على عكس الاضطرابات الفصامية التي تتميز بشكل رئيس باضطرابات التفكير فإن الاضطراب الرئيسي في الاضطرابات الانفعالية هو اضطراب بالمزاج Mood (الانفعالات Affect، العواطف Emotion ) والمزاج إما أن يكون مرتفعا ومنتعشا Euphoric (الهوس) أو منخفضا كئيبا (الاضطرابات الاكتئابية).
تعريف

يصنف الهوس إلى بدئي وثانوي. الهوس البدئي هو هوس يتميز باضطراب وجداني أولي، بينما يرى آخرون الهوس الثانوي كهوس ثانوي لمجموعة من الاضطرابات العضوية تتضمن تناول الأدوية (خاصة السيتروئيدات والمنشطات خاصة الأمفتامين والريتالين والكوكائين)، الإنتانات (التهاب الدماغ، الأنفلونزا، السفلس الثالثي)، أورام الجملة العصبية، الصرع، مختلف الاضطرابات الاستقلابية (بعد العمليات الجراحية والتحال الدموي). ويجب أن نكون منتبهين لهذه الأسباب خاصة عندما تكون النوبة الأولى بعد عمر 55 سنة خاصة إذا لم نجد قصة اضطرابات انفعالية في الأسرة. وفي مثل هذه الحالات يكون الفحص الطبي والعصبي الكاملان ضروريين.
والهوس البدئي يمكن أن يشاهد في أحد الأشكال الثلاث التالية:

1. اضطراب ثنائي القطب، هوسي (حيث لا يوجد حاليا سوى مرحلة هوسية).

2. اضطراب ثنائي القطب، اكتئابي (حيث توجد مراحل من الهوس لكن لا يوجد الآن إلا مرحلة شديدة من الاكتئاب).

3. اضطراب ثنائي القطب مختلط (حيث الصورة السريرية مؤلفة من مراحل هوس واكتئاب شديدة مختلطة أو متناوبة فيما بينها كل عدة أيام).
الأعراض المميزة للهوس

“إن تخيلي المسيطر خدعني جعلني اعتقد أنني أستطيع أن أرفع نفسي بواسطة أشرطة حذائي … كوني لا أملك حذاء فقد استعملت سريري كحذاء. وتحققت أنه من أجل أهدافي العلمية أن الرجل في السرير يشبه الرجل في الحذاء لذلك ربطت عددا من الأشرطة القماشية إلى أسفل وأعلى السرير الذي لم يكن مثبتا بالأرض لحسن الحظ، ومن ثم ربطت النهايات الحرة للأشرطة إلى قضبان الشباك. وكان الربط بحيث إذا شددت الأشرطة إلى الأسفل فإن ذلك يؤدي إلى جعل السرير معلقا في الهواء. كان شعوري في تلك اللحظة يشبه ذلك الشعور الذي انتاب نيوتن عندما حل أحد ألغاز العالم. وقد تكون فرحتي أكثر شدة من فرحته حيث أنني لم أعان من الشكوك التي عانى هو منها. لقد بدا لي ذلك وكأنه أحد اكتشافات العصر”.

هذا الوصف المتميز لحالة الهوس أخذ من وصف الدكتور/ كليفورد بيرز Dr. Clifford Beers لحالته العقلية الذي جاء في كتابه “العقل الذي وجد نفسه” الذي أصدره عام 1908 وهذا الكتاب رائع ليس لأنه يصف شخصيا كيف يحس الشخص في حالة الاكتئاب  الهوس فقط وإنما لأنه يصف أيضا وسائل المعالجة اللا إنسانية للمرضى الذهانيين في ذاك الوقت.

ومن عدة زوايا فإن الحالة الهوسية هي الحالة المرآة للحالة الاكتئابية. في الهوس يكون مزاج المريض مرتفعا والمريض منفتحا منتعشا وممتلئا بمزاج انفعالي جيد. إن هذا المزاج المنفتح غير مستقر والمريض إذا ما انتقد أو أحبط فإنه يصبح فجأة مستثارا، مشاجرا، ومخيفا وبحالات أخرى وخاصة عند وجود اضطراب ثنائي القطب فإن أعراضا تظهر مثل الحزن والبكاء والأفكار الانتحارية والأعراض الاكتئابية الأخرى.

إن كلام المهووس يعاكس بشكل كبير الحديث البطيء والمتعب للمريض الاكتئابي.. فالمهووس يتكلم بصوت عال وبدون توقف وبتفاصيل كبيرة وبشكل سريع وهذا يسمى الضغط في الكلام Pressure of speech. يتناسب محتوى حديث المهووس مع حالته الهوسية وهكذا يقفز من موضوع لموضوع وهذا يدعى تطاير الأفكار Flight of ideas والمستمع لا يجد صعوبة في تتبع المعنى وقد يتضمن حديثه الوزن والجناس والنكات السيئة وهذا ما يسمى المشاركة بوزن الكلمات Clung Association حيث تقوم إحدى الكلمات بتذكير المريض بكلمات أخرى لها الموقع نفسه أو الوزن نفسه.

وعلى عكس الكئيب (الذي لا يملك الطاقة اللازمة ولا يهتم بنشاطاته الاعتيادية، وكل شيء له مهمة شاقة يفضل الابتعاد عن المجتمعات والنشاطات)، فإن المهووس شخص لا يتعب منشغل دائما بخططه العظيمة Grandiose، يغير في نشاط الآخر، يحتاج إلى القليل من النوم ولكنه في النهاية يسقط من الإرهاق. ويسبب فرط نشاطه Hyperactivity وقابليته للشرود Distractibility فإنه يصبح مفرط التدخل اجتماعيا وجنسيا ويظهر نقصا في الحكم Poor Judgement على العلاقات الشخصية وعلاقات العمل وقد يشكل علاقات جنسية دون تفكير ويدفع نفسه للزواج ويدخل في مخاطرات في مجال العمل دون تقدير ويبدد أمواله دون حساب. وفي الحقيقة يجب أن يحمى مريض كهذا من إيذاء نفسه وتبديد نقوده خلال هذه الفترة. إن العيش مع مثل هؤلاء الأشخاص صعب، وتكون نسبة الطلاق عند المتزوجين منهم عالية.

عندما توجد الإهلاسات والأوهام فإن محتواها يتلاءم مع المزاج المسيطر (موافقة للمزاج) ومثلا فإن المهووس قد يبدي أوهام العظمة التي تتضمن علاقات خاصة مع الله أو مع أشخاص مشهورين أو امتلاك قوة خارقة، أو قد يسمع المريض صوت إله في إهلاساته يعلن له عن قدرات ومهمات خاصة.

ولقد وصف لنا الدكتور / كليفورد بيرز Dr. Clifford Beers في كتابه الآنف الذكر، أوهامه وصفا حيا إذ يقول: “… بما أن الجاذبية مسيطرة، لا محالة من تخصيص بعض الوقت لاختراع طائرة، وبعد ذلك بقليل اكتملت الفكرة في عقلي … وكالعادة لم أكن قادرا على شرح كيفية صنعها ولكني تصورت وادعيت أني يجب أن أسافر إلى سانت ليس للحصول على 100 ألف دولار كجائزة على أفضل طائرة تعرض وعندما دخلت الفكرة في رأسي لم أمتلك طائرة فقط بل ورصيدا في المصرف. وكوني لا أستطيع صرف أموالي (كان في المستشفى) فقد أخذت أصرفها بالكلام. كنت في حالة أرغب فيها بشراء كل شيء، وأمضيت ساعات أفكر فيها بكيفية إنفاق ثروتي… “.
الهوس والفصام

إن الوصف السابق يعطينا فكرة عن شكل الهوس ويظهر سهولة الالتباس بين الهوس والفصام حيث يظهر التفكير غير الطبيعي في الاثنين. ورغم هذا التشابه الكبير فإن الهوس قد عرف كمرض مستقل منذ أكثر من 2000 سنة مضت، إذ وصف الطبيب الإغريقي اريتاوس Aretaeus  الهوس والسوداوية ولاحظ العلاقة بينهما. كما لاحظ أن الهوس يحدث أكثر في الشباب بينما السوداوية أكثر في المسنين، كما لاحظ أن الهوس يتحول في غالب الأحوال إلى سوداوية لكن العكس غير صحيح..

مع بداية القرن العشرين ساعد عملاق الطب النفسي العالم إميل كريبلين Emil kraepelin بهذا التفريق من خلال وصفه لأعراض وصفية للفصام والهوس حيث كان الانحدار الاجتماعي والعقلي غير القابل للعكس في الفصام (العته المبكر) غير موجود في الهوس.

اكتشف جون كاد John Cade أن كربونات الليثوم علاج خاص ومفيد للهوس، مما دعا إلى جهود متزايدة لتشخيص الهوس حيث أعطى متناوليه إنذارا أفضل من الفصام.

إن دراسة نسبة الانتشار والحدوث أصعب في الهوس منها في الفصام بسبب القصر النسبي لنوبات الهوس.

إن أفضل تقدير لنسبة حدوث الهوس أو الاضطرابات ثنائية القطب خلال حياة الإنسان هي %1، أي نسبة مقاربة للفصام.

بعض الدراسات أشارت أن نسبة الحدوث أعلى قليلا عند النساء، لكن في دراسات أخرى بدت الاضطرابات ثنائية القطب متساوية في الجنسين. وبشكل عام يلاحظ أن عمر البدء هو العشرينات أي متأخر قليلا عن الفصام. وعلى عكس ما يعتقد ويشاع بالنسبة للفصام فإن نسبة الهوس لا ترتبط بالفئة الاجتماعية الاقتصادية، رغم أن بعض الدراسات أشارت إلى زيادة نسبة حدوثها بالطبقات العالية.

وعلى عكس الفصام أيضا يختلف انتشار الهوس بين الحضارات فهي أعلى بين اليهود والايرلنديين، بينما هي أقل بين الآسيويين خاصة الذين يدينون بالبوذية والهندوسية.
الأسباب

كالفصام، يعتقد العلماء أن الهوس البدئي ناتج عن أسباب متعددة. فهناك دور العامل الوراثي، ودور الوسائط العصبية الكيمياوية. كما أن هناك دلائل على دور اضطراب النظم الحيوي.

إن الاضطرابات العصبية الفيزيولوجية في الاستثارة الحسية المحرضة خلال الحالة الهوسية تشير إلى احتمال وجود اضطراب في عملية الحس الطبيعية.

هذا ولا يبدو للأسباب الاجتماعية الثقافية أو العلاقات العائلية دور في هذا المرض. وبكل الأحوال نحن بحاجة للمزيد من الأبحاث بهذا المجال.

وأخيرا فقد اقترح لوين وآخرون كون الهوس وسيلة دفاع نفسية حركية ضد الاكتئاب حيث يظهر الهوس أحيانا كرد فعل على حادثة فقد، بدلا من الاكتئاب المتوقع. وعلاوة على ذلك ورغم أن الهوسيين الذين شفوا يبدون متكيفين بنجاح في مجتمعهم وأعمالهم فقد لاحظ كوهن وزملاؤه أن هؤلاء الأفراد هم اتكاليون غالبا، لا يشعرون بالأمان، ويحتاجون للطمأنة بشكل دائم من قبل الآخرين. وعلى كل لم يجد ماك ﭬﺎن وزملاؤه الصفة الاتكالية في المرضى الذين استفادوا من المعالجة من الليثيوم، كما اقترح كاسينو وماجيني وأكيسال وغيرهم من العلماء أن صفات مثل نقص الثقة بالذات والاتكالية هي عقابيل مزمنة ومضاعفات بعد الذهانية للحالة الهوسية (والكآبات الكبرى) أكثر من كونها عوامل مسببة للذهان.
المعالجة

تعالج أكثر حالات الهوس من قبل الاختصاصي النفسي إلا أن للطبيب غير النفسي دورا كبيرا في تشخيص المرض في مراحله الباكرة حيث يظن الشخص العادي بأن المريض يتحلى بروح الدعابة والمرح. في هذه المرحلة يلعب الطبيب دورا في دفع المريض أو أسرته لمراجعة الاختصاصي بأسرع وقت.

وعلى الطبيب الممارس أن ينتبه أن مريضه قد يتوقف عن تناول دواء وصف له لمرض جسمي آخر خلال المرور بمرحلة هوس أو كآبة كبرى.

يحتاج المريض للدخول إلى المشفى أحيانا خلال قمة المرحلة الهوسية لحمايته من ممارسة التدمير الذاتي. إن المحاكمة السيئة ميزة للهوس وهي تؤدي للعدوانية واندفاع نحو الجنس وتدمير مدخرات العمر إذا لم يوضع المريض تحت الحماية.

وتعطى كربونات الليثيوم للمريض فيما لو كان بالمشفى أو خارجه، حيث يلاحظ في %70 من المرضى المهووسين تراجع حاد في الأعراض وتناقص في شدة ومعاودة نوبات الهوس والكآبة. وتفيد مضادات الذهان الأخرى (Albrootirufinon،Phenothiazine ،…) في السيطرة على الهوس خاصة في المراحل الأولى للمعالجة حيث أن الليثوم يحتاج إلى ثلاثة أسابيع للبدء بالتأثير.

ويبدو الكاربامازبين مفيدا كبديل لليثيوم عند المهووسين الذين يتأثرون بالأعراض الجانبية له. ولكن من الواجب عدم المبالغة بالتأثير الدرامي لليثيوم في إعطاء الأمل للمريض.

إن المعالجة النفسية الفردية للمهووس أمر صعب جدا. فمعظم المرضى يرفضون التخلي عن الفرحة التي تمنحهم إياها مشاعر العظمة رغم الاضطراب الذي يسببه لهم المبالغة في تقدير أنفسهم.

إن التوجه في المعالجة نحو دعم المريض أكثر من توجهها نحو بصيرته هو أكثر فعالية، شريطة ترافقه بالمعالجة الدوائية. وكحال الفصام فإن إشراك محيط المريض في المعالجة ذو دور كبير.
الإنذار

التطور الطبيعي للاضطراب ثنائي القطب قبل عصر استعمال الليثيوم هو مرحلة 4-2 أشهر من الهوس تتلوها فترة 6-4 أشهر من الكآبة.

ومن الذين عانوا من هجمة أولى %25 لن يعانونها مرة أخرى %75 سيعانون من هجمة ثانية و%65 سيعانون من ثالثة و%45 من رابعة وأكثر.

و يجب الانتباه إلى أن أهم ميزة للأمراض ثنائية القطب هو أن أقل من %10 من المرضى سيظهرون مظاهر المرض العقلي في الفترات بين الهوس والكآبة ، وهذه تعتبر من الفروق الرئيسية بين الفصام والهوس حيث أن %70 من مرضى الفصام يظهرون بعض الأعراض المزمنة والمستمرة لمرضهم.

تأليف: عبد الرحمن إبراهيم

المراجع

موقع طبيب

التصانيف

طب  العلوم التطبيقية  الطبي