أن تكون مسلماً فتلك حالة شخصية بحتة ، وأن تكون مؤمناً فتلك حالة فضل من الله هي الأخرى شخصية بحتة ، أما أن تكون داعية فتلك حالة أمة كاملة ، فحين يتحول المسلم إلى مؤمن بحق معتلياً سلم المدارج الإيمانية ، مجتهداً على نفسه ، متواصلاً مع ربه فهو يتحول من حالته الذاتية المفرطة الى حالة الإندماج الكامل مع النظام الرباني للوجود ، وحين يتحول المسلم المؤمن إلى داعية فهو يتحول إلى خليفة لرب العالمين ، ورهبة الصفة أنها تنهضك ولا تقعدك ، وتطلقك وتأسرك ، وتبعث فيك هم ، هم المصلي في أقاصي الصين ، والمزكي في مجاهل الأمازون ، وغير المسلم في أعالي التبت ، تجعلك في دقائق تتحول من هم إتقان صلاتك ، ومن عمق استشعار عظمة ربك ، إلى فاعل هام في الكرة الأرضية كاملة .
قد تأخذ منك الرحلة عشر دقائق لتقطع المسافة من حالة المسلم إلى حالة المؤمن إلى حالة الداعية ، وقد يمر العمر كله ولم تقطعها بعد ، وكم حرم ذلك من حرم فلم يدركها أبدا ، فحالة الداعية ليست خطوة تؤخذ بالإجتهاد ، ولا رتبة تؤخذ بالترقي ، ولا رغبة تؤخذ بالسعي ، الداعية صفة تمنح من الله عز وجل حال تعرضك لنفحاته ورحماته سبحانه وتعالى . شاهدي على هذا ، أبو الأنبياء رسول الله إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ، الذي أذهل الدعاة في تلك الإستجابة إلى المنحة الربانية فاختطف المسافة في سحابة نهار ، فسجل لنا مثالاً فريداً مثيراً للتفكر لا يمكن معه إلا الوقوف دهشة وحيرة من تلك المراحل الإسلامية والإيمانية والدعوية التي قطعها في سحابة من نهار .
فبعد أن أنار الله صدر رسوله ابراهيم عليه السلام بنور النبوة ورسخ ذلك في نفسه ، بدأ في رحلة النبوة من أول الدرجات " إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين – سورة البقرة 131 " بسرعة عجيبة ، صار مسلما ، لا شيء البتة ما بين الأمر والإستجابة كما هو واضح من الآية الكريمة لا نص ، لا كلمات ، لا انفعالات ، لا اجتهادات ، لا طلبات ، لا ظروف ، لا ولا ولا شيئ ، أسلم ...أسلمت ، فقط واكتمل الإسلام في نفس أبي الأنبياء في تسليمٍ كاملٍ متكامل ، وعلل إبراهيم بذكائه الفذ ذلك الإسلام بأنه " لرب العالمين " فمن هو ذاك الذي يمكن ان لا يسلم " لرب العالمين " الخالق المسيطر القابض سبحانه ، نعم أقصر الطرق الى الله التسليم والإنقياد دون أي سؤال ، وهي الطريق الذي اتخذها إبراهيم عليه السلام ووصى بها بنيه من بعده ، حتى وصلتنا على يد خير الانام محمد صلى الله عليه وسلم غضة كما هي .
هنا أكمل إبراهيم الحالة الشخصية البحتة فمنحه الله النبوة ، إبراهيم عليه السلام أراد المزيد ومزيد الله خلاف أي مزيد فاغتنم الفرصة واستدرج العطاء فقال " إذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي ... " سورة البقرة 260 و الآيات ، فعلمنا الإيمان بأربع كلمات " بلى ولكن ليطمئن قلبي " ، علمنا عليه السلام أن الإيمان قبل الدليل ، وقبل الشواهد ، وقبل التحليل ، وقبل التفكير ، وقبل التنوير وقبل الإستدلال وقبل البحث والتمحيص ، وعلمنا أن ذلك كله ما هو إلا دسر تثبيت الإيمان لا أكثر ولا أقل ، وان الإيمان شعور يخامر الصدر فيأبى إلا أن يخرج بلغة أخرى غير الكلام .
وأراد إبراهيم عليه السلام المزيد ، واغتنم الفرصة ، وقصد المقصود سبحانه وتعالى لا غير ، فمنح الفضل والمنة ، أوتي الرسالة ، الدعوة ، أوتي أن يكلم الناس رسولاً مرسلاً ، بل أباً لكل الأنبياء والرسل من بعد بلا استثناء ، وتمت نعمة الله على إبراهيم وشرف في مقام الشرف وهو " ( إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين) سورة النحل 120 " ، ببساطة التعبير رسولاً داعياً الى الله . الدعاة حياتهم ليست لأنفسهم حتى يختاروا ، أنفاسهم ليست لهم حتى يحبسوها ، أجسادهم ليست لهم حتى يطرحوها ، إنما الدعاة ملح الاسلام كله ، وحينما تطلب من الله أن تكون داعية ، فاعلم أنك تطلب منه أن يشيعك للناس فتصبح ملكا لهم ، ويصبحوا أمانة عندك .
حتى أدق تفاصيل حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم العائلية ، كانت تعرف ، حتى دواخل نفسه الشخصية الخاصة جداً أصبحت ملكاً لهذا الدين " وإذ تخفي في نفسك ما الله مبديه " ، من يتخذ في نفسه قرار التعرض لرحمة الله وفضله طالباً أن يكون داعيةً فقد اتخذ قرار إشاعة نفسه كاملة ، ولهذا السبب فالدعاة أشراف المسلمين بلا منازع ، فمن السهل أن تكون مسلما ولكن من الصعب أن تكون داعية ، فإن قررت أن تكون شريفاً فكن داعية واستعن بالله . جميل القرشي