يقال عن الحيوانات التي تقضي الشتاء في حالة خدر أو سكون إنها في حالة إشتاء hibernation. ولكن الاختصاصيين في الفيزيولوجية يضعون تحديداً أكثر دقة لهذه الحالة إذ يخصصونها بالحيوانات التي تتناقص درجة حرارة الجسم لديها كثيراً، وتقلُّ معدلات استقلابها (أيضها) وتنفسها وضربات قلوبها شتاءً إلى حد كبير. وبناءً على ذلك لا تعد الدببة التي تنام مدة طويلة في الشتاء من حيوانات الإشتاء لأن درجة حرارة الجسم فيها لا تنخفض أكثر من بضع درجات كما أنها تحافظ على معدّل استقلاب[ر] عال نسبياً، ويطلق بعضهم اسم الإسبات أو البيات الشتوي أو الأروز على هذه الظاهرة.
الإشتاء في الحيوانات الثابتة الحرارة: تُمضي بعض الثدييات[ر] مثل السناجيب والزُغبات dormice وقسم من الخفافيش فصل الشتاء في حالة سبات شتوي، إذ تتخذ مظهر النوم وتنقطع عن تناول الطعام. وهناك قليل من الطيور يغدو خادراً بليداً في درجات الحرارة المنخفضة مثل الطائر الطنّان والسَمامة swift. وتدوم مدة الإشتاء لدى الثدييات بضعة أشهر تعيش فيها هذه الحيوانات على ما لديها من احتياطي غذائي كدّسته في أجسامها قبل الاستغراق في السبات دهناً خاصاً يمكن استقلابه في درجات الحرارة المنخفضة كما في حالة السنجاب. ومن هذه الحيوانات ما يستعيض عن تكديس الدهن في الجسم بتجهيز مستودعات خارجية من مؤن الطعام لاستهلاكها حين الحاجة كما في حالة القدّاد (الهامستر) hamster. ومع أن الدهن المختزن يمكن استهلاكه في أثناء الإشتاء، فإن الكمية التي يستطيع الحيوان اختزانها منه لا تكفي أبداً للإبقاء على حياته كل تلك الشهور الطويلة لو أنه حافظ على معدل استقلابه في المستوى الاعتيادي. فمثلاً يبلغ وزن المرموط Arctomys، الذي يُعَدُّ في هذا المجال أكبر الحيوانات الثابتة الحرارة حجماً، ثلاثة كيلو غرامات تقريباً، وهو يستهلك في الحالة العادية ما يعادل عشرة غرامات من الدهن في كل أربع وعشرين ساعة، وهذا يعني أن كمية الدهن التي يحتاج إليها هذا الحيوان في مئة يوم تعادل كيلو غراماً تقريباً أي ما يقارب ثلث وزن جسمه، وهو أمر لا يتحقق في الواقع. وتجدر الإشارة إلى أن حيوانات الإشتاء تكون صغيرة الحجم، الأمر الذي يعد بلا شك أحد أسباب هذه الظاهرة لأن الثدييات الصغيرة تحرق من الوقود لكل واحدة قياسية من وزنها كمية تفوق كثيراً ما يناظرها لدى الحيوانات الكبيرة. وهكذا فإن نسبة الدهن لا بد أن تكون في باقي حيوانات الإشتاء أعلى مما هي عليه في المرموط، مما يجعل اعتماد هذا الحيوان على مخزون الدهن مع الإبقاء على معدل الاستقلاب العادي أمراً غير عملي على الإطلاق. ومن هنا كان أحد أبرز ملامح الإشتاء يتمثل في تخفيض معدّل الاستقلاب في أثناء الإشتاء إلى حد كبير يظهر الحيوان معه وكأنه من ذوات الحرارة المتغيِّرة poikilothermic. فحرارة جسمه تصبح قريبة من درجة حرارة الوسط المحيط به مع كونها تبقى أعلى بنحو 1-4 درجات مئوية. ويذكر هنا أن درجة الحرارة هذه تختلف باختلاف أعضاء الجسم في الحيوان في أثناء إشتائه، مما يدل على احتمال وجود آلية تنظيم حراري لدى ذلك الحيوان. ولكن هذه الإمكانية لا تكفي للحيلولة دون تجمد الحيوان في الدرجات المنخفضة جداً من حرارة الوسط، وهذا ما يفسر قيام الكثير من حيوانات الإشتاء بحفر مأوى لها تحت الأرض أو باحتلال حفرة سبق لحيوان آخر أن تخلى عنها قبل الإشتاء، وبذلك تبقى فوق مستوى التجمد الذي يصيب سطح الأرض.
ويتبين مما سبق أن تخفيض معدل الاستقلاب هو بيت القصيد في آلية الإشتاء، إذ يهبط هذا المعدل نحو 20-100مرة دون مستواه الطبيعي في أثناء الإشتاء. فالمرموط مثلاً يُنْتج في الحالة الطبيعية ما مقداره 2.8 كيلو حريرة لكل كيلو غرام من وزنه كل ساعة في الدرجة 10س° (سلسيوس)، ولكن يهبط إنتاجه إلى 0.09 كيلو حريرة /كغ/ ساعة في أثناء إشتائه. ويرافق نقصان الاستقلاب في الإشتاء انخفاض معدل الحركات التنفسية ومعدل ضربات القلب، ويختل انتظامهما. ففي سنجاب الأرض القطبي Citellus يهبط عدد ضربات القلب من 200- 400 ضربة في الدقيقة في الحالة العادية إلى الرقم 7 -10 ضربات في الدقيقة في أثناء الإشتاء. وبالمقابل يقل معدل استهلاك الأكسجين مع انخفاض درجة حرارة الجسم؛ فما أن يبدأ القدّاد إشتاءه حتى يهبط استقلابه في 4-5 ساعات إلى 3% من مستواه العادي. أما تركيز السكر في الدم فلا يهبط إلا قليلاً، مما يشير إلى اعتماد الاستقلاب على الدهن. وكذلك فإن الغدة الدرقية تعاني تبدلات نسيجية متراجعة في أثناء الإشتاء، كما أن الغدة النخامية وغدة الكظر لا تستجيبان لوطأة البرد في أثناء الإشتاء مثلما تستجيبان له في حالة الصحو. وأما تركيز المغنيزيوم في الدم فإنه يكون أعلى من المستوى الطبيعي، الأمر الذي يفسر جانباً من الخدر الذي يظهر على الحيوان في أثناء إشتائه، وذلك من تأثير ارتفاع تركيز المغنيزيوم في الدم على خاصِّية الاستثارة الخلوية (التنبّه الخلوي) وعلى آلية عمل الملتقيات العصبية العضلية (اللوحات المحركة).
إن الدخول في حالة الإشتاء يمكن أن ينجم ببساطة عن توقف الزيادة الاستقلابية ذات الطابع التنظيمي الحراري لدى هبوط درجة حرارة الجو إلى ما دون درجة حدِّية معينة. فدون هذه الدرجة يكون نقصان معدل الاستقلاب كفيلاً بتخفيض درجة حرارة الجسم دونما حاجة إلى آلية خاصة لتسريع الفقد الحراري. وهكذا فإن درجة حرارة الجسم عندما تشرع بالهبوط يتناقص الاستقلاب ويدخل الحيوان تدريجياً في الخدر ويتعمّق انخفاض الإنتاج الحراري ونقصان درجة حرارة الجسم وصولاً إلى حالة الإشتاء الكامل.
أما الاستيقاظ من الإشتاء فإنه يحدث عندما ترتفع درجة حرارة الجو فوق 15 درجة سلزيوس، إذ يتحول الحيوان إلى الإنتاج الحراري الأقصى الذي يبلغ عشرة أضعاف الحد الأدنى للاستهلاك الأكسجيني في تلك الدرجة. وهكذا يُعدُّ الاستيقاظ من الإشتاء عملية فاعلة تتطلّب صرفاً كبيراً للطاقة في مدة تطول إلى أن تبلغ درجة حرارة الجسم حدها الطبيعي. وتُبَيِّن الحسابات أن ثمن الاستيقاظ يشكِّل الجانب الأكبر من كلفة طاقة دورة الإشتاء. وبناء على ذلك فإنه لا يجدي الحيوان استيقاظه لمدد قصيرة بعد دخوله في حالة الإشتاء. وعند الاستيقاظ من هذه الحالة ترتفع درجة حرارة الجسم فيزداد استهلاك الأكسجين سريعاً حتى يفوق معدل الاستقلاب العادي مؤقتاً. ويمكن أن يرافق ازدياد التنفس بنشاط حركي غير عادي في الساعات الأولى التي تلي الاستيقاظ من الإشتاء. ويكون ارتفاع درجة حرارة الجسم سريعاً إذ يبلغ 19 درجة مئوية في غضون 42 دقيقة في مثال القنفذ لدى استيقاظه من سباته. ولا تتجاوز مدة الاستيقاظ هذه ثلاث ساعات لدى معظم حيوانات الإشتاء. وتجدر الإشارة إلى أن درجة حرارة الجسم لا تكون متماثلة في أجزاء الجسم كافة في أثناء استيقاظ الحيوان من إشتائه، فترتفع حرارة الجزء الأمامي من الجسم، حيث توجد الأعضاء الحيوية المهمة مثل القلب والدماغ، بسرعة تفوق كثيراً سرعة ارتفاع حرارة الجزء الخلفي. وإلى جانب كون ارتفاع حرارة القلب أمراً أساسياً في الاستيقاظ من الإشتاء فإنه يُعدُّ الخطوة الأولى في هذا الاستيقاظ، لأن القلب هو الذي يحرك الدورة الدموية ويضمن وصول الأكسجين إلى مختلف أعضاء الجسم، يضاف إلى ذلك أن الكتل الرئيسة من الدهن البنّي غالباً ما تكون موجودة في الجزء الأمامي من الجسم. وتشير المخططات إلى أن عودة الحرارة إلى الجزء الخلفي من الجسم لا تتم إلا بعد بلوغ حرارة الجزء الأمامي مستواها الطبيعي تقريباً. وعندما يستعيد كامل الجسم درجة حرارته الطبيعية يبلغ الاستهلاك الأكسجيني ذروة متميزة ليبدأ بعدها بالتراجع إلى مستوى طبيعي مستقر. ولقد أثبتت تقنيات اقتفاء العناصر الموسومة إشعاعياً أن التدفق الدموي في أثناء الاستيقاظ يختلف باختلاف أعضاء الجسم، وأن العضلات الهيكلية في الجزء الأمامي من الجسم تتلقى من الدم في أثناء عملية الاستيقاظ ما يزيد ستة عشر ضعفاً على ما تتلقاه نظائرها في الفرد العادي، وهذا ما يؤكد أن العضلات هي المسؤول الأكبر عن زيادة الإنتاج الحراري.
ولئن كان هبوط درجة حرارة الجو يشكل أكبر عامل في الشروع بالإشتاء، فهناك عوامل موسمية (فصلية) أخرى تؤدي دوراً في ذلك، ولاسيما الضوء. وفي هذا ما يضمن أن يبدأ الحيوان إشتاءه قبل أن تشحّ المواد الغذائية. وبالفعل فإن الشروع في الإشتاء كثيراً ما يتواكب مع زمن من السنة لا يتّسم بالضرورة بهبوط درجة حرارة الجو أو نقص كفاية الغذاء. فالدورة السنوية للإشتاء تتأثر بالدورة الضوئية اليومية كما تتأثر بالدورات الغدية الصماء. فمثلاً قد يستحيل في كثير من الأحيان تحريض أحد حيوانات الإشتاء على الشروع في إشتائه عند بداية الصيف ولاسيما في أثناء زمن التكاثر.
الإشتاء في الحيوانات المتغيرة الحرارة: لا توجد قائمة كاملة بالحيوانات التي تدخل في الإشتاء، ولكن هناك الكثير من الأمثلة بين الحيوانات ذات الحرارة المتغيرة من فقاريات ولا فقاريات. من بين هذه الأمثلة الكلاسيكية الكثير من زواحف اليابسة، مثل العظايا[ر] والحيات[ر] والسلاحف[ر]، التي تبدي عدة تغيرات مهمة في كيمياء أجسامها، كما تنعدم شهيتها ويتوقف اغتذاؤها. ومع أن معدل استقلابها ينخفض مقداراً قد يبلغ 95%، فإنها تستهلك مع ذلك بعض المواد الغذائية المختزنة في نمطين رئيسين هما: ـ الليبيدات التي تكون بشكل كتل شحمية قاسية في الأحشاء وتحت الجلد وفي بعض العضلات، والغليكوجين الأقل ثباتاً والأسرع استخداماً من الليبيدات، والموجود في أنسجة مثل الكبد والعضلات. وجدير بالذكر أن غليكوجين النسج عند السلاحف يُستهلك في الأيام والأسابيع الأولى من الإشتاء، ومن ثم يتحول الحيوان إلى استخدام الليبيدات. أما التمساحيات[ر] فهي أقل مقدرة على الإشتاء، ولكن التمساح المسيسبي Alligator mississippiensis يدخل في سبات شتوي بضعة أشهر، يتوقف فيها عن الأكل ويهبط تركيز السكر في دمه.
وتجدر الإشارة هنا إلى احتمال تعرُّض الحيوانات ذوات الحرارة المتغيِّرة أي التي تدخل في حالة الإشتاء، إلى خطر الموت بسبب تكون بلورات من الثلج ناجمة عن تجمد الماء الحر في جبلّة (بروتوبلازمة) الخلايا، مما يؤدي إلى تخرب النسج. أما الضفادع المذنبة[ر] (مثل السلمندر) وكذلك الضفادع العديمة الذنب والسلاحف فإنها كثيراً ما تحاط بالثلج في أثناء إشتائها وتبقى حية مع هبوط درجة حرارة أجسامها إلى درجة الصفر وحتى الدرجة -1سْ، إذ إن المحتوى المائي في أنسجتها تقل نسبته ويزداد تركيز دمائها حال دنو الشتاء. وبالفعل فقد بينت التجارب على السلاحف أن نقطة تجمد الدم تنخفض عندها في أثناء الشتاء. أما في الشتاء القاسي الذي تتدنى فيه درجة الحرارة إلى ما دون الصفر المئوي كثيراً، فإن الضفادع تموت في أثناء الإشتاء إذا ما اخترق الصقيع ملاجئها داخل الطين، ولكن الأغلب هو أن تتجمد الطبقات العليا من الطين في حين تبقى الضفادع المدفونة في الطبقات الأدنى منها آمنة من التجمد. وعلى هذا، وكما هي الحال عند الأسماك، فإن الضفادع غالباً ما تتجمد حتى الموت في البرك الاصطناعية القليلة العمق والمصنوعة من الخرسانة لافتقارها إلى أرضية طينية.
وأما الأسماك فإنها لا تدخل في حالة الإشتاء، ولكن الكثير منها يقضي أكثر الشتاء في حالة سكون مع تجمُّد جزئي في الطين والثلج. ولما كانت البرك الضحلة في المناطق القطبية ودون القطبية والمعتدلة غالباً ما تتجمد تماماً في الشتاء، فإن بعض الأسماك مثل الشبوط carp قد يتغطّى بالثلج أو يدفن جزئياً في طين القاع، وبذلك يبقى في حالة إشتاء لمدة طويلة. وجدير بالذكر أن السمك الأسود Dallia pectoralis في ألاسكة، الذي يقال إنه يتجمد إلى درجة الصلابة، لا يتجمّد فعلاً، بل يحاط بمحفظة من الثلج، لأنه لو تجمد مكوناً بلورات ثلج في أنسجته لمات . وينخفض استقلاب الأسماك التي تتعرض للبرد، وتقلُّ لذلك حاجتها من الأكسجين وتتكيّف للقليل الموجود منه في المياه الباردة. ويعدُّ هذا حالاً مشابهاً لما يحدث في السلاحف المائية كذلك.
وتجدر الإشارة هنا إلى ظاهرة مشابهة للإشتاء، ولكنها تحدث في أشهر الصيف وقتَ الحر اللافح والجفاف الشديد، ويِصِحُّ أن يطلق عليها لذلك اسم «الإشتاء الصيفي» estivation. وتحدث هذه الظاهرة عند حيوانات من الفقاريات ومن اللافقاريات، ولعل الأسماك الرئوية lung fishes التي تقضي فصل الجفاف في شقوق حفرتها في الطين تحت الماء قبل جفافه تعطي مثالاً واضحاً على حالة الإشتاء الصيفي بدليل سهولة مسكها ونقلها نتيجة للسكون التام الذي يميِّز إشتاءها الصيفي.
وفيما يتعلق باللافقاريات فإنه يُرى أن التربة في أشهر الشتاء وفي الصيف الحار والجاف تحفل بتشكيلة منوّعة من اللافقاريات التي تدخل في حالة الإشتاء، مثال ديدان الأرض والحلزونات والبزّاقات والديدان الخيطية والحشرات والعناكب وخادرات pupae الكثير من الحشرات إضافة إلى محافظ البيوض والشرانق. فبيوض فراشة الحرير Bombyx mori مثلاً تُوضع في الخريف، ولابد من أن تتعرض لدرجة حرارة الصفر المئوي بضعة أشهر لضمان نقفها (فقسها) في الخريف.كما تقدم الفراشات butterflies والعث mothes بعضاً من أكثر الأمثلة شيوعاً على إشتاء اليرقات والخادرات. وكذلك تشتهر رخويات اليابسة مثل الحلزونات والبزّاقات بقدرتها على الإشتاء صيفاً وشتاء. ولعل النوع Physasp. يمثِّل أكثر الحلزونات التي تعيش على اليابسة مقاومة للبرد، إذ يعيش في شمالي سيبرية حتى درجة الحرارة دون -20س*. وكذلك فإن حلزون الحدائق الشائع Helix aspersa والحلزون الصالح للأكل H.pomatia يبديان خصائص الإشتاء المميزة للرخويات البطنيات الأرجل Gastropoda. فهما يتوقفان عن الأكل في الخريف، ويأويان إلى الشقوق وجذوع الخشب في الأرض ليقضيا مدة إشتاء تقارب ستة أشهر منفردين أو في مجموعات، وتنقص عندهما الحركات التنفسية إلى حد كبير، كما يقلّ عدد ضربات القلب من 50-60 ضربة بالدقيقة في الدرجة 30سْ إلى 4 -12 ضربة بالدقيقة في حالة الإشتاء.
وأخيراً لا بد من ذكر ظاهرة التَكَيُّس في الحيوانات الأوالي (وحيدات الخلية) فهي تشبه إلى حد بعيد حالة الإشتاء في الصيف والشتاء، إذ يكون وحيد الخلية المتكيس في حالة ساكنة تماماً ومن دون استقلاب تقريباً. وتعدُّ قدرة الحيوانات الأوالي على التكيُّس أحد أسباب انتشارها في أرجاء المعمورة كافة، وحتى في التوندرة القطبية التي يستمر التجمد فيها 6-8 شهور.
زياد القطب
الإشتاء الاصطناعي أو خفض حرارة الإنسان
لقد حملت دراسة الإشتاء في الحيوانات وما ينطوي عليه من خصائص فيزيولوجية معينة بعض الباحثين على التفكير في إمكان الإفادة من خفض درجة الحرارة في الإنسان hypothermia مع إبقاء فعاليات جسمه محافظة على حيويتها مدة تطول أو تقصر ولا يستهلك من الطاقة إلا أقل قدر لازم منها، وذلك لإجراء عمليات جراحية أو زرع أعضاء أو حفظ خلايا أو غير ذلك.
إن أول من استخدم التبريد على مستوى عضوي في التخدير[ر] جراح نابوليون بونابرت البارون لاري (1766-1842) Baron Larry ، وذلك ببتر ساق أحد الجنود بعد غمرها بالجليد ساعات في ميدان معركة في بروسية إثر ملاحظته في أثناء الحملة على روسية أن الجنود الذين يظلون متمددين على الثلوج مدة طويلة يفقدون الإحساس بالألم من جراء إصابتهم. أما إدخال التبريد الاصطناعي إلى حقل التداوي فيعود إلى الأربعينات حين قام كل من لورنس سميث وتمبل فاي (Laurence Smith & Tempele Fay (1940 بنشر تقرير عن تخفيض حرارة المرضى وسيلةً لمداوة الأمراض الخبيثة. ولا تكمن أهمية هذا التقرير في اقتراح طريقة أخرى لمداواة السرطان، إذ إنه تبين عدم جدوى ذلك، وإنما في كشف سر تخفيض الحرارة لدى الإنسان، وهو السيطرة على منعكس القشعريرة. وفي عام 1950 لفت كل من بيغلو Bigelow وكالاغان Callaghan وهوبس Hopps الانتباه إلى فوائد تخفيض حرارة المرضى في جراحة القلب. ومنذ ذلك الحين بدأت طريقة تخفيض الحرارة بالانتشار، وتعددت دواعيه وتقنياته ودرجاته.
مبدأ تخفيض الحرارة لدى الإنسان ودواعيه: يقوم مبدأ تخفيض الحرارة لدى الإنسان على أساس أن استهلاك الأكسجين يتناسب طرداً مع درجات الحرارة، فبقدر انخفاض حرارة الجسم ينخفض استهلاك الأكسجين، لأن فعاليات الجسم تصاب بهمود وركود مما يساعد الأجهزة الحيوية كالجملة العصبية والقلب على المحافظة على حيويتها مدة تطول أو تقصر طبقاً لدرجة الحرارة بأقل قدر من الطاقة. حتى إن تخفيض حرارة الإنسان إلى عشر درجات مئوية، يجعل في الإمكان التوقف عن مد تلك الأجهزة بأي قدر من الطاقة، عن طريق إيقاف جهازي القلب والرئة إيقافاً تاماً لمدة 30 دقيقة، من دون أن تصاب بأي ضرر. وقد فتح ذلك آفاقآً واسعة في عالم الطب، إذ أصبح في الإمكان إجراء جراحات متطورة على القلب والدماغ، وساعد على حفظ الأعضاء كالكليتين والكبد والقلب إلى حين نقلها لمن هم في حاجة إليها من دون أن تصاب بأي أذى. وبذلك دخلت جراحة نقل الأعضاء مرحلة الاستفادة من الجثث، إضافة إلى حفظ الحيوانات المنوية ونقلها لزرعها في الرحم للتغلب على مشاكل الخصب وحالات العقم. ومن دواعي تخفيض الحرارة لدى الإنسان:
ـ جراحة المخ ولاسيما أمهات الدم وزرع النخاع الشوكي.
ـ جراحة القلب بأنواعها: المفتوح والمجازة coronary bypass وأمهات الدم في الأوعية الكبيرة كالأبهر والسباتي.
ـ زراعة الأعضاء والحيوانات المنوية والخلايا.
طرائق تخفيض الحرارة لدى الإنسان: يتم تخفيض درجة الحرارة في الإنسان بطريقتين:
ـ تخفيض الحرارة المعتدل، وفيه تنخفض حرارة الجسم إلى 30 درجة مئوية، وهي أكثر استعمالاً في معظم المداخلات الجراحية على القلب وبعض مداخلات الدماغ.
ـ تخفيض الحرارة العميقة، وفيه تنخفض الحرارة إلى 10 درجات مئوية، ويستعمل في بعض عمليات القلب المفتوح الكبيرة وبعض عمليات أمهات الدم في الدماغ أو الأوعية السباتية.
وهناك ثلاث طرائق لتخفيض درجة الحرارة:
تخفيض الحرارة من سطح الجسم: ويمكن إجراؤه بعدة وسائل منها:
ـ غمر جسم المريض بالماء البارد، وهو أسهل الطرائق وأسرعها، إلا أن هنالك صعوبة تغطيس المريض في الحوض وإخراجه منه.
ـ التبخر، وذلك بتعريض جسم المريض لتيارات هوائية بعد ترطيبه باستمرار بالماء أو بمحاليل سريعة التبخر.
ـ اللحاف المبرد، وهو أحدث الطرائق السطحية، ويتألف من غطاء من اللدائن يحتوي أنابيب مرنة متغلغلة داخله تغلغلاً حلزونياً، يضخ فيها ماء بارد درجة حرارته دون الصفر. ومع أن هذه الطريقة أفضل الطرائق فإنها أقلها فعالية، إذ تصعب المحافظة على ملامسة اللحاف لمختلف أنحاء الجسم مما يترك جيوب هواء عازلة تعوق التبريد وتطيل أمده.
وأهم مخاطر التبريد السطحي انخفاض الحرارة الإضافي الذي يحدث بعد إيقاف عملية التبريد، ويترجح بين 2و3 درجات مئوية؛ لذا يستحسن إيقاف التبريد قبل درجتين أو ثلاث من الدرجة المطلوبة، ولاسيما في حال التبريد المعتدل، أي إلى 30 درجة مئوية، إذ إن هبوط الحرارة دون ذلك يحدث اضطراباً في النظم فتوقفاً في القلب.
تخفيض الحرارة عن طريق الدم: ويستخدم في جراحة القلب بالاستعانة بالدوران خارج الجسم extracorporal circulation وذلك بدرجة معتدلة في حدود 30° درجة مئوية. أما العمليات الجراحية التي تتطلب إيقاف الدوران تماماً مدة لا تزيد على ثلاثين دقيقة، كجراحة أمهات دم الأوعية الكبيرة كالأبهر والسباتي أو جراحة أمهات الدم في الدماغ، فيجب في مثل هذه الحالات اللجوء إلى تخفيض الحرارة العميق الذي يصل إلى 10 درجات مئوية.
وهناك طريقتان لضمان ذلك:
ـ طريقة الصدر المفتوح: ويكون ذلك إما عن طريق جهاز الدوران خارج الجسم الذي يحوي مضخة للأكسجين وجهاز تبادل للحرارة، أو بطريقة درو Drew وذلك باستخدام رئة المريض نفسها لهذه الغاية.
ـ طريقة الصدر المغلق: ويقتصر استخدامها على التخدير العميق، وتجنب المريض فتح صدره، وتجري على مرحلتين: فبعد تبريد المريض بإحدى الطرائق السطحية إلى30ْ درجة مئوية يجري إدخال قثطرة إلى الوريد الأجوف السفلي عن طريق الوريد الفخذي، فتثبيت القثطرة الشريانية على الشريان الفخذي، ومن ثم يجري سحب الدم من الأوعية الوريدية وتبريده فضخه من جديد إلى الأوعية الشريانية .
تبريد الدماغ والأعضاء الانتقائي: وهو من الطرائق الحديثة نسبياً، ويقتصر على العضو الذي ستجري عليه الجراحة وأهمها الدماغ. وتتلخص الطريقة بخزع الأوعية التي تغذي العضو، وهي في الدماغ الشريان السباتي، وسحب الدم بقثطرة مثبتة على صنبور ذي ثلاثة اتجاهات إلى شبكة تبريد حلزونية، ثم ضخه من جديد إلى الشريان السباتي بقثطرة مثبتة على الطرف الآخر من الصنبور يندفع الدم منها إلى الدماغ مباشرة.
تخفيض حرارة الإنسان بين الانحسار والانتشار: شهد تخفيض حرارة المرضى موجة حماسة شديدة حين إدخاله مجال الممارسة في أواخر الخمسينات وأوائل الستينات من القرن العشرين، طريقةً من طرائق المعالجة، ولاسيما في الخمج الحاد والصدمة الإنتانية وارتفاع الحرارة المجهول السبب، وارتفاع الحرارة الخبيث، وجراحة أمهات الدم الدماغية. إلا أنه ما لبث أن شهد انحساراً فيما يتصل بمعالجة الإنتان الحاد وحتى ارتفاع الحرارة المجهول السبب بعد أن تبين أن له بعض التأثيرات الجانبية غير المرغوب فيها من جهة، وبعد التطور الذي حدث في مجال الصادات (مضادات حيوية) ومخفضات الحرارة من جهة أخرى.
وفي السنوات الأخيرة عاد تخفيض الحرارة، المعتدل والعميق، ليلقى رواجاً في جراحة القلب المفتوح وعمليات المجازة الإكليلية، وعمليات نقل الأعضاء وإعادة زرعها، إضافة إلى جراحة أمهات الدم في الأوعية الكبيرة، وخاصة حين يتطلب الأمر دقة عالية في الجراحة ووقاية الأجهزة الحيوية من أي ضرر يمكن أن ينجم عن عدم كفاية التروية التي يوفرها جهازا القلب والرئة الاصطناعيان. ومن المتوقع أن يحدث تطور كبير في مجالين:
ـ مجال نقل الأعضاء على نطاق واسع جداً، وذلك بالاستفادة من أعضاء الجثث، ويجري التخطيط لإقامة حاسوب عالمي universal computer تدرج فيه الهوية النسيجية للبشر جميعاً، لكي يستفاد من عضو أي فرد يصاب في أي منطقة من العالم لفرد آخر يماثله في الهوية النسيجية، لأن الهويات النسيجية لكل البشر محدودة وتؤكد أن البشر يتكررون.
ـ مجال زرع الخلايا والنسج، والتحكم في الطفرات mutations بهدف إيقاف الهرم، والحصول على الإنسان المتكامل. وفي جميع هذه المجالات سيكون للتبريد شأن كبير في حفظ الأعضاء والخلايا المختارة من الجثث في مكان من العالم إلى أن يتم نقلها إلى مكان الحاجة إليها وكما يحدده الحاسوب العالمي من دون أن تتعرض لأي تغير مرضي.
طه الجاسر
المراجع
الموسوعة العربية
التصانيف
الأبحاث