كما عرفنا سابقا كان السجن يضم العديد من رؤساء العصابات الخطيرة، والعشرات من التابعين، ومن جنسيات العالم المختلفة، وكلهم يعانون مما عاناه عبدالله في بدايته، معاناة اللغة والقدرة على التعامل مع العالم الخارجي، وكان السجن هوالمقر الأساسي لكل هذه العصابات لإدارة أعمالها في الخارج.
 
كان السجن هوالإدارة لكل عصابة والتنفيذ يتم خارجا أوداخل السجن كذلك كما عرف عبدالله بعد ذلك، كان السجن منبع كل الصفقات التي تتم بين العصابات في ما بينها أومع أطراف خارجية سواء كانت في تايلندا أوخارج تايلندا، أدرك عبدالله بذكائه أن وقود بقائه يتمثل في فهم لعبة المصالح هذه التي تحكم كل الأطراف، كان العالم باسره متجسدا في هذا السجن العملاق، كل الأديان والأطياف العرقية موجودة ضمن هذا العالم المصغر، كانت تجربة انسانية فريدة ولا تتوفر دائما بل تكاد تكون نادرة التوفر، لذلك كان لزاما عليه دخول المرحلة الثانية من مراحل تحدي المستحيل، وهذا المستحيل يتمثل في جعل كل من في السجن بادارته وسجانيه ومسجونيه يدور في فلكه ويجعلهم محتاجين اليه، كلهم على حد السواء، مما يجعل الحفاظ على حياته أمرا يسيرا وتحويل الحفاظ على هذه الحياة أمرا منوطا بغيره من رؤساء العصابات المختلفة والمتناحرة، كيف ذلك؟ وماذا سيفعل بالضبط؟ أحس عبدالله خلال المدة التي قضاها أن عائق اللغة بقي حاجزا أمام الإدارة لتنسيق الأمور كما يجب في السجن، وأمام السجناء في ضبط أمورهم مع الإدارة ومع الخارج.
 
وامام رؤساء المصالح داخل السجن وخصوصا الأجانب منهم في تصريف تجارتهم كما ينبغي، لذلك حدد ابرز المحتاجين له وحدد لغاتهم وبدأ أولى الخطوات في تعلم 5 لغات أجنبية دفعة واحدة متسلحا بعزيمة فولاذية لا تكل ولا تمل، ليلا ونهارا، مقتنصا كل فرصة مهما كانت صغيرة ومهما كان الطرف المقابل تافها، المهم أن لا يخرج فارغا من أي لقاء مهما كان، حتى ولوكان كلمة جديدة واحدة، واستمرت هذه الرحلة بشكل ناجح لا يتخيل وساعدته معرفته التي اصبحت وثيقة بالحراس في توفير المواد الدراسية التي يحتاجها من مكتوبة وصوتية مع توفر الجوالتطبيقي مع سجناء كل لغة، ومع تواصل الطريق بدأ يلفت الأبصار اليه من كل الأطراف، رؤساء ومرؤوسين، هذا الشاب العربي المسلم الذي بالكاد يحسب في ما مضى قلب كل المعطيات بالعزيمة التي لا يمكن تصور حجمها، وبعقلية لا تؤمن بالمستحيل، وبدأت ثمار مجهوده تتوضح رويدا رويدا.
 
والكثير من نزلاء السجن ممن يعرفه قدروا له الجنون الأكيد بعد بعض الوقت لأن المجهود الذي يبذله كان فوق طاقة البشر العادي، وأقرب المقربين له كان يسأله باستمرار: يا عبدالله، أنت محكوم بـ 50 سنة، فلماذا تفعل كل هذا؟ لماذا تناضل من أجل شيء من المستحيل بلوغه وحتى لوبلغته، ماذا ستجني؟
 
أنت دخلت السجن وفي دماغك أربع لغات هي العربية والفرنسية والأنقليزية والإيطالية فلماذا الخمس لغات الجديدة، فلا يستطيع الرد عليه الا بشيئين الأول أن ذلك لتمضية الفراغ القاتل وثانيا سوف تدرك هدفي لوأحياني وأحياك الله.
 
بدا عبدالله يحرر الرسائل للمساجين الذين لا يعرفون الكتابة والقراءة الى ذويهم عبر مناطق العالم المختلفة، ويحرر مطالب العفوالملكي لمن يريد من المساجين ويحرر كل مراسلات رؤساء العصابات الى اتباعهم في الخارج بلغات غير التايلندية خوفا من اكتشافها من طرف ادارة السجن ويحرر كل المراسلات التي تتم بين كل الأطراف سواء كانت تجارية أوشخصية.
 
ووصل الأمر الى تحرير طلبات الترقية أوالنقلة للحراس وكل ذلك بثمنه وفق القدرة والمكانة وأهمية المراسلة، وزاد نجاحه لأنه كان صندوقا مغلقا، فما وصل دماغه يفجر السجن على الجميع لوتكلم ولكن المصلحة حتمت أن يكون أمين سر الجميع، وتسعيرته تنطلق من المجانية للرؤوس الكبيرة ومفتشي السجن الى الـ 10 أو20 دولار للخدمة الواحدة لباقي الحرفاء.
 
أصبح عبدالله السجين الظاهرة في السجن، أصبح السجين الوحيد المعروف بالإسم لدى كل نزلاء السجن والإدارة، ومع تطور قدرته في الإلمام باللغات المختلفة تتطور مداخيله، وأصبح مع الوقت أهم شخصية نزلت في عنابر أقبح سجن تايلندي على الإطلاق.
 
لفت عبدالله الأنظار اليه من الحراس وكثر الحديث حوله وعليه في كواليس الإدارة ووصل أمره الى آذان المسؤولين الكبار بالسجن، وبدأت تعد شيئا فشيئا مفاجأة جديدة لعبدالله تصعد به الى سلم عالي فوق الجميع، أدركت إدارة السجن أنها أمام ظاهرة جديدة لم تشهدها من قبل، ظاهرة شاب صغير السن، ومن أقصى شمال إفريقيا، ومن تونس هذه الدولة الصغيرة التي يجهلون عنها كل شيء،ومحبوب من الجميع، يتكلم ويكتب وبطلاقة تامة 9 لغات، لماذا لا تستغل الأمر ويكون أحسن وسيلة للتفاهم بين الإدارة وبين المساجين الأجانب، فكل مشاكل السجن نتجت من عدم التفاهم اللغوي خصوصا، وقد كان ذلك، ووفق ما قدر عبدالله من البداية وأصبح سفير الإدارة لدى السجناء وسفير دولة المساجين لدى الإدارة.
 
  هذه الوضعية الجديدة كيف تمت وما هي آلياتها وما تاثيرها على بطل قصتنا والمغنم الذي كسبه وكيف أنها كانت سببا في في منعرجات أخرى مشوقة ورائعة وخطيرة أيضا.  
 
كل ذلك تطالعونه في الفصل القادم ان شاء الله تعالى  

المراجع

alabkari.com

التصانيف

روايات  كتب   الآداب