الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
 
فقد قال الله -عز وجل- في مدح أوليائه: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ . وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ . وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ . وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ . أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون:57-61]، بدأت الآيات بذكر الخوف، وانتهت به كذلك، مع ذكر الوعد الصادق لمن خاف الله -عز وجل-.
 
والخوف الأول هو الخشية: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ}، 
فهو يشفق على نفسه وعلى أهله، ويشفق من خشية الله -عز وجل-؛ لأنه يعلم أن عذاب الله شديد، ويعلم أن موقفه بين يدي الله -عز وجل- غداً موقف عظيم، فهو يشفق على نفسه، كما قال المؤمنون يوم القيامة : 
[الطور:26]، فلم يكونوا مطمئنين في هذه الدنيا إلى الأهل والأموال والأولاد، وإنما كانوا خائفين من الله -عز وجل-، ويتذكرون موقفهم بين يديه ويتذكرون عقابه حتى وهُم مع أهليهم، ويتذكرون الحساب والمساءلة، فيخشون ربهم، {وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ} [الرعد:21]، فهم يخافون أن يحاسبوا حساباً عسيراً، ولذلك يطيعون الله -عز وجل-، ويؤمنون به وبآياته، ويتبعون ما جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم-.
 
{إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ}، وذلك لعلمهم بالله -عز وجل-، ولعلمهم بما فعل بأعدائه -عز وجل-؛ 
فالخشية خوف مقرون بعلم كما ذكرنا، ولعلمهم بأن الله -عز وجل- إذا غَضِب على أحد لم يقم لغضبه شيء، فيخافون ويشفقون، ولا يَأْمنون مكره، بل يعلمون أنه يستدرج أعداءه، وأنه ينتقم منهم -عز وجل-، وأنه من أَمِن مكره فقد خَسِر، وأنه قد يصيبه العذاب من حيث لا يشعر ومن حيث لا يحتسب، {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ . وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الزمر:47-48]، نعوذ بالله من حال الكفار والظالمين.
 
ثم ذكر -عز وجل- بقية صفات المؤمنين في قوله -تعالى-: {وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ . وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ . وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا}، يُعطون ما أَعطَوا من العمل {وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ}، أي: مرتجفة خائفة؛ 
 
{أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ}؛ لأنهم إلى ربهم راجعون، سوف يقفون بين يديه، وهو الرجل يصلي ويصوم ويتصدق ويخاف ألا يقبل الله منه، كما صَّح عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: « سألتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن هذه الآية: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ فقال -صلى الله عليه وسلم-: لا يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ، وَلَكِنَّهُمْ الَّذِينَ يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَتَصَدَّقُونَ، وَهُمْ يَخَافُونَ أَنْ لا يُقْبَلَ مِنْهُمْ، أُولَئِكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ» [رواه الترمذي وابن ماجه، وحسنه الألباني].
 
{وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ}، فهم يُؤتون ما آتوا، ويفعلون ما أُمروا به من الطاعات وقلوبهم وجلة؛ 
 
{أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُون}، فهم يعلمون أن أعمالهم معروضة عليه، وأنه مُطّلع على بواطنهم وأعمالهم، ويعلم ما فيها من العيوب الخفية التي غفلوا عنها ولم يستدركوها ولم يسألوا أنفسهم عنها، وربما كانت كاملة في أعين الناس أو في أعينهم، فتظهر عيوبها يوم القيامة، فيشفقون ويَجِلُون ويخافون ألا يتقبل الله -عز وجل- منهم، فضلاً عن السيئات التي يعملونها، فهم خائفون من حسناتهم ألا تُقبل، وخائفون من ذنوبهم ألا تُغفر، فلذلك مدحهم الله -عز وجل-؛ وذلك أن هذا الخوف يدفع إلى الطاعة والمسارعة في الخير مع رجاء القبول والخوف من عدمه؛ لأن الخوف والرجاء قرينان.
 
والوَجل ارتجاف القلب وانصداعه كأنه يتشقق؛ لأن الانصداع: التشقق، فالإنسان يذكر موقفاً معيناً فيحصل له رَجفة، أي: أخذة في قلبه، أخذة حقيقية، وتذكَّر نفسك وقد أفزعك أحد ذات مرة، أو تخيل أنك علمت أن ظالماً يريد أن يفعل بك شيئاً، فتجد أن القلب يقع فيه شيء من هذا الوجل.
 
أما العبد المؤمن فوجله من الله -عز وجل-، فيحصل له ارتجاف للقلب وكأنه ينصدع وينشق من ذكر ربه -عز وجل-، يقول ابن القيم -رحمه الله-: "وأما الوجل فرجفان القلب وانصداعه لذكر من يخاف سلطانه وعقوبته أو لرؤيته" "مدارج السالكين 1/513"، 
إما ذكر أو رؤية، كما ترى الإنسان مفزوعاً مثلاً إذا انطلق حيوان مفترس من قيوده أو من قفصه، أو عندما يرى الموت قريباً منه، كمن يرى سفينته تغرق، فإنه يحصل له خوف وفزع هائل، فهذا هو ارتجاف القلب، فإذا رأى الإنسان ما يخاف عقوبته وسطوته فهذا هو الوجل.
 
فالمؤمن يرتجف قلبه عند ذكر الله -عز وجل-، فهو لا يرى ربه في هذه الدنيا بعينه، وإنما يَذكره، ويستحضر مواقف العذاب التي نزلت بالظالمين، وما ينتظر الناس من هول الحساب يوم القيامة وسوئه، ونعوذ بالله من ذلك، ونسأل الله العافية، فقلوبهم وجلة لأنهم دائمو التَذكُّر للآخرة.
 
وصلَّى الله على إبراهيم وإسماعيل، يبنيان لله بيتاً ويخافان ألا يَتقبل الله -عز وجل- منهما، فكان من دعائهما وهما يبنيان البيت: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 127].
 
والمؤمن في هذا المقام متوسط بين من يَجزم لنفسه بعدم القبول من جلاّدي النفس بتعذيبها واتهامها بأفظع التهم حتى يكاد الإنسان ييأس، ومن يجزم لنفسه بالقبول، نسأل الله العافية.
 
فالمؤمن ـ مثلاً ـ يخاف من الرياء، ويخاف من السمعة، ويخاف من محبطات الأعمال، ويخاف من المنِّ، ويخاف مما قبل العمل أو بعده أو أثناءه من مُحبِطات العمل، 
فالمحبطات قبل العمل كالرياء والسمعة، والمحبطات أثناء العمل كمخالفة السنة؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» [متفق عليه]، 
 
والمحبطات بعده: كالمنِّ والأذى ورفع الصوت على النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهذا كالذي يتقدم بين يدي الرسول -صلى الله عليه وسلم- ويُفتي بالباطل، وربما كان له عمل صالح قبل ذلك، ففتواه الباطلة، ورفعه الصوت على ما أمر به النبي -صلى الله عليه وسلم- يمكن أن يُحبط عمله، وهناك مُحبطات كثيرة للأعمال يخاف المؤمن منها، فهذا ما جعل الأولياء يخافون من عدم القبول، ولكنهم وسط بين من يُجزمون لأنفسهم بالرياء وبطلان الأعمال وبين من يُجزمون لأنفسهم بالقبول.
 
المؤمن بين هذا وذاك، راجٍ خائف، يخاف ألا يُقبل منه، ويرجو أن يقبل الله -عز وجل- منه العمل المُزجى، ويعلم أن عمله فيه عيوب قطعاً، وأنه لو حُوسِب عليه حساباً دقيقاً عسيراً لرُدَّ، 
ولكنه يرجو الله -عز وجل- أن يقبل منه على سبيل التجاوز، كأن يكون فيه بعض الخير، فيُقبل من أجله، كحال إخوة يوسف الذين قالوا: {وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ} [يوسف:88]، وإنما طلبوا بانكسارهم ذلك عَطِّية الكريم الذي علموا إحسانه وجوده.
 
وإذا كان هذا حال من سأل مخلوقاً فرحمه عندها وجَبَر كسرِه؛ فكيف بمن يسأل بهذا الذل والانكسار أكرم الأكرمين وأجود الأجودين؟
 
بل الإحسان والكرم لا ينبغي أن يُرجى إلا منه، فينبغي على العبد المؤمن أن يدعو ربه مستحضراً ذله وعز ربه، العزيز حقّاً الذي لا تنبغي العزة إلا له، ومتوسلاً إليه سبحانه بما أصابه من البلاء ـ وأحسنه ما كان في سبيله ـ، وما أصاب أهله كذلك؛ 
فإن ذلك من أسباب استجلاب الرحمة؛ لأن الله يُلتمس فضلُه بضعف الضعفاء؛ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «هَلْ تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إِلا بِضُعَفَائِكُمْ؟» [رواه البخاري]، 
ويُرجى جبره لقلوب المنكسرين غير المعجبين الفخورين، وليقدم في دعائه شهوداً من قلبه بأن عمله وسعيه كبضاعة مُزجاة بائرة كاسدة، فلو عامله الله بعدله لردَّ عليه عمله؛ لما فيه من آفات ظاهرة وباطنة يستحق أن يُردَّ بها، إلا أن طمعه ورجاءه في كرم أكرم الأكرمين ـ الشكور الذي يقبل القليل من العمل ويغفر الكثير من الزلل ـ هو الذي يدفعه إلى طلب الفضل والمِنّة والمنحة، وليس أنه يستحق على ربه شيئاً.
 
ومن أوفى من الله الذي يوفِّي الأجر على عمل كاسد؟ وما فيه من خير فهو الذي منَّ به على عبده، ووفَّقه له، وهداه وسدَّده، وألهمه رشده حتى علمه وأحبه وأراده وعزم عليه ونواه وعمله، وهو المسئول أن يقبله صدقة منه على عبده، وهو الكريم المنان" "من كتاب تأملات إيمانية في سورة يوسف ص238".

المراجع

موسوعة طريق الأيمان

التصانيف

عقيدة  عقيدة إسلامية