عاثيات الجراثيم bacteriophages فيروسات تتطفل على بعض الجراثيم وتتضاعف بداخلها مؤدية في كثير من الأحيان إلى انحلال هذه الجراثيم وتخربها.
وكان قد لوحظ أول مرة انحلال الجراثيم وموتها تحت تأثير عامل خارجي عام 1898، وفي عام 1915 توقع الباحثان تفورت Twort وهيريل Herelle أن سبب انحلال بعض مستعمرات الجراثيم التي تدعى المكورات العنقودية هو عامل ممرض ينتمي إلى العوامل الممرضة التي تدعى الفيروسات، ثم برهن كل منهما بعد ذلك على أن الجراثيم تخمج بالفيروسات شأنها شأن الحيوانات والنباتات العليا، إذ ينجم هذا الخمج عن تنسخ فيروسات خاصة بالجراثيم ويتظاهر بانحلال الخلايا الجرثومية. وفي عام 1917 استفردت إحدى الفيروسات التي تخمج الجراثيم من أمعاء مريض مصاب بمرض الزحار العصوي، وأطلق على هذه الفيروسات عندها اسم عاثيات الجراثيم. وقد تبين فيما بعد أن نوعاً محدداً من هذه العاثيات لا يخمج إلا نوعاً معيناً من الجراثيم، بل ذرية محددة ضمن نوع جرثومي معين، وتعود هذه الاصطفائية الدقيقة لإصابة الجراثيم بالعاثيات إلى وجود مستقبلات خاصة لعاث معين على سطح هذه الجراثيم، ويكون سير الخمج الذي تحدثه العاثية للجراثيم وكأنه مرض معد ينتقل من الجراثيم المصابة فيعديها ويقضي عليها، وقد كانت الدراسات المكثفة الأولى التي أجريت على العاثيات تهدف إلى التوصل لطريقة شفاء طبيعية (حيوية) من الأخماج الجرثومية، لكن ذلك لم يتحقق، إلا أن اكتشاف العاثيات ودراستها كان له أثر كبير على تطور التقانات الحيوية الجزيئية وعلى علم الوراثة الحديث؛ ويقدر اليوم عدد أنواع العاثيات المعروفة والتي تمت مشاهدتها بوساطة المجهر الإلكتروني بنحو 2800 نوع.
شكل عاثيات الجراثيم وبنيتها
تنتمي العاثيات إلى عالم الفيروسات لذا تخضع بنيتها العامة للقواعد التي تخضع لها بنية الفيروسات، إذ تتكون العاثية من جزأين رئيسيين هما المحفظة البروتينية والحمض النووي الذي يوجد بداخل المحفظة ويكون إما دنا DNA أو رنا RNA. وتعد العاثية التي تصيب الجراثيم المعوية (الإشريكيات القولونية) والتي تسمى T2 من أكثر العاثيات دراسة ومعرفة، إذ تظهر هذه العاثية عند دراستها بالمجهر الإلكتروني مكونة من رأس وذيل وقاعدة، ويكون الرأس على شكل متعدد الأضلاع متطاول ذي عشرين وجهاً وطوله نحو 80 نانو متر ويحيط بالحمض النووي، أما ذيل العاثية فيقدر طوله بنحو 100 نانو متر ويتألف من جزء داخلي أسطواني مكون من خيوط دقيقة ويدعى القناة المحورية وجزء خارجي يحيط بالقناة المحورية وهو غمد قابل للتقلص، وتوجد في النهاية القصوى للذيل لويحة سداسية الأضلاع تسمى اللويحة القاعدية، وتلتصق على اللويحة القاعدية شويكات وألياف ذيلية وهي تمثل الجزء الذي تتثبت به العاثية على الجرثوم (الشكل).
مع أن معظم العاثيات تملك هذا الشكل تقريباً إلا أن بعضها يملك ذيلاً لا يتقلص، وبعضها لا يملك ذيلاً على الإطلاق، كما أن هناك عاثيات ذات شكل خيطي.
تضاعف العاثيات
يمر إخماجُ العاثيات للجراثيم بمراحل عدة تبدأ بتثبت العاثية بوساطة الصفيحة القاعدية على مستقبلات نوعية خاصة في الجدار الخلوي الجرثومي. ويمكن لجرثوم واحد أن يملك عدة مستقبلات لعاثيات مختلفة، ويحصل بعد تثبت العاثية على الجرثوم تقلص في الغمد الخارجي لذيل العاثية يقرب رأس العاثية من صفيحتها القاعدية مما يؤدي إلى اختراق قناة الذيل المحورية الداخلية للغشاء الهيولي للخلية الجرثومية المستهدفة وحقن الحمض النووي العاثي داخل هذه الخلية ويقتصر الإخماج على دخول DNA العاثية إلى الخلية الجرثومية من دون المحفظة البروتينية التي لا تمثل إلا غلافاً واقياً للحمض النووي الذي يحمل المعلومات الوراثية الخاصة بالعاثية.
بعد دخول الحمض النووي للعاثية إلى داخل الجرثوم يبدأ تحول المعلومات الوراثية المرمزة عليه إلى مركبات بنيوية ووظيفية تابعة للعاثية وذلك بالاعتماد على الوظائف الاستقلابية للخلية الجرثومية، إذ يتم أولاً اصطناع نسخ عدة للحمض النووي ثم يتم إنتاج البروتينات الخاصة بالعاثية والتي يتكون منها رأس العاثية وذيلها، يلي ذلك تركيب هذه الأجزاء معاً مما يؤدي إلى ظهور أعداد كبيرة من العاثيات المماثلة للعاثية الخامجة داخل الجرثوم ثم ينحل الجرثوم وتخرج العاثيات (الأبناء) إلى الوسط المحيط، وتستغرق الدورة التضاعفية للعاثية بين 15 و40 دقيقة بحسب نوع العاثية.
ويظهر انحلال الخلايا الجرثومية وتخربها بفعل العاثيات الخاصة بها واضحاً فيما لو أضيفت كمية صغيرة من العاثيات إلى وسط مغذ سائل يحوي جراثيم الإشريكيات القولونية، وكانت العاثيات المضافة فعالة تجاه هذا النوع من الجراثيم (يقال هنا إن الجرثوم متحسس بها)، فإن الوسط الزرعي الذي يكون في البداية عكراً بسبب وجود الجراثيم سيصبح رائقاً بعد عدة ساعات، وهذه الظاهرة التي ترى بالعين المجردة تدل على انحلال الجراثيم بفعل العاثيات.
إن دورة تضاعف العاثية هذه والمشابهة لدورة تضاعف الفيروسات الأخرى، والتي تبدأ بدخول العاثية إلى الجرثوم وتنتهي بتخرب الجرثوم وتحرر أعداد كبيرة من العاثيات الجديدة منه، لا تحدث دائماً عند جميع العاثيات، إذ إن بعض العاثيات، وتدعى العاثيات المعتدلة، تسلك طريقاً آخر عند إصابتها للجرثوم، فبعد دخول الحمض النووي للعاثية إلى داخل الجرثوم المستهدف يندمج DNA العاثية، الذي يدعى عندها طليعة العاثية، مع الصبغي الجرثومي، وفي هذه الحالة التي تدعى الاستذابة lesogeny فإن العاثية لا تتضاعف ضمن الخلية الجرثومية ولا يموت الجرثوم، بل يبقى قادراً على النمو والتكاثر، لكن في أثناء انقسام الجرثوم يتضاعف دنا العاثية مع الصبغي الجرثومي وتكتسب كل خلية جرثومية جديدة نسخة من هذا الدنا مندمجاً في صبغياتها.
إن اندماج الحمض النووي للعاثية في الصبغي الجرثومي قد يؤدي إلى اكتساب الجرثوم لصفات أو وظائف جديدة مثل القدرة على إنتاج ذيفانات كما هو الأمر في جراثيم الوتديات الخناقية والمطثيات الوشيقية.
إن طليعة العاثية المندمجة في الصبغي الجرثومي، وتحت تأثير بعض المؤثرات، قد تتحرر من الصبغي الجرثومي، وفي هذه الحالة تعود العاثية إلى التضاعف وبالتالي تؤدي إلى انحلال الجرثوم وموته، فطليعة العاثية إذاً هي جين مميت كامن ضمن الجرثوم، وتعد الأشعة السينية وفوق البنفسجية من محرضات تحرر طليعة العاثية المندمجة.
إن اندماج طليعة العاثية في الصبغي الجرثومي وانفصالها عنه بعد ذلك قد يؤديان إلى حدوث بعض التغيرات الوراثية في الخلية الجرثومية مثل التبدل في عمل بعض الجينات الخلوية، وزيادة إمكانية حدوث الطفرات، كما قد تأخذ طليعة العاثية المنفصلة معها جزءاً صغيراً من الصبغي الجرثومي وتقوم بنقله إلى جرثوم مختلف آخر مكسبة إياه جينات جديدة، وتدعى هذه الحادثة التي تقوم بها العاثية بنقل معلومات وراثية من جرثوم لآخر (التنبيغ transduction).
إن محاولة استخدام العاثيات في معالجة الأخماج الجرثومية كانت مخيبة للآمال لأسباب عدة، لكن العاثيات تستخدم في المخابر المتخصصة من أجل التقسيم الفرعي الدقيق للنوع الجرثومي الواحد إلى عدة أنماط حلية (استذابية) lysogenic، وذلك تبعاً لوجود مستقبلات نوعية لعاثيات معينة على سطح الجرثوم.
تسبب العاثيات أضراراً في بعض الأحيان كالعاثيات التي تتلف الجراثيم المستخدمة في صناعة الألبان، أو المستخدمة في صناعة الصادات.
المراجع
الموسوعة العربية
التصانيف
الأبحاث