كما طالعتم سابقا، السجن الذي نقل اليه
عبدالله ليس سجنا عاديا، هويوصف بأي شيء الا أن يكون سجنا فلا يمكن ذلك، كان كبيرا
جدا وعدد النزلاء به لا يمكن عدهم للنزيل العادي، كان ينزل به علية القوم من محترفي
الإجرام، رؤساء عصابات مخدرات وعصابات دعارة وعصابات قتل مدفوع الأجر ولكل رئيس من
هؤلاء أتباع كثر داخل وخارج السجن ولكل دوره العملي والإستخباراتي الخاص بعصابته،
كذلك لهذه العصابات قوانينا ردعية خاصة بها وقوانينا تحكم كل العصابات في ما بينها،
مع ارتباط وثيق بشبكات أخرى خارج السجن وبتنسيق مع أطراف من مشرفيه وفق مصالح
معقدة، مما أخرج دولا صغيرة داخل هذا السجن الكبير الذي لا مجال للحياد فيه،
فالنزيل مجبور على الإنتماء، ليس أن تنتمي للإسلام أوللمسيحية أوتكون اشتراكيا أوراسماليا
ولكن أن تنتمي لعصابة من العصابات، على الأقل من أجل الحماية.
كان عبدالله، هذا الشاب الصغير وقليل التجربة أمام الطوفان، طوفان
لا يرحم، حاول بالذكاء الفطري الذي وهبه إياه الله المحافظة على توازنه في هذا
البحر المتلاطم، الذي يكفي فيه أن ترفض اعطاء سيجارة لتجد أمعاءك خارج جسمك.
مع الوقت تمكن من إدراك اللعبة رويدا رويدا، يجب الوقوف على الحبل
أمام كل هذه التيارات، والنوم نوم الذئب، عين مقفلة والأخرى مفتوحة، وزادته تماسكا
المعارك الطاحنة والرهيبة التي دارت قربه أوحوله أوشاهدها من بعيد بين العصابات
المتناحرة وشاهد الموت بأم عينيه عشرات المرات، ووفق قانون السجن الذي يلعب على
تحقيق التوازن بين كل العصابات، يدفن الموتى سرا وتتواصل الحياة عادية كأن شيئا لم
يكن، كانت الحياة داخل السجن مثل الحياة فوق لغم لا تدري متى ينفجر، أدرك معز أنه
من المستحيل أن يواصل حياة المائة سنة ضمن هذا الصراع اليومي من أجل البقاء، فبدأ
طريق التحدي، تحدي المستحيل، وجد أن التعامل مع ادارة السجن متعب لدرجة لا توصف
لأنه لا يحسن اللغة التايلندية، لغة أهل البلد، فبدأ في التحدي الأول وهوتعلم لغة
البلاد الأصلية مع إحاطة كاملة بتاريخ وإثـنيات وأديان تايلندا، يجب أن يكون
موسوعة متحركة لكل ما يهم تايلندا، كان أمرا جنونيا أن تتعلم شيئا في ظل هذا
الصراع اليومي المتصاعد، ولكنه صمم وانتهى التفكير، فخلاصه في هذا المستحيل الذي
يجب الوصول اليه، وبدأت الرحلة بتعب في البداية لأنه نعت بالمجنون، شاب عربي مسلم
في أقبح سجن في العالم يتعلم اللغة ويتعلم حضارة بلد بأكمله، ولكنه صبر أمام كل من
استهزأ به ولم تمض سنة الا وأحكم القبض على عائق اللغة الأم، صار يكتب ويتكلم
اللغة التايلندية وكأنه فرد منها، كان أهم ما يحتاجه الوقت، وهذا متوفر بشكل كبير،
وكم من مرة كان يراجع دروسه بين ضربات الخناجر والسيوف وكل أدوات القتال المشهورة
في عالم الإجرام، كان هدفا يجب الوصول اليه ووصل، وجد أن المائة سنة مسافة كبيرة
عليه محاولة انقاصها، وكان يستغل كل التقاء مهما كان قصيرا بأحد مفتشي السجن أوالحراس
أوأي عون إداري ليحييه بلغته الجديدة، وكما تعلمون فاننا نسعد عندما يكلمنا أحد
الأجانب بلغتنا العربية، عبدالله فعل نفس الشيء، لدرجة أصبح كل اختلاف عادي حول أي
شيء مرتبط بتايلندا، حتى من طرف أهل البلد من المساجين أوالحراس، هذا الإختلاف
يحله عبدالله بثقافته الواسعة في الميدان، وظف ما يعرف ليكسب كل الفئات من نزلاء
السجن سجناء وإدارة، اهتم بجغرافية تايلندا، وكل ما يهمها وهذا قاده لمعرفة
البوذية ودراستها باعتبار أن 95 في السكان من أتباعها وكسب كثيرا من هذه المعرفة
فالمقدسات مهمة جدا أوأولنقل احترامها هوالمطلوب للأجنبي حتى عند التعامل مع مجرم
أوقاتل، ودرس النصرانية باعتبار أن كل من ينحدر من أصول اروبية في تايلندا يتبع
الدين المسيحي، وهومسلم، سوف يعرف كيف يتعامل مع السجناء أوالحراس المنحدرين من
شعب الملايو، فشعب الملايوبتايلندا يدينون بالإسلام، بدأ رويدا رويدا يكسب احترام
الجميع، وهذه المعرفة اللامحدودة والثقافة الخارقة للعادة حول كل ما يهم البلد خلق
للأعوان نوعا من الإرتياح تجاه هذا الغريب، الذي يحذق لغتهم وكانه ولد بها، ويعرف
دينهم وكأنه أكبر رجال دينهم، ويعرف اقتصادهم وكأنه دكتور في الميدان، ويعرف أسماء
مدنهم وعاداتهم في مسراتهم وأتراحهم، بل حتى معاني أسمائهم، كل شيء، كان تحديا
كبيرا منه ومستحيلا يصعب ادراكه ولكنه كسبه أخيرا، وبدأ حجمه يكبر ويكبر وفي مرة
من المرات اقترب منه أحد الحراس وقال له بما يشبه الوشوشة، فالأوامر واضحة وصارمة
وهي عدم إعلام السجناء بأي شيء وخصوصا ما يتصل بحقوقهم، هذا الحارس وشوش له بكلام
مختصر ومفيد لأبعد الحدود، فقد قال له: لماذا لا ترفع التماسا للملك طالبا عفوا
ملكيا، خصوصا أنك ماهر في الكتابة، وإدارة السجن تعجز عن رفض هذا الطلب خصوصا وهوموجه
لأعلى هرم السلطة الملكية، كان عبدالله يعرف تاريخ العائلة المالكة، بداية
من جدهم الأول الجنرال “فيرا شاكري” الذي أخذ مكان الملك “تاكسين” في سنة 1782
وتلقب بلقب “راما الأول” مؤسسا أسرة “شاكري”،
كان يعرف عن الملكية التايلندية أكثر
من التايلنديين أنفسهم، شكره على نصيحته وأيقن أنه في الطريق الصحيح، فطريق تحدي
المستحيل أتى بفائدة، فلنجرب هذه الخطوة، وكتب التماسا لعفوملكي وكان التماسا لم
تشاهد ادارة السجن مثله وكيف لا وقد استغل فيه عبدالله كل ما يعرف عن الملك
وعائلته وفي أول فرصة وجهه للإدارة، وكم دهش عندما لم يرى معارضة من إدارة السجن
وعرف بعدها أن هذا الإجراء عادي ولا يشكل أي إحراج لها، لكن مسؤول السجن، قال له
بما يشبه الرثاء: لا تنتظر خيرا من هذا الإلتماس، فتهتمك خطيرة ولم يمض عليك وقت
طويل معنا، ومن المعتاد أن العفوالملكي لا يكون الا لمن قضى وقتا كافيا، فارم
خيالك بعيدا ولا تنتظر فرجا، نزل عليه كلام المسؤول كالماء البارد على الرأس، ولكن
قال: لا بأس، فالمائة عام فيها ما يكفي من الوقت لنجرب، والتجربة خير من البكاء
على الأطلال.
واصل عبدالله حياته في السجن ككل يوم، منتظرا الفرج في العفو، ولكن
الأمر طال أكثر من اللازم حتى اصبح اليأس يقترب منه شيئا فشيئا، وانتهى بأن فقد
الأمل كليا في شم نسيم الحرية مرة أخرى، ولكن ايمانه بقدرة الله وأنه لم ولن يتخلى
عنه أرجع اليه بعض الأمل وواصل تدعيم “عبدالله الموسوعة التايلندية المتنقلة”.
وفي مرة من المرات وقع استدعاءه لإدارة السجن وكان قد مر عليه
سنتان خلف القضبان، وبوقوفه أمام رئيس السجن لفت انتباهه ابتسامة صغيرة منه وأعلمه
بعدها أنه حصل على العفوباسقاط نصف المدة، كاد عبدالله يغشى عليه من الفرح، شكر
الرئيس وأعيد الى محبسه، 50 عاما، لا باس، الحمد لله، لوأحياني الله لخرجت وعمري
77 سنة، لاباس، مهما يكن هي خير من 125 سنة، هكذا كان يحدث نفسه ويحدث من تعرف
عليه عن قرب من النزلاء، كان فرحا طفوليا لم يستطع تفسيره، كل ذلك مصحوبا باستغراب
من يعرفه من السجناء ومن الإدارة كذلك من هذا الفتى المجنون الذي يرى 50 سنة كـ50
يوما،
ولكن الأمر ليس سهلا على الإطلاق، فمن الصعب جدا إبقاء راسك بين
كتفيك سليما طيلة 50 سنة، لا بد من تحد آخر، لا بد من تدشين المرحلة الثانية من
مراحل تحدي المستحيل للخروج من النفق المظلم الذي وضع فيه ودخل عبدالله هذه
المرحلة.
ما هي المرحلة المقبلة؟ ما فائدتها على عبدالله؟ ولماذا هي مرحلة
من مراحل تحدي المستحيل؟
لمعرفة ذلك انتظروني في الجزء الرابع إن شاء الله
المراجع
alabkari.com
التصانيف
روايات كتب العلوم الاجتماعية