تحدث المناعة الذاتية Auto-immunity حينما يهاجم جهاز المناعة نفسه؛ ويحدث هذا على الأرجح لأنه لم يعد يستطيع التعرف على أفراد قواته المسلحة من الخلايا المناعية. ولكي تفهم هذا الأمر يجب أن تفهم النظرية التي توضح كيف يخبرنا جهاز المناعة بالفرق بين الذات وبين الدخيل الغازي (أي غير الذات).

التمييز بين الصديق والعدو

كيف تعرف الخلايا البيضاء المدافعة ما يجب أن تهاجمه وما يجب أن تدافع عنه؟ الإجابة عن هذا السؤال تكمن في ذلك “الحاسب الآلي” المهيمن على جهاز المناعة والذي يسمى الغدة الثيموسية. فمنذ أن كنت جنيناً لم تولد بعد وتلك الغدة تمنح كل خلية من خلاياك “قرصاً أو بطاقة للهوية” مع شفرة يتم تسجيلها في “بنوك الذاكرة” الخاصة بها.
والآن فكر في جسدك باعتباره بلداً أو وطناً؛ كل خلية فيه قد تم تعليمها التحدث بنفس اللغة ولتكن الإنجليزية. وهكذا يمكنك على الفور أن تتعرف على شخص ما ينتمي إلى وطن آخر لكونه يتحدث بلغة مختلفة. وحينما يتعرف جيش جهازك المناعي على كائن أجنبي أو غريب فإنه يفترض على الفور أنه دخل وطنك لكي يهاجمه ولهذا فهو يوقف ذلك الدخيل ويدمره.

وفيما يلي ثلاث مشكلات يمكن أن تنشأ في هذا الشأن:

1. قد لا يكون الكائن الغريب ضاراً أو معادياً؛ بل ربما يحاول أن يكون نافعاً؛ مثل قلب تمت زراعته حديثاً. ومن أجل إيقاف التعرف على عضو ما باعتباره دخيلاً، يجب على الأطباء أن يعطوا المريض (الذي زُرع فيه أحد الأعضاء) عقاقير مثبطة للمناعة.

2. قد يفد شخص فرنسي مثلاً إلى إنجلترا ويتحدث الإنجليزية بطلاقة لدرجة أننا قد لا نتعرف عليه كأجنبي. ويحدث موقف
مماثل إذا دخل فيروس ما إلى جسدك وحاول دخول إحدى خلاياك قبل أن يُلقى القبض عليه. وحينئذ يتعرف جيشك المناعي على خليتك، وليس بالضرورة على الدخيل المختبئ في داخلها، لذا فهو لا يهاجمه. وفي نفس الوقت ينتهز الفيروس الفرصة ويضع يده على مادة الـ DNA بالخلية ويستعين بها في صنع مادة الـ DNA الخاصة به هو بدلاً من التي تخص الخلية؛ وهكذا تصنع خليتك مئات من الأعداء الجدد! ولكن يوجد في جسدك نوع من الخلايا المناعية يسمى خلية T السامة للخلايا -وقد نوهنا عنها آنفاً- وهي مبرمجة للتعرف على هذه الخدعة. وحينما تجد هذه الخلية نفسها إزاء لغتين مختلفتين فإنها تقوم بتدمير الفيروس والخلية العائلة له أيضاً، لذا فإن الأمر يعتمد على الحظ أو على وجود جهاز مناعي فعال حتى يتم اكتشاف الفيروس، أو عدم اكتشافه، في الوقت المناسب.

3. والمشكلة الثالثة هي الأمريكي الذي يتحدث الإنجليزية كلغة أصلية، مع أنه ليس إنجليزي الجنسية. وعلى هذا فإن الخلايا المناعية «الإنجليزية» تتعرف على ذلك الأمريكي الأجنبي باعتباره إنجليزياً فتتركه وشأنه. وقد لوحظ أن الميكروب المسبب لمرض الزهري (ويسمى التريبونيما) يتخذ مثل هذا الوضع. فالأنتيجين أو قرص الهوية الذي على سطحه يشبه تماماً ما يقابله على سطح بعض الخلايا العضلية لقلب الإنسان، وهو ما يسمى بالليبين القلبي أو الكارديوليبين. لذا فإن بإمكان بكتريا التريبونيما هذه أن تنشر الفوضى في الجسم لفترة ما قبل أن يتم تدارك المشكلة. وحينما يدرك جهاز المناعة بعد ذلك العدو الحقيقي المسبب للضرر، فإنه يهاجمه. ولكنه وهو يفعل هذا يهاجم أيضاً عضلة القلب التي تتميز بنفس الشفرة. وفي وقتنا الحاضر صار من الممكن القضاء على التريبونيما بسهولة، ولكن من المهم أن يتم هذا قبل أن يتعرف عليها الجسم باعتبارها غريبة عنه. وإلا فإن جهاز المناعة سيبدأ الهجوم على عضلة القلب (بالإضافة إلى هجومه على التريبونيما) ويستمر في هذا الفعل حتى بعد أن يتم القضاء على التريبونيما!

كيف تتم كتابة بطاقات الهوية؟

من الواضح بالطبع أن خلايانا لا تتكلم ولا تكتب (وإن كنا نقول ذلك على سبيل المجاز). وإنما تتم كتابة أقراص (أو بطاقات) الهوية باستخدام الأحماض الأمينية. فالخلية التي تحمل قرصاً مكتوباً عليه كلمات إنجليزية مثل ship أو star قد يتم التعرف عليها على أنها skin (أي خلية جلدية) أو liver (أي خلية كبدية) أو أية خلية أخرى تنتمي إلى الجسم ذاته، فيتركها جيش الجهاز المناعي وشأنها دون أن يمسها بسوء. وهذا في حين أنه يقوم بتدمير الخلايا التي تحمل كلمات مثل foyg أو fdbg. وهو جهاز ماهر وذكي جداً، ولكن كما هو الحال في كل أجهزة الجسم، فإنه معرض لبعض المشكلات.
وأولى تلك المشكلات أن الجسم إذا وقع في خطأ هجائي بسيط فكتب كلمة stau (مثلاً) بدلاً من كلمة star، فسوف يقوم جهاز المناعة بتدمير الخلية الحاملة للكلمة الخطأ. وهذا الخطأ قد لا يكون مهماً إذا كان مجرد خطأ واحد منفرد، ولكن إذا استمر الجسم في كتابة كلمة stau، فسوف يتبع ذلك حدوث مرض المناعة الذاتية، حيث تقوم الخلايا المناعية للجسم بتدمير خلايا الجسم ذاتها؛ لأن الكلمة أو العبارة المكتوبة عليها خطأ.

وثاني تلك المشكلات أن الخلايا المناعية حينما تصاب بالإجهاد من كثرة العمل أو تكون غير مجهزة بما يكفي من أدوات لازمة للعمل، فقد تقع في الخطأ فلا تتعرف على كلمة إنجليزية باعتبارها إنجليزية. وفي هذه الحالة قد تهاجم خلايا الجسم ذاتها في إطار استجابة مناعية ذاتية.

كيف تحدث الأخطاء؟

تعتبر المناعة الذاتية في جوهرها مشكلة لغوية؛ إذ تتضمن أخطاء في الفهم نتيجة لأخطاء في المحادثة (أو التواصل اللغوي). ومن المثير للدهشة أن أخطاء جهاز المناعة لا تزيد في واقع الأمر عن الأخطاء اللغوية الحقيقية. فالشخص المتوسط المتحدث بالإنجليزية لديه حصيلة من الكلمات تساوي مائة ألف كلمة تقريباً؛ ومع ذلك فإننا دائماً ما نقع في أخطاء لغوية. وأما جهاز المناعة فيمكنه صنع حوالي 10 ملايين “كلمة”!

ومن أمثلة أمراض المناعة الذاتية: الأنيميا الخبيثة وأنيميا تحلل الدم، ومرض أديسون، والذئبة الحمراء، والالتهاب المفصلي الروماتويدي. ومن المرجح أن مرض التهاب القولون التقرحي يرجع إلى حدوث التباس بين سمة أو علامة مميزة توجد على القولون (الأمعاء الغليظة) وبين نوع من البكتريا يسكن الأمعاء ويسمى “إي. كولاي”. لذا فإن الخلايا المناعية تهاجم كليهما مما يسبب التهاباً بالقولون. ويوجد مثال آخر يثير الاهتمام، هو المني (أو السائل المنوي). فنظراً لعدم وجود سائل منوي في الطفل الوليد، فإنه لا يتم التعرف عليه كجزء من الجسم ذاته، ولذا فإنه يبقى منفصلاً عن الخلايا المناعية فلا تهاجمه. ولكن توجد حالة نادرة من مضاعفات مرض النكاف يمكن فيها أن يهاجم الفيروس (المسبب للمرض) الغشاء الفاصل الذي يحفظ في داخله الخلايا المنوية، لذا، فحين يفشل جهاز المناعة في التعرف على تلك الخلايا المنوية باعتبارها جزءاً من الجسم ذاته فإنه يهاجمها. وكذلك فإن الشيء نفسه ينطبق على بروتين يوجد في عدسة العين ولا يتم التعرف عليه باعتباره جزءاً من الجسم ذاته فيبقى داخل محفظة العدسة في مأمن من الخلايا المناعية، إلا إذا حدث ما يعكر صفو تلك الحماية فيحدث الهجوم المناعي والالتهاب.

وكل خلايا جسدك لديها ما يخصها من هوية ووظائف واحتياجات. ولكي تبقى في صحة وعافية يجب أن تعيش الخلايا وتتعايش معاً في ألفة وانسجام. ولسوء الحظ أن هناك أعداء كثيرين يمكنهم أن يلحقوا الضرر بهذه الحالة المثالية؛ بدءاً من سوء التغذية وقلة الرياضة إلى التلوث البيئي والتوتر الجسدي والنفسي. وحينما تخرج الأمور من دائرة السيطرة يمكن أن ترتكب الأخطاء وأن تنشب الحرب الأهلية. لذا عليك بالعناية بجيشك الداخلي؛ فيوماً ما قد تتوقف عليه صحتك وحياتك.

المراجع

موقع طبيب

التصانيف

طبيب  العلوم التطبيقية  الطبي