التهابِ السّحايا meningitis (أو الحمّى الشوكية كما تدعى في بعض البلدان) خمج يصيب 5 إلى 10 أشخاص بين كل مائة ألف شخص، أغلبهم من الأطفال، إلا أنّ عواقبَه القريبةَ والبعيدةَ وخيمةٌ إذا ما أهمل، والسحايا meninges هي الأغشية التي تبطّن عظام الرأس (الجمجمة) وتغلف الدماغ وتحميه من عوامل الخطر الكثيرة.
العامل الممرض
ينجم التهاب السحايا عن عدد كبير من الجراثيم والفيروسات. وأكثر الزمر الجرثومية التي تصيب الولدان هي العصيّات القولونية والمكورات العقدية ب والليستريا. وبعد الشهر الثاني من العمر وحتى اثنتي عشرة سنة تعد المكوّرات الرئوية والنمط البائي من المستدميات النزلية Hib والمكورات السحائية هي أكثر الجراثيم إحداثاً للمرض، لتأتي بعدها عوامل أخرى قليلة المصادفة مثل اللولبيات الشاحبة (المسببة للإفرنجي) وعصيات كوخ (المسببة للتدرن) وغيرها، كما أن فيروسات متعددة قد تصيب السحايا كفيروس النكاف والحصبة وشلل الأطفال.
وللمكورات السحائية meningococcus أو النيسريات السحائية شأن خاص في التهاب السحايا. وهي جراثيم مكوّرة تجتمع ثنائيات داخل الخلايا وتأخذ لونا وردياً عند التلوين بطريقة غرام، ولها محفظة (من عديد السكريد) ذات أهمية في تقسيمها إلى زمر. أكثرها إحداثاً للمرض هي الزمر: A,B,C (أ، ب، ج). والزمرة (ب) هي الأكثر سيطرة في العالم خارج أوقات الجائحات، في حين تسيطر الزمرتان (أ) و (ج) في الجائحات، كما هو الحال عند سيطرة الزمرة (أ) عقب موسم الحج عام 1987 في دول عربية وأوربية كثيرة. تنمو السحائيات جيداً في حرارة 37م وتقتلها عوامل الطبيعة سريعاً، وأكثر ما تستعمر البلعوم الأنفي عند الكهول الأصحاء، فيما تبلغ نسبة حملة الجرثوم عند الأطفال الأصحاء من 2 إلى 5%، وترتفع النسبة بشدة في المجمّعات كالمدارس والثكنات حتى 90%، وقد تصل نسبة الحملة في المدن المكتظة إلى 15%.
ينتقل الجرثوم من شخص إلى آخر غالباً بالتماس المباشر مع المفرزات التنفسية أو قطيرات الهواء والرذاذ المنطلق بالسعال، ونادراً عبر مخاطية العين، ثم يصل بعدها إلى الدم، فالسحايا والدماغ أو الأعضاء الأخرى كالقلب والعظام، أو يتكاثر في الدم محدثاً حالة مأساوية سريعة التطور ذات سير مروّع لاسيما عند ناقصي المناعة.
تاريخ المرض
أوّل من كشف السحائيات في السائل الدماغي الشوكي هو فايكسلباوم Weichselbaum عام 1887 وعدت يومئذ سبباً لأوبئة كثيرة سحائية ودماغية، ووصلتْ وفياتها في الماضي حتى 90%، وتميز الوباء الذي أصاب قرابة سبعة آلاف شخص في نيويورك عام 1904 إلى 1905 بالسير الصاعق والوفاة خلال 24 ساعة، أما الوباء الذي أصاب قرابة ألفي وخمسمائة شخص من الجنود الأمريكان في الحرب العالمية الأولى فبلغت نسبة الوفيات فيه 33%.
وقد شهدت بعض البلاد العربية في عامي 1987 و 1988 وباء عقب موسم الحج، كما حدث وباء في السودان في آذار 1988، وقدر عدد الإصابات في الأسبوع الواحد بثلاثة آلاف إصابة بينها نحو ثمانين حالة انتهت بالوفاة.
التظاهرات المرضية
يندر أن يصاب حديثو الولادة بالتهاب السحايا بالسحائيات لوجود مناعة منتقلة من الأم إلى الجنين. وتقع أكثر الإصابات بين 6أشهر إلى 4سنوات، وقد تحدث في أي عمر لكن الوفيات والعقابيل أكثر حدوثاً في الأعمار الصغيرة ولاسيما السنة الأولى من العمر.
تتشابه أعراض وعلامات التهابات السحايا عموماً (إلا في التهاب السحايا الدرني)، وفيها ترتفع الحرارة ويحدث قيء وصداع وألم في العنق (صلابة نقرة) وفرط استثارة وخوف من الضياء وتغيّم وعي، وإذا تأخر تشخيص الحالة وعلاجها حدثت أذية دماغية مختلفة الشدة واختلاجات (حركات لا إرادية ارتجاجية أو مقويّة تتصلب فيها العضلات أو تتشنج في طرف أو أكثر من الجسم)، وغياب وعي حسب الجزء المتخرب من الدماغ.
إن إصابات الرضع أصعب تمييزاً، ويكون رفض الرضاعة من العلامات المنبهة، ليتلوَه حمّى وقيء وربما إسهال، وارتخاء عام وأنين وألم عند لمس الجسم، وقد يحدث يرقان، وفي مرحلة متأخرة يمتلئ اليافوخ ويتوتر.
إن الأخطر في التهاب السحايا السحائي هو ترافقه مع إنتان الدم septicemia، وهنا تسوء حالة المريض كثيراً بسبب حدوث انسمام معمم، فتظهر اندفاعات جلدية فرفرية أو نزفية، وقد تحدث نزوف عضوية أو في مكان الوخز والرض مع مُوات وتنخّر في الجلد والأطراف نتيجة استهلاك العوامل المسؤولة عن تخثير الدم (الخثار المنتشر داخل الأوعية DIC سيئ الإنذار)، وقد تتلاشى قوة المريض ويغيب وعيه ويهبط ضغطه ويدخل في مرحلة الصدمة shock الخطيرة على الحياة والتي تترافق وقصور غدتي الكظر وهذا ما دعي في الماضي (متلازمة ووترهاوس فردركسون) التي تعزى اليوم إلى انطلاق الذيفان الداخلي endotoxin للجراثيم، وإنذارها سيئ أيضاً.
قد يترك التهاب السحايا عند بعض الناجين من المرض عقابيل متعددة منها مشكلات تتصل بالسمع والتعلم والاختلاجات، ومنها الشلول والإعاقات المختلفة ولاسيما الحركية يتبع ذلك القسم المتأذي من الدماغ. وقد يحدث استسقاء (تجمع السائل الدماغي الشوكي) في الدماغ ينجم عن انسداد في داخله.
التشخيص
هذه الحالة إسعافية، وفحص السائل الدماغي الشوكي C.S.F وزرعه هو حجر الزاوية في التشخيص الأكيد والدقيق. يسحب السائل المذكور من المسافة بين الفقرتين القطنيتين الرابعة والخامسة بإبرة ناعمة وهذا ما يدعى البزل القطني lumbar puncture الذي يجرى بعد فحص قعر العين والتأكد من غياب تأثر دماغي (فرط التوتر القحفي). تفحص الخلايا في السائل المسحوب، كما يفحص السكر والبروتين، وتجرى بعض الاختبارات المناعية، وتبعاً للنتائج يمكن تقرير نوع التهاب السحايا. تجرى فحوص دموية مثل زرع الدم ومعايرة الشوارد وغيرها، كما يجرى عند الضرورة تصوير طبقي محوري لتقييم وضع الدماغ، علماً أنه لا يستحبّ تعريض دماغ الصغار لكميات زائدة من الأشعة لما تتركه من عطب.
العلاج
العلاج الرئيس في ذات السحايا بالسحائيات هو البنسلين بالوريد بكميات كبيرة، ويجب إعطاؤه فور الشكّ لأنّ الساعات أو ربما الدقائق يمكن أن تغيّر إنذار المرض وتنقذ حياة المريض. هناك أدوية حديثة ذات فعالية قوية تنتمي إلى الجيل الثالث من السيفالوسبورينات (مثل السيفترياكسون). مدّة العلاج تمتد من 7 أيام إلى 10، ويجب ألا تهمل العناية التمريضية، من دعم المريض بالسوائل، ومراقبة نبضه وضغطه الشرياني بدقة ومراقبة حجم البول اتقاء لحدوث الصدمة. وفي حال هبوط ضغط المريض، لابد من إعطاء الكورتيزون بوفرة مع رافعات الضغط كالدوبامين، كما تعطى مضادات الاختلاج عند اللزوم. هذا ويعزل المريض مدة 24 ساعة بعد بدء العلاج الفعال.
التشخيص التفريقي
يميز التهاب السحايا القيحي عن عدد من الأمراض منها التهاب الدماغ وخراجاته والالتهابات الفطرية والفيروسية والدرنية، ويذكر على الخصوص:
ـ التهاب السحايا الفيروسي: وهو التهاب تسببه فيروسات كثيرة مثل النكاف وشلل الأطفال وفيروسات إيكو وكوكساكي والحلأ البسيط وداء المنطقة... فتؤدي إلى ظهور أعراضَ وعلاماتِ التهاب السحايا، لكن فحص السائل الدماغي الشوكي لا يبدي علامات التقيح ولا تنمو بزرعه أي جراثيم. قد يشفى المرض تلقائياً في عدة أيام، وقد يحتاج إلى مضادات الفيروسات عندما توجد مسوغات لها.
ـ التهاب السحايا السلّي: وهو التهاب سحايا بطيء السير عادة، يرافقه دائماً التهاب دماغ، تسببه العصية السلية نتيجة انغراس درنات صغيرة في السحايا عقب مرحلة الانتشار الدموي من الآفة البدئية (وهي الرئة غالباً). يكثر هذا المرض عند صغار الأطفال الذين تراوح أعمارهم بين ستة أشهر وأربع سنوات، وفي البيئات الفقيرة، وقد يتطور سريعاً في أيام، أو بطيئا (وهو الأغلب) خلال أسابيع ماراً بثلاث مراحل، أولها ذات أعراض عامة من حمّى وقيء وصداع ونعاس وتعب، وثانيها ذات أعراض سحائية دماغية مميزة (خبل، اختلاجات، صلابة نقرة..)، وثالثها مرحلة التأذي الدماغي العميق المتمثل بغياب الوعي التام (السبات) والشلول ووضعية نزع القشر الدماغي (تقفع وتشنج شديد) واضطراب القلب والتنفس، وهذه المرحلة هي الأسوأ ويندر أن ينجو من آثارها أحد، إلا بعقابيل دماغية شديدة.
الوقاية في التهاب السحايا الجرثومي
وجدت الدراسات أن نسبة الحمل الجرثومي عند ملامسي المريض بعد الجائحات 50%، وعند الأصدقاء والجيران نحو 30%، وأن خطر إصابة فرد آخر في أسرة المصاب هو 1% (أعلى ألف مرة من مجموع الناس)، و1 بالألف عند الملامسين للمريض خلال العناية به، لهذا لابد من سبيلين مهمين لوقاية المسافرين إلى المناطق الموبوءة، والمتماسين مع المريض (أهله، جهاز التمريض، الأطباء)، وهذان السبيلان هما:
ـ الصادات: يعطى دواء الريفامبيسين لزمن يختلف باختلاف نوع التهاب السحايا.
ـ اللقاح تحت الجلد: ويحوي الزمر W135,A,C,Y ويعطى 0.5 مل تحت الجلد. يعطى لقاح الزمرة (ج) للأطفال بدءاً من الشهر الثاني مرافقاً للقاح الرباعي المعروف، ليكرر كل شهرين ثانية وثالثة، ويدعم في الشهر الثامن عشر من العمر. أما اللقاح المضاد للمستدميات النزلية ب فقد أدرجته الحكومات في برامجها منذ عدة سنوات، بعد إضافته إلى اللقاح الثلاثي.
وأخيراً لابد من ذكر ما للنظافة الشخصية من تأثير كبير مثل غسل الخضار والفواكه، وتجنب الطعام الملوّث أو المشكوك به، والطهو الجيد للطعام، وعدم الشرب من كأس المريض أو ملامسي المريض، وعدم تقبيل الأطفال المرضى، والوقاية من انتشار الرذاذ بالعطاس والسعال باستخدام المناديل الورقية وإتلافها بعد ذلك، وغسل اليدين بعد ملامسة المريض أو العناية به.
المراجع
الموسوعة العربية
التصانيف
الأبحاث