما رأيناه في تلك الدول العربية، من محصلةٍ ما زالت ماثلةً للعيان.
الغد

بقلم: د.محمد الحموري.


المراجع

ammonnews.net

التصانيف

صحافة   ا.د. محمد الحموري   جريدة الغد