التجفيد (التجفيف بالتجميد)
 
حاول الإنسان منذ القديم حفظ المواد التي تتعرض للتلف على اختلاف أنواعها، لكي تبقى سليمة قابلة للاستعمال والاستفادة منها عند الحاجة إليها. وقد تطورت الوسائل المستخدمة في الحفظ مع تطور المعرفة الإنسانية. إذ ازداد عدد المواد المعدة للحفظ وتعددت أنواعها، كما ازداد الاهتمام بخصائص المواد المحفوظة وجودتها.
ويظهر أن التجفيف هو أساس أقدم الوسائل المستخدمة في هذا المجال، كتجفيف اللحوم والأسماك والخضار، وتجفيف بعض النباتات الطبية إما مباشرة وإما بعد تثبيتها stabilisation، ثم استخدمت طريقة التجميد congélation أي الحفظ في درجات حرارة منخفضة. وقد شاع استعمال تلك الطريقة بسرعة منذ أن أنتجت الصناعة أجهزة تجميد قليلة الكلفة نسبياً.
ثم توصل الإنسان إلى وسيلة لحفظ المواد سريعة التلف تجمع الطريقتين السابقتين، فهي تعتمد في الوقت ذاته على استخدام البرودة وعلى نزع الماء من المادة المجمدة. وهذا هو التجفيد lyophilisation أو التجفيف بالتجميد cryodéssication. فالتجفيد تقنية من تقنيات التجفيف تعتمد على تجميد المحاليل أو المعلقات أو المواد الحاوية على الماء بدرجات حرارة منخفضة، ثم تصعيد sublimation بخار الجليد الناتج في شروط محددة بدقة. وتكون المادة المجفدة الناتجة بشكل صلب وهش وذات بنية مسامية أو إسفنجية وتتميز بشكل خاص بشراهة كبيرة للماء (من هذه الخاصة اشتق المصطلح الأجنبي lyophilisation الذي يعني «محب أو صديق المذيب») مما يسمح بإعادة تكوين سريع وكامل للمادة التي خضعت للتجفيف بالتجميد.

المنشأ والتطور

في عام 1906 وصف فيزيائيان فرنسيان هما بوردا ودارسونفال C.Bordas et A.d’Arsonval جهازاً لا يختلف من حيث المبدأ عن أجهزة التجفيد الحديثة، يتضمن وعاء للتصعيد ومكثفاً للبخار وجهاز تخلية. وقدما في السنة ذاتها مذكرة إلى أكاديمية العلوم في باريس بيّنا فيها أنه من الممكن تجفيف المصول واللقاحات بإحداث فرق في درجة الحرارة بين المادة المجمدة والمكثف. وفي عام 1909 اعتمد شاكيل L.F.Shackell في الولايات المتحدة استخدام التبريد كمرحلة تمهيدية للتجفيف مطبقاً إمكانية تصعيد الجليد إلى حالة بخار تحت ضغط منخفض جداً. وفي عام 1911 جفّد هامر B.W.Hammer جراثيم على أشرطة من الورق، وبيّن أنها تبقى حيّة في هذه الشروط مدة 57 يوماً. وفي عام 1935 اتسع تطبيق التجفيد، وأمكن حفظ العديد من المواد سريعة التلف في شروط جيدة جداً كالمصول المضادة للسموم والذيفانات والأنواع الجرثومية الهشة جداً والنسج. وفي عام 1940 كان أول استخدام لهذه الطريقة على نطاق واسع في تحضير المصورة البشرية المجففة التي أنقذت حياة عدد كبير من البشر أثناء الحرب. وبعد اكتشاف البنسلين طبقت تلك الطريقة بنجاح كبير في تحضير تلك المادة ومختلف مضادات الحيوية بعد ذلك. كما طبقت في حفظ الأنزيمات والعديد من المنتجات الصيدلانية والحيوية. وفي عام 1958 طبق التجفيد في مجال الصناعة الغذائية.
 

المبدأ

التجفيد هو «تجفيف بالتصعيد» أي إن ماء المادة المراد تجفيفها، المحول مسبقاً إلى جليد والموجود تحت ضغط منخفض، يتبخر في هذه الطريقة مباشرة دون المرور بالحالة السائلة (يستخدم التجفيف بالتجميد حالياً لإزالة المذيبات الأخرى غير الماء) (الشكل -1)، فعملية التجفيف بالتجميد تتضمن مرحلتين رئيستين: تجميد المادة، ثم إزالة بخار الماء الناتج عن الجليد.
يمكن تمثيل الحادثة كما يأتي: ليكن جوفان أ و ب متصلين بأنبوبة واسعة (الشكل -2). توضع المادة المراد تجفيفها في الجوف أ الذي يُبرد إلى درجة حرارة دأ بحيث تتجمد المادة. وتطبق في الجوف ب درجة حرارة دب أكثر انخفاضاً من دأ . وبما أن دب < دأ، فإن ضغط البخار في ب أقل من ضغط البخار في أ: ض ب < ض أ . هذا الفرق في ضغط البخار بين الجوفين هو «محرك» التجفيد، فهو يسبب انتقال البخار من أ إلى ب حيث يتحول إلى جليد. ويستمر ذلك حتى ينتقل كل الجليد من أ إلى ب وتبقى بقية جافة في أ، وتوضع المجموعة تحت ضغط منخفض مما يسهل انتقال البخار.
 
في أ يوجد تصعيد للجليد تتعلق سرعته بإزالة البخار الناتج، فهذا هو جوف التصعيد أو التجفيف، وفي ب يوجد تكاثف لبخار الماء بحالة جليد، وهذا هو المكثف الذي يعمل عمل جاذب للبخار (إلا أنه توجد وسائل أخرى لإزالة البخار).
 بما أن التصعيد عملية ماصة للحرارة، فإن التبخير في أ يؤدي إلى البرودة مما يبطىء عملية التصعيد، ولهذا يجب تقديم قدرة كافية في أ للحفاظ على التصعيد بسرعة مناسبة. على أن هذه القدرة يجب ألا تكون كبيرة لكي لا تتحول المادة المجمدة إلى سائل. ويتم تنظيم التسخين بحيث يتحقق التوازن بين الحريرات المقدمة عن طريق مصدر الحرارة والحريرات الممتصة عن طريق التصعيد. فالمادة الموجودة في أ يجب أن تبقى مجمدة.
يجب أن تتم المرحلة الأولى، وهي مرحلة التجميد، بأسرع وقت ممكن لتجنب تغير بنية المادة. ويتم تصعيد الجليد في المرحلة الثانية تدريجياً تاركاً في كتلة المادة فراغات حرة، وتتكون قنيوات غير محدودة، ينطلق عبرها بخار الماء من مركز المادة إلى خارجها. ولا يبقى في النهاية إلا بقية جافة ذات بنية مسامية تشغل تقريباً الحجم البدئي للمادة.
من غير الممكن في هذه الشروط حدوث نمو جرثومي أو تفاعل خمائري لا في أثناء التجفيد، لأن المادة تكون بدرجات حرارة منخفضة وبمعزل عن الهواء، ولا في أثناء الحفظ فيما بعد لأنها تكون خالية من الماء.

تقنيات التطبيق

فيما يأتي لمحة عن التقنيات المستخدمة في مختلف مراحل عملية التجفيد:
1ـ مرحلة التجميد: يجب أن يتم التجميد بأسرع وقت ممكن. فالتجميد البطيء يمكن أن يسبب، في حالة المواد الحيوية، تلف النسج ومسخ dénaturation البروتينات. حيث تتشكل في هذه الحالة مراكز تبلور تتكون فيها بلورات كبيرة يمكن أن تفتت الجدران الخلوية. أما إذا كان التجميد سريعاً فيتشكل عدد غير محدود من البلورات الصغيرة. يُفسَر تمسخ البروتينات بالآتي: لا تحتوي النسج الحيوانية أو النباتية على ماء نقي، وإنما على محاليل ملحية. فعندما يُبرد ببطء محلول من كلور الصوديوم مثلاً بتركيز 1٪ تتتابع الحوادث الآتية:
في درجة حرارة  - 0.5ْ تقريباً تظهر بلورات من الجليد النقي التي تزداد نسبتها، في حين يصبح الطور السائل مكوناً من محلول ملحي يزداد تركيزاً. وفي درجة حرارة  - 6ْ يكون هناك 90٪ من الجليد و10٪ من محلول بتركيز 10٪ من كلور الصوديوم. ويستمر التركيز في الازدياد حتى درجة حرارة  - 21.3ْ، في هذه الدرجة من الحرارة يتجمد المحلول الخلالي فجأة بشكل بلورات من الجليد ومزيج eutectique مكون من كلور الصوديوم والماء.
تكون درجة الحرارة التي يزداد فيها التركيز الملحي خطراً على النسج الحيوانية والنباتية، لأن المحاليل الملحية تسبب اضطراباً كبيراً في الغروانيات colloïdes الموجودة وبشكل خاص بالنسبة للبروتينات التي تتعرض للتمسخ اللاعكوس irréversible. يجب إذن تجاوز هذا المدى الخطر بسرعة كبيرة بإحداث تجميد آني تقريباً بدرجة حرارة أقل من درجة حرارة تصلب مختلف «الأمزجة» المتكونة للحصول على تجميد سريع يجب أن يكون التماس بين المادة ومصدر البرودة وثيقاً ما أمكن.
تستخدم في المجال الصناعي حالياً خمس تقنيات: التجميد تحت ضغط منخفض، والتجميد بالتهوية، والتجميد بالتماس، والتجميد بالتهوية والتماس، والتجميد بالغمر. ومن مصادر البرودة المستخدمة يمكن ذكر: مجموعات التبريد، والثلج الفحمي، وأمزجة الثلج الفحمي مع الغول أو الخلون، والغازات السائلة (آزوت، هواء).
2ـ تسخين المادة أثناء التصعيد: تتطلب المادة المجمدة أثناء التصعيد حريرات كافية لموازنة الحريرات الممتصة أثناء التصعيد بدقة، بحيث تبقى المادة مجمدة. من الممكن مثلاً أن تكون الرفوف التي توجد عليها المادة المجمدة مزودة بمقاومة كهربائية أو بقنوات يجري فيها سائل حار. في كل الحالات، ومهما كانت وسيلة التسخين، يجب اتخاذ الاحتياطات اللازمة لئلا يحدث تسخين زائد للمادة المجمدة.من الممكن تجنب ذلك باستخدام مسابير sondes كهرحرورية thermoélectriques.
يمكن القول إن تنظيم التسخين يمكن أن يكون المرحلة الأكثر حساسية في عملية التجفيد.
3ـ تكاثف البخار الناتج عن التصعيد: إن التكاثف عن طريق البرودة هي التقنية الأكثر استخداماً في الصناعة لإزالة بخار الماء الناتج عن التصعيد. تستخدم الآلات المبردة ذات الضاغطات الميكانيكية المتناوبة أو الدوارة في التجهيزات ذات المردود الكبير. كما يستخدم الثلج الفحمي أو أمزجته مع الغول أو الخلون، والغازات السائلة التي تستخدم في التجهيزات الصغيرة. وتكون الغازات السائلة ضرورية عندما يتطلب الأمر درجات حرارة منخفضة جداً.
من المهم أن تبقى درجة حرارة المكثف أقل من قيمة محددة تتعلق بقيمة الضغط المنخفض. مثلاً، بالنسبة لضغط يعادل 0.1ملم زئبق يجب أن تكون درجة حرارة المكثف أقل من -04؛ فوق تلك الدرجة يبدأ الجليد المتكاثف بالتصعيد ولا يقوم بجذب البخار.
 أمر هام آخر هو سطح التكاثف. إذ يجب أن يكون كافياً لئلا تصبح طبقة الجليد المتوضعة في نهاية العملية سميكة جداً مما يؤثر في استمرار عمل المبادلات الحرورية بين البخار والمكثف.
من الممكن جذب بخار الماء الناتج عن التصعيد بالنسبة للكميات الصغيرة باستخدام المواد الجاذبة للرطوبة كخامس أكسيد الفسفور P2O5 أو هلامات السيليس مثلاً. حيث تُفرش هذه المواد على الرفوف بدلاً من المكثف، وتستخدم تلك التقنية في مجال المخبر.
كما يمكن استخدام مضخة التفريغ ذاتها التي تستخدم أحياناً لإزالة الآثار الأخيرة المتبقية من الماء في نهاية التجفيد.

تطبيقات التجفيد

الميزة الأساسية لطريقة التجفيد هي قدرتها على حفظ المواد سريعة التلف مدة طويلة دون أن تتلف، ودون اتخاذ أي احتياطات أثناء مدة الحفظ سوى وجودها بمعزل عن الرطوبة الجوية في أوعية محكمة الإغلاق. ومحذورها الرئيسي كلفتها المرتفعة نسبياً.
تتركز تطبيقات التجفيد حالياً في ثلاثة مجالات: المجال الغذائي، ومجال علم الجراثيم ومخابر البحوث التي تعالج مواد سريعة التلف كالخمائر مثلاً، والمجال الطبي.
ـ تجفيد المواد الغذائية: [ر. تطبيقات تجفيد المواد الغذائية].
ـ التجفيد في علم الجراثيم: يطبق التجفيد في علم الجراثيم إما لحفظ الأرومات الجرثومية، وفي هذه الحالة من الضروري حفظ حياة عدد كاف من الجراثيم التي تتكاثر، بعد وضعها في شروط مناسبة، وتعطي الأرومة المجفدة؛ وإما لحفظ اللقاحات، وفي هذه الحالة يجب حفظ قدرة اللقاح. وتتعلق هذه القدرة مباشرة بعدد الجراثيم[ر] أو الحمات غير التالفة الموجودة في اللقاح. إذ إن عملية التجفيد، دون اتخاذ احتياطات خاصة، يمكن أن تتلف من 95٪  إلى  98٪ أو أكثر من الجراثيم. في هذه الشروط لا يعود اللقاح الحي فعالاً لذلك، تتخذ الاحتياطات المناسبة لكي يحافظ التجفيد على حياة عدد كاف من الجراثيم، بما في ذلك جميع خصائصها، لأطول فترة ممكنة (بضع سنوات أو بضع عشرات من السنوات). لهذا الغرض يحضر معلق جرثومي في مصل البقر المسخن مسبقاً مدة نصف ساعة بدرجة حرارة 56ْ. وبما أن التجفيد يتلف نسبة كبيرة جداً من الجراثيم، من الضروري تحضير معلقات جرثومية مركزة جداً. فإذا كانت نسبة التلف 95٪، فعند تجفيد معلق يحوي 5 أو 10 مليارات يبقى عدد كبير جداً من الجراثيم القادرة على التكاثر في الشروط المناسبة. 
يُحفظ عدد كبير من الأنواع الجرثومية بالتجفيد مدة عشر أو خمس عشرة أو عشرين سنة. إلا أن بعض الجراثيم مثل الضُمات vibrions لا يمكن تجفيدها. إما لأنها لا تعطي بعد ذلك زريعات subcultures، وإما لأن حفظها يكون لمدة قصيرة جداً مما لا يبرر استخدام هذه التقنية.
ـ التجفيد في الطب: قدمت هذه الطريقة خدمة كبيرة في المجالات الطبية. فهي تناسب بشكل خاص المواد ذات المنشأ الحيوي، حيث تُنقِص تمسخ البروتينات إلى الحد الأدنى. وتعد الطريقة الفضلى في حفظ المصورة البشرية ومنتجات تجزيء الدم. ويمكن القول إن جميع مراكز نقل الدم الكبيرة في الوقت الحاضر مجهزة لتحضير المصورة الجافة.
ويستخدم التجفيد في حفظ مختلف الطعوم greffons ذات المنشأ البشري أو الحيواني. وتوجد بنوك تحفظ فيها النسج البشرية بشكل مجفّد مثل: العظام وقطع الجلد والسُفق والجافية والقرنية والغضاريف والشرايين...إلخ. كما يستخدم في حفظ المصول والعديد من المستَضدات والأنظيمات ومواد المداواة بالأعضاء واللقاحات والمنويات للتمنية الصنعية عند الحيوانات. وأتاحت تلك التقنية لصناعة الدواء الوسيلة الفضلى لحفظ المواد الدوائية سريعة التلف وتأمين الشروط المناسبة لتحضيرها كمضادات الحيوية، والفيتامينات، وخلاصات النباتات الطبية.
أخيراً، لابد من القول إن تطبيقات التجفيد أخذت تتسع شيئاً فشيئاً في مختلف المجالات على كلفتها المرتفعة نسبياً. وذلك لما تقدمه تلك التقنية من ميزات لا تقدمها تقنية أخرى في الوقت الحاضر.
 
بديع كعيّد
 
 

المراجع

الموسوعة العربية

التصانيف

الأبحاث