فإذا كنت تتناول بالفعل أحد هذه الأطعمة مرتين أو ثلاث يومياً، وتجد أنه من الصعب التخلص من هذه العادة، فالأفضل لك اختبار حساسيتك تجاهها.
أفضل ما يمكن أن تعرف به الحساسية هو: “أي تفاعل مفرط يقوم به الجهاز المناعي بصورة واضحة تجاه مادة معينة”. والجهاز المناعي، الذي يقوم بدور النظام الدفاعي للجسد له القدرة على إنتاج “علامات” للمواد غير المرغوب فيها، والصورة التقليدية لهذه العلامات هي الأجسام المضادة من النوع IgE (أي البروتينات المناعية من النوع E)، وتقوم هذه الأجسام بالالتصاق بما يسمى “الخلايا الدقلية” Mast Cells.
وجهة النظر السائدة الآن هي أن معظم أنواع الحساسيات واضطرابات عدم التواؤم، يطلق عليها المصطلح الدبلوماسي “التفاعلات مفرطة الحساسية” Idiosyncratic رغم أن بعضها قد لا يكون له علاقة بالأجسام المضادة IgE، وهناك مدرسة جديدة في التفكير وجيل جديد من الاختبارات المناعية تم تصميمها للتعرف على اضطرابات عدم التواؤم غير المتعلقة بتفاعلات الأجسام المضادة IgE، بل في المقابل تتطلب علامات أخرى تعرف باسم IgG. وكما يقول د.جيمس برالي مدير المعامل المناعية التي قامت بتطوير اختبار “إليزا” ELISA لاستقصاء العلامات IgG: “فإن الحساسية تجاه الطعام ليست نادرة، بل ولا حتى الآثار المحدودة في الممرات الهوائية والجلد والقناة الهضمية، فمعظم أنواع حساسية الطعام ذات تفاعلات مؤجلة تظهر آثارها في خلال مدة تتراوح بين ساعة واحدة وحتى 3 أيام. وبالتالي، تزداد صعوبة التعرف عليها. وهذه الحساسية المؤجلة تبدو ببساطة في عدم قدرة قناتك الهضمية في منع جزيئات الطعام غير تامة الهضم من التسرب لتيار الدم.
وهذه الفكرة ليست جديدة تماماً، فمنذ الخمسينيات من القرن 20، قام علماء الحساسية الأفذاذ على غرار د.ثيرون راندولف، د.هربرت رينكل، د.أرثر كوكا، وحديثاً د.وليام فلبوت، د.مارشال ماندل بالكتابة جميعاً عن الحساسية المؤجلة المسببة لآثار واسعة الانتشار على كافة أجهزة الجسم. كان هؤلاء العلماء بمثابة مهرطقين في نظر أصحاب النظرية التقليدية للحساسية، أما الآن فقد تم إثبات نظرياتهم بالوسائل الحديثة الآخذة في اطراد في إثبات وجود أنماط أخرى من التفاعلات المناعية.
والأجسام المضادة من النوع G (IgG) لم تكتشف سوى في الستينيات من القرن 20. ورغم ذلك، مازال بعض العلماء التقليديين ينظرون إليها بغير اعتبار، والمشكلة هنا كما يدعي هؤلاء المنتقدون هي في أن غالبية الأفراد لديهم العديد من التفاعلات المتعلقة بهذا النوع من الأجسام المضادة والموجهة ضد الأطعمة دون أن تظهر عليهم أية أعراض للحساسية. وهكذا، فهذه الأجسام قد لا تكون سوى زوائد هامشية لا شأن لها بتحفيز التفاعلات. بالرغم من ذلك، فإن للمدافعين عن هذا الدور حجتهم في أن تراكم هذه الأجسام المضادة تجاه نوع معين من الطعام بكمية كافية يشير لحالة حساسية مزمنة وطويلة الأمد أو عدم تواؤم مع هذا الطعام. كما وجد الباحث الاسترالي د.هيل أن غالبية الأطفال المصابين بالحساسية تجاه نوع أو آخر من الأطعمة يبدءون في إظهار آثار التفاعل بعد ساعتين أو أكثر من تناول الطعام. وفي المقابل، فإن تفاعلات الأجسام المضادة من النوع E هي تفاعلات فورية، مما يرجح أن التراكم الكمي للأجسام المضادة من النوع G قد يكون سبباً رئيسياً في الحساسية تجاه الأطعمة.
وتبعاً لما يقوله د.جوناثان بروستوف استشاري علوم المناعة الطبية بكلية طب مستشفى ميدلسكس، فإن لبعض المواد التي نتناولها القدرة على التسبب في إفراز الهستامين وإظهار أعراض الحساسية التقليدية دون حاجة للأجسام المضادة IgE ، وهذه المواد تشمل الليكتين (في الفول السوداني)، المحار، الطماطم، الشيكولاتة، الأناناس، ثمر الببايا، دقيق الحنطة السوداء، منتجات عباد الشمس، المانجو، الخردل. وهو يعتقد أيضاً أنه من الممكن أن البروتينات غير تامة الهضم يمكنها التأثير بصورة مباشرة على الخلايا الدقلية (المحتوية على الهستامين) بالقناة الهضمية مسببة الأعراض التقليدية للحساسية.
ومن الأسباب المعتادة أيضاً لتفاعلات الحساسية هو الإنتاج الفعلي للأجسام المضادة من النوع G في مواجهة المحفزات المناعية السارية بالدم مما ينتج عنه متراكبات مناعية كبيرة الحجم. قال د.بروستوف: “المهم هو الانحراف الكمي بوزن هذه المتراكبات بالقدر اللازم لإحداث مشكلة”. كما يضيف قائلاً: “هذه المتراكبات المناعية تشبه خطاباً يتجول في تيار الدم”. وهذا الخطاب يتم التخلص منه عن طريق الخلايا المناعية، خاصة النيوتروفيلات، والتي تعمل كالمكانس الكهربائية. وتم تصميم اختبارات حساسية الخلايا السامة لقياس التغيرات الحادثة في أعداد وحجم ونشاط النيوتروفيلات عند تعرضها لطعام معين، وذلك لتحديد المحفزات المناعية الموجودة بهذا الطعام.
أما عن ماهية العلاقة بين نوعي الأجسام المضادة IgG و IgE، وما تمثله من إشكالية أخرى، فقد قام د.برالي أخصائي المناعة بمناظرة عدد من المرضى الذين انتابتهم أعراض تفاعلية من كلا النوعين حادة فورية ومؤجلة طويلة الأمد تجاه الطعام وهو ما يرجح وجود علاقة ورابط ما بين تفاعلات الأجسام المضادة E الفورية قصيرة الأمد وتفاعلات الأجسام المضادة IgG المؤجلة. ويقترح د.أندرز هوي من الدنمارك أن التراكم طويل الأمد لكميات الأجسام المضادة IgG في مواجهة طعام معين قد تتحول عند حد معين للنمط الآخر المعتمد على الأجسام المناعية IgE مؤدية لحدوث تفاعلات الحساسية الفورية.
ما سبب الحساسية تجاه الطعام؟
هل تساءلت قبل ذلك إن كان الطعام الذي تتناوله يرغب في أن يتم أكله؟ الإجابة ستكون بالنفي قطعاً في أغلب الحالات. فأغلب الأطعمة بمختلف صورها تقي نفسها من التهام الآخرين لها وتحاول حماية نفسها بما يتوفر لها من أشواك أو سنون أو مواد كيميائية سامة. وفكرة أن الأغذية على إطلاقها جيدة بعيدة كل البعد عن الواقع، فأغلب هذه الأطعمة يحتوي على الكثير من المواد السامة تماماً كما يحتوي على المغذيات النافعة. القوارت وهي مخلوقات تتغذى على الأطعمة النباتية والحيوانية على حد سواء -مثلنا تماماً- لها استراتيجياتها المتوازنة بين المخاطرة والتراجع طالما تعلق الأمر بالطعام. فنحن نجرب العديد من الأطعمة، وطالما لم نصب بسوء، فهذا يعني جودة هذا الطعام، ولكن هذا الاختبار قصير النظر سيفشل حتماً في أمثلة كثيرة. ففي الواقع حتى غذاء هذا العصر قد يكون سبباً لوفاة الكثيرين على المدى البعيد.
بعض الأطعمة ربما قد تكون بالفعل خلقت لتؤكل، فعلى سبيل المثال، العديد من الفواكه تعتمد على الحيوانات التي تأكل ثمارها تاركة البذور لتبدأ في الانتشار والتكاثر. والفكرة ببساطة أن الحيوانات، تماماً كالإنسان، تأكل الثمرة دون البذور تاركة إياها على مسافة ما من الشجرة الأصلية في وسط ثري بالأسمدة اللازمة لبدء عملية النمو والتكاثر. بالرغم من ذلك، فهذه الثمرة ينبغي أن تحمي نفسها من الغزاة غير المرغوب فيهم كالبكتريا والفطريات، والتي ببساطة تقضي أيضاً على البذور. والبذرة بطبيعتها غالباً ما تكون صلبة مستعصية على الكسر بل وسامة أيضاً؛ فنواة المشمش مثلاً تحتوي على مركبات السيانيد. ولنفس الأسباب الوقائية، فالأطعمة البرية تحتوي على كمية مختزنة وافرة للحراسة ضد أعداء معينين؛ فالطعام مثلنا تماماً يحارب في سبيل بقائه منذ بدء الخليقة.
إذاً، لماذا تظهر هذه الأعراض من عدم التواؤم مع الطعام؟ هل هي ببساطة مجرد تفاعل ضد السموم الموجودة بالطعام وغير المرغوب فيها بالطبع؟ الإجابة قطعاً ليست بمثل هذه البساطة. فبعد كل هذه الملايين من السنوات من النشوء والتطور، أصبح لدينا عمليات بالغة التعقيد لإزالة السموم من هذه المواد ووقاية أنفسنا من آثار تلك المواد الكيميائية. ورغم تعدد النظريات المفسرة لهذا، فللعديد منا براهينه المقبولة.
متلازمة التسرب من القناة الهضمية
أفضل ما يمكننا البدء به هو القناة الهضمية، حيث أول أجهزتنا تعرضاً للطعام. والمراجع الطبية تخبرنا بأن جزيئات الطعام كبيرة الحجم يتم تكسيرها وهضمها إلى أحماض أمينية بسيطة وأحماض دهنية وسكريات أولية، وهذه الجزيئات هي فقط ما يمر عبر جدار القناة الهضمية لداخل الجسم حيث يتم استهلاكها كمغذيات أولية. وكل ما يتعدى حجم هذه الجزيئات البسيطة الناتجة عن عملية هضم كاملة يمكننا اعتباره بمثابة عدو للجسم. فهل يمكن تفسير ما سبق بأن جزيئات الطعام غير تامة الهضم أو جدار القناة الهضمية غير تام الإحكام يؤدي إلى تسرب هذه الجزيئات وتعريضها للجهاز المناعي ومن ثم تحفيز التفاعل؟ وهذا يمكنه تفسير ما نلحظه من أن كثرة تناولنا لطعام بعينه يصاحب عادة إحداث هذا الطعام لتفاعلات الحساسية. وبالفعل، فالأبحاث الحديثة تؤكد أن هؤلاء المصابين بحساسية تجاه طعام ما غالباً ما يعانون من التسرب من جدر القناة الهضمية.
كما يعتقد د.برالي أن العديد ممن يعانون أنواع الحساسية المختلفة قد تكون مشكلتهم الرئيسية فيما تسربه جدرهم الهضمية من بروتينات غير تامة الهضم سامحة لها بالدخول إلى تيار الدم محدثة ما ينتج من تفاعلات. واستهلاك الكحوليات، والإفراط في استخدام الأسبرين، ونقص الأحماض الأمينية الأساسية، بالإضافة إلى الالتهابات أو العدوى المعوية ذاتها مثل العدوى الفطرية، كل هذه الأسباب قد تساهم في إحداث هذه المتلازمة والتي تحتاج للتعامل معها أولاً قبل محاولة علاج حساسية المريض للطعام. والنقص في المغذيات الرئيسية كالزنك قد يساعد أيضاً في جعل الجدار المعوي أكثر نفاذية مما ينبغي. والقمح هو واحد من أكثر محفزات الحساسية في بريطانيا، فإلى جانب كونه عنصراً حديثاً نسبياً في الغذاء الإنساني، لم تتم زراعته إلا من حوالي 10000 عام، كما أنه يحتوي على مادة مهيجة بشدة للأمعاء تسمى بالجلوتين. وفي الأفراد مفرطي الحساسية أو لدى هؤلاء الذين يعانون من عدم كفاءة قدرتهم على التكيف، يتم تحطيم الزوائد المبطنة للغشاء المعوي والمسماة بالخمائل، والتي نمتص عن طريقها كل ما نحتاجه من مغذيات بشكل تام عند تعرضها للجلوتين، وربما يعاني كل منا من هذه المشكلة بدرجة أو بأخرى.
الاضطرابات المناعية المتعلقة بالجهاز الهضمي
بالرغم مما قد تتحمله متلازمة التسرب بالجدار المعوي من مسئولية، فمن الصعب أن تكون هي المسئول الوحيد عما يحدث، والأدلة الآخذة في الاطراد تثبت أن الجدار المعوي ليس على درجة الانتقاء والنفاذية العالية كما كان يظن بالماضي، حتى في الأصحاء. وفي دراسة تناولت عدداً من الأصحاء البالغين طلب منهم تناول بعض من نشا البطاطس -والذي لا يمكنه المرور بالصورة الطبيعية عبر الجدار المعوي السليم- الذي تم إذابته في قليل من الماء لشربه، وبعد ما يقرب من 15-30 دقيقة تم تحليل عينات دموية من كل منهم، وصلت نسب النشا بها إلى 300 حبيبة/مل في الدم. والغريب الداعي للتساؤل أن أياً منهم لا يعاني من الحساسية تجاه أي نوع من الطعام.
والإجابة عن مثل هذا التساؤل قد تكون كامنة في تجمعات خاصة من الخلايا المناعية توجد بطول القناة الهضمية، تعرف باسم تجمعات باير، وتقوم ببساطة بأخذ عينات من الطعام الذي تتناوله، لمنع إثارة الجهاز المناعي ضده. ويبدو أن أغلب جزيئات الطعام تختلف بشكل ملحوظ عن السموم غير المرغوب فيها والكائنات الدقيقة الضارة. وهكذا، فمن الممكن أن نعزو الأمر لدى العديد من الأفراد بقصور وظيفة الجهاز المناعي الموجود بالقناة الهضمية عن منع استثارة خلاياهم المناعية المختلفة للتفاعل مع الطعام الذي يتناولونه. وفي الواقع، فإن الجهاز المناعي الخاص بهؤلاء قد يصل إلى الحد الأقصى له بمجرد وصول جزيئات أطعمة معينة. مما ينتج عن هذا من إفراز للأجسام المضادة التي تقوم بالالتصاق بالمحفز المناعي الخاص بها مكونة ما يعرف بالمتراكبات المناعية التي لها دورها في بدء الالتهابات المسببة للأعراض المختلفة للحساسية مثل الانتفاخ، آلام البطن، الإسهال؛ بل وفي التفاعل المناعي مع جزيئات الطعام غير تامة الهضم، والتي تعبر الجدر المعوية لتيار الدم محدثة آثارها المتسمة بالعمومية والانتشار.
الإنزيمات الهاضمة
ومما يفاقم كل ما سبق من مشاكل، عدم إفراز كميات كافية من الإنزيمات الهاضمة الصحيحة، مما يؤدي لزيادة كميات جزيئات الطعام الكبيرة غير التامة الهضم. وفي إحدى الدراسات على هؤلاء الذين يعانون من الحساسية تجاه المواد الكيميائية المصنعة، أسفرت النتائج عن أن 90% منهم لديهم قصور في إفراز أحد الإنزيمات الهاضمة مقارنة بنسبة 20% فقط لدى الأصحاء. وهذه الجزيئات غير تامة الهضم قد تزيد من قابلية التعرض للتفاعلات الموضعية، أو أعداد الجزيئات الضخمة العابرة لتيار الدم، أو ببساطة توفر الغذاء للكائنات الدقيقة الموجودة بالقناة الهضمية مما يؤدي إلى تكاثرها المفرط. وعادة ما يقلل تناول بعض من هذه الإنزيمات بصورة يومية من أعراض الحساسية وعدم التواؤم مع أنواع الطعام المختلفة. أما مستحضرات الزنك، فلا يمكن إنكار ما لها من أهمية نلاحظها في مدى شيوع النقص بهذا العنصر في مرضى الحساسية. ولا يقتصر دور عنصر الزنك على المساهمة في هضم البروتينات بل يتعدى ذلك إلى كونه مساهماً رئيسياً في عملية تكوين حمض الهيدروكلوريك بالمعدة.
التفاعلات المشتركة
وهناك عنصر آخر قد يساهم في إحداث أعراض الحساسية تجاه الطعام، وهو تعرض الأنف لمستنشقات قد تحفز تفاعلات معينة. على سبيل المثال، فمن المعروف أنه عند ازدياد أعداد حبوب اللقاح بالجو، يصاب عدد أكبر من الناس بأعراض حمى الهشيم المشابهة للأنفلونزا، في المناطق الصناعية الملوثة عنها في المناطق الريفية بالرغم من انخفاض نسبة حبوب اللقاح نسبياً في المدن. ولهذا يعتقد الكثيرون أن التعرض لأبخرة العوادم يؤدي لزيادة حساسية المريض تجاه حبوب اللقاح، سواء كان ذلك ناتجاً عن ضعف أجهزتهم المناعية والنفسية إثر تعرضهم لهذا التلوث وبالتالي يصبحون أقل قدرة على وقاية أنفسهم من الآثار الضارة لحبوب اللقاح، أو ناتجاً عن نوع ما من التفاعلات المشتركة غير المعروف ماهيتها على وجه التحقيق. ففي الولايات المتحدة حيث تشيع الحساسية تجاه عشب الرجود، تم ملاحظة تفاعل مشترك بينه وبين نبات الموز. بمعنى أن الحساسية تجاه نوع ما من الطعام تحفز حساسية أخرى تجاه نوع آخر. وهناك حالات مشابهة لذلك في مرضى حمى الهشيم تجاه حبوب اللقاح والقمح والألبان ومنتجاتها.
والنظرة الآخذة في التكون الآن، والتي يؤمن بها العديد من أخصائي علوم الحساسية هي أن الحساسية تجاه الطعام، ظاهرة ناتجة عن عوامل شتى قد تتضمن سوء التغذية، التلوث، الاضطرابات المعوية، التعرض المفرط لنوع معين من الطعام. وتجنب الطعام موضع التساؤل قد يساعد جهازك المناعي على التعافي، ولكن دون إهمال التعامل مع سائر العوامل الأخرى إذا أردت حقاً إحداث أثر ذي شأن على المدى الطويل في عدم تواؤمك مع الطعام.
مدمنو الطعام
من الجدير بالذكر، ما وجدناه لدى هؤلاء الذين يعانون من حساسيات الطعام بأنواعها في لهفتهم المبالغ فيها تجاه ذات الطعام الذي يؤدي إلى إصابتهم بالحساسية، وولعهم المفرط بالاستمرار في تناول هذه الأطعمة التي تضر بهم رغم ما يصفونه هم أنفسهم من أثر هذا الطعام عليهم وإحساسهم عقب تناوله بالخدر والخمول؛ بل وفي بعض الحالات المرح والهوس الصاخب. وهنا يلعب الطعام دوره كحيلة نفسية للهروب من أي مواقف غير مريحة. ربما تصل في درجتها إلى التشابه مع ما تحدثه العقاقير المخدرة من آثار نفسية وعضوية دون معرفة ما هو السبب الحقيقي في هذا التشابه.
فعندما يبدأ الألم، وهو المنبه الرئيسي لأي خلل عضوي في تعدي دوره اللازم للاتزان الحيوي في الجسم، يقوم الأخير بإفراز مواد كيميائية تعرف بالإندروفينات، بمثابة مضادات الألم الطبيعية، تعمل عبر اتحادها مع مستقبلات خاصة بخلايا بتثبيط الإحساس بالألم؛ بل والإحساس بالانتشاء والسعادة. والأفيون بمشتقاته المختلفة يشبه هذه المواد في تركيبها الكيميائي وقدرتها على الاتحاد مع ذات المستقبلات، مؤدياً نفس الوظيفة المضادة للألم.
وهذه الإندورفينات سواء منها الطبيعي المصنع داخل الجسد أو الذي يتعاطى في صورة عقاقير، ما هي إلا ببتيدات تتكون من مجموعات صغيرة من الأحماض الأمينية المتحدة معاً، في صور أصغر من البروتينات لكنها أكبر من الأحماض الأمينية المفردة. وعندما تقوم بهضم أي بروتين تتناوله في غذائك، فإنه يتحول أولاً لمجموعة من الببتيدات، ثم إذا كانت وظائفك الهضمية تعمل بإحكام، يتحول إلى أحماض أمينية مفردة. أما في المعمل، فتم الحصول على ببتيدات مماثلة للإندورفينات من القمح والألبان والذرة، وذلك باستخدام الإنزيمات الهاضمة لدى الإنسان. وهذه الببتيدات أظهرت قدرتها على الاتحاد بمستقبلات الإندورفينات. هذا ويبدو أن الأبحاث الأولية في هذا المجال تشير إلى كون بعض الأطعمة، لاسيما القمح والألبان، قد ينتج عنها إحساس إيجابي مؤقت، حتى إذا كانت آثارها على المدى الطويل تؤدي لاضطرابات صحية.
ومن الشائع جداً أن تجد أن الأطعمة غير الملائمة لجسدك هي ذاتها الأطعمة التي “لا يمكنك العيش دونها”. وهذا بالضبط ما يحدث في العديد من حالات حساسية الطعام، فأنت إذا توقفت عن تناول هذا الطعام، قد تسوء حالتك لفترة قليلة قبل شعورك بالتحسن العام. فبعض المواد لها خواص إدمانية في طبيعتها، ربما مثل السكريات والكحوليات والقهوة والشيكولاته والشاي، خاصة شاي الأيرل الرمادي بما يحتويه من مادة البرجاموت. فأنت قد تتفاعل مع مثل هذه المواد حتى دون إصابتك بالحساسية، والقمح والذرة والألبان قد تضاف لهذه القائمة على أساس آثارها المشابهة للإندورفينات.
الحد من فرصتك في التفاعلات المرضية
يوجد عدد لا بأس به من الأسباب لإصابة أي منا بالحساسية تجاه الطعام، يأتي في مقدمتها النقص بالإنزيمات الهاضمة، التسرب من الجدار المعوي، التعرض المتكرر للأطعمة التي تحتوي على كيميائيات مهيجة، الضعف المناعي الذي يؤدي لزيادة حساسية الجهاز المناعي، اختلال التوازن الحيوي للكائنات الدقيقة في القناة الهضمية، مما يؤدي لمتلازمة التسرب من هذه القناة، وأسباب أخرى كثيرة دون شك. ولحسن الحظ، توجد العديد من الاختبارات المعملية للتعرف على نقص الإنزيمات الهاضمة ومتلازمة التسرب من القناة الهضمية ومدى التوازن ما بين البكتريا والفطريات في القناة الهضمية، وهي متوفرة في NHS، ولكن يمكن أداؤها أيضاً لدى أطباء التغذية بل والأطباء من التخصصات الأخرى المهتمين بعلوم التغذية.
وبالإضافة لتعرفك على الطعام الذي يسبب لك الحساسية وتجنبه، يمكنك فعل الكثير للحد من فرصتك في التعرض لهذه الحساسية.
فالإنزيمات الهاضمة المركبة التي تساعد في هضم الدهون والبروتينات والنشويات (حيث تحتوي على إنزيم الليبيز للدهون، أميليز للنشويات، بروتييز للبروتينات) يمكنك الاستفادة منها دون قلق، حيث إن الحمض المعوي والإنزيمات الهاضمة للبروتينات تعتمد بشكل كبير على عنصر الزنك وفيتامين “ب6″. يمكنك تناول 15 مجم من الزنك، 50 مجم من فيتامين “ب6″ مرتين يومياً مع بعض الإنزيمات الهاضمة في كل وجبة.
فحتى القناة الهضمية المصابة بزيادة التسرب يمكن علاجها. فالأغشية الخلوية تتكون في الأساس من مركبات شبه دهنية، وهناك حمض دهني واحد يسمى بحمض البيوتيريك يساعد في التئام الجدار الهضمي، ومتوسط ما نحتاجه لذلك 1200 مجم يومياً. أما الأحماض الدهنية الأساسية الأخرى كاللينوليك واللينونيك، فلها أهميتها في الحفاظ على النسبة الصحيحة من النفاذية بالجدار الهضمي. والحبوب مثل السمسم وعباد الشمس تحتوي على كميات وافرة من هذه المواد. أما فيتامين البيوتين جنباً إلى جنب مع فيتامين “ب6″ والزنك والمغنسيوم فيساعد الجسم في الاستهلاك الأمثل لهذه المواد. وفيتامين “أ” أيضاً له دوره الحيوي في الحفاظ على كافة الأغشية المخاطية ومن ضمنها ذلك المبطن للقناة الهضمية. وتناول هذه المواد مجتمعة يساعد مما لا شك فيه في التئام القناة الهضمية زائدة التسريب.
أما البكتريا النافعة مثل “اللاكتوباسيلاس أسيدوفيلاس” أو “بيفيدس” فيمكنها أيضاً المساعدة في تهدئة القناة الهضمية إذا كان ذلك التفاعل ناجماً عن تكاثر نوع خاطيء من البكتريا. أما في التهابات الكانديدا الفطرية، فينبغي التعامل مع الأمر بخطط أكثر تعقيداً، وينبغي تنفيذها تحت إشراف طبيب تغذية متخصص.
كما أن تقوية جهاز المناعة تساعد في الحد من فرط حساسية الجهاز المناعي.
كيف يمكننا اختبار تشخيص الحساسية وعدم التواؤم
ربما لا يوجد ما يمكنني الثقة به في كافة الطرق والوسائل لتشخيص الحساسية سوى تجنب الطعام. فببساطة إذا كان تجنب نوع معين من الطعام يؤدي للإقلال من الأعراض، كما يؤدي إعادة تناوله لتفاقمها مجدداً، يمكنك استنتاج عدم تواؤمك مع هذا الصنف من الطعام ببساطة. ولهذا يمكنك مراجعة كافة الفحوصات الأخرى في ضوء هذا الاختبار البسيط: ابتعد عن هذا الطعام الذي تشك فيه، ولاحظ مدى الاختلاف. الدليل سيظهر سواء عند تناولك له أو ابتعادك عنه.
وبمعرفة أن بعض الأطعمة قد يكون لها أثرها الإيجابي على المدى القصير، وبعضها له تفاعلات مؤجلة، يصبح من الأفضل تجنب كافة أنواع الأطعمة المشتبه بها لفترة لا تقل عن الأسبوعين، والأفضل أن تصل بها لشهر كامل. وإذا لم تكن قد عرفت بعد ما هو الطعام الذي تتفاعل ضده، فأفضل ما يمكنك إحرازه من نتائج سيكون بتناولك لطعام بسيط العناصر يتكون من الأغذية غير المعروف عنها استثارتها للحساسية. والغذاء الشعبي المعروف بهذا الصدد هو لحم الحملان والبيرة في المملكة المتحدة، وعن نفسي أفضل تناول كوب من عصير التفاح أو تفاح بالإفطار، مع بعض الأرز والخضراوات للغداء والعشاء. وهذه الوجبات من الصعب المواظبة عليها لفترة تتجاوز الأسبوعين كما أنها ليست بالنموذجية تماماً من الناحية الغذائية لهذا:
1. تجنب تماماً طعامك المشتبه به لمدة أسبوعين.
2. في اليوم 15، يمكنك قياس نبضك في وضع الراحة وعدده في الدقيقة.
3. ثم تناول كمية أكبر مما اعتدته من هذا الطعام (3 قطع من الخبز إذا كنت تتجنب القمح)
4. قم بقياس نبضك مرة أخرى عقب عشر دقائق، نصف ساعة، ساعة كاملة.
وإذا زاد معدل نبضك بمقدار 10 نبضات في الدقيقة، أو إذا لاحظت بدء ظهور أي أعراض خلال اليومين التاليين، فأنت مصاب بدرجة من درجات الحساسية أو عدم التواؤم مع هذا الطعام. والأعراض سالفة الذكر أكثر أهمية ودلالة من زيادة النبض؛ حيث إن بعض الأطعمة قد تزيد من نبضك دون أن يعني ذلك تفاعل حساسية ما. وإذا كنت تختبر أكثر من نوع من الطعام، وإذا تسبب الأول في تفاعل ما، ينبغي عليك الانتظار ليومين آخرين قبل اختبار الصنف التالي، أما إذا لم تظهر أي أعراض، يمكنك تناول الصنف الآخر في اليوم التالي.
وإذا كنت أصبت من قبل بأي تفاعلات شديدة للحساسية، أو الربو الشعبي، فلا ينبغي أن تعرض نفسك لهذا الاختبار دون إشراف طبيب أو أخصائي تغذية متخصص. وإذا كنت ترجح إصابتك بالحساسية أو عدم التواؤم مع الطعام، ينبغي عليك التعاون مع أخصائي تغذية مدرب على التعرف على أي أصناف الطعام تصيبك بالحساسية، والتخطيط للحد من قدرتك على التفاعل مع هذه الحساسية.
اختبار الحساسية المتعلقة بالأجسام المضادة IgG
النوع الأول من الاختبارات البعيدة عن القياس الكمي المباشر والفوري للأجسام المضادة من النوع IgE هي اختبارات الخلايا السامة. وهي اختبارات من شأنها ملاحظة التغيرات الحادثة للخلايا المناعية التي تسمى “النيوتروفيلات”، والتي تقوم بالتخلص من المتراكبات المناعية الناتجة عن تفاعل المحفزات المناعية مع أجسامها المضادة. وهذه الاختبارات يعتقد أنها تقوم بقياس درجة نشاط الأجسام المضادة IgG.
والطريقة المثالية لقياس الحساسية من هذا النوع، هي تقنية حديثة نوعاً ما، تم تطويرها خلال التسعينيات من القرن 20، أشهرها الطريقة المعروفة باسم “إليزا” ELISA، والتي توفر نتائج أكثر مصداقية وشفافية من اختبارات سمية الخلايا المعتادة. وفي الواقع، فكلا النوعين من الاختبارات غالباً ما يختلف في نتائجه عن الآخر. وأحد الاحتمالات أن كلاً منهما يقوم بقياس نوع مختلف من التفاعلات، أما الآخران فأحدهما أو كلاهما لا يمكن الوثوق بنتائجه.
إلى أي مدى ينبغي عليك تجنب هذا الطعام؟
وهذا السؤال مطروح بقوة، دون إجابات محددة حتى الآن. الأطعمة المستثيرة للتفاعل الفوري والظاهر بشدة معتمدةً على الأجسام المضادة IgE ينبغي تجنبها مدى الحياة؛ حيث إن ذاكرة هذا النوع من الأجسام المضادة تكاد تكون طويلة المدى. وفي المقابل، فخلايا “ب” B Cells المناعية المنتجة للأجسام من النوع IgG، يصل متوسط عمرها النصفي إلى 6 أسابيع، مما يعني أن نصف العدد الموجود بالفعل يختفي كل 6 أسابيع، وبالتالي تصبح ذاكرتها قصيرة الأمد. وفي غضون 6 أشهر لا يتبقى بالفعل أي قدر من هذه الذاكرة تجاه الطعام الذي قمت بتجنبه. وبينما تظهر هذه الفترة (6 أشهر) مثالية نوعاً ما، قام العالمان “هوي” و”برالي” بالتوصل لنتائج جيدة في فترة لا تتعدى الشهر. والخيار الآخر هو في التجنب التام لمدة شهر واحد ثم التحايل بهذا الطعام بتناوله مرة واحدة فقط كل 4 أيام، مما يقلل بشكل ملحوظ من تراكم المتراكبات المناعية وبالتالي من أعراض الحساسية. والأطعمة مثل القمح واللبن صعبة الهضم بطبيعتها ولذلك يصبح من الأفضل تجنبها بقدر الإمكان.
وتلخيصاً لما سبق، إذا اشتبهت في إصابتك بحالات من الحساسية، فعليك باتباع ما يلي:
• تجنب الأطعمة المشكوك فيها لمدة 14 يوماً ثم أعد إدخالها إلى نظامك الغذائي، الواحد منها تلو الآخر، مع ملاحظة أعراضك، أو اطلب إجراء اختبار للحساسية.
• تجنب الأطعمة التي اختبرت حساسيتك لها لمدة ثلاثة أشهر بينما تقوم بتحسين نظامك الغذائي لتتيح الفرصة لجهازك الهضمي أن يشفى وتزول حساسيته.
• أعد إدخال الأطعمة المحفزة للحساسية الواحد منها تلو الآخر بعد ثلاثة أشهر، على أن تقلل عدد مرات تناولها، ويفضل ألا يزيد المعدل عن مرة كل أربعة أيام، وذلك لتقليل احتمال إصابتك بالحساسية للطعام مرة أخرى.