تطور معنى الأمية Illiteracy مع تطور الاتصال بين الناس والتعلم بالكلمة أو الحرف، فقد بدأ الإنسان الاتصال بالإشارات البصرية ثم بالكلمة المنطوقة، واعتمد فيه على حاسة السمع، والتعبير الشفاهي، ثم اعتمد على الكلمة المكتوبة منذ أكثر من ثلاثة ألاف سنة قبل الميلاد، لدى الأمم التي عرفت الكتابة والقراءة literacy، وقد أطلق على الشخص أو الأمة التي تقتصر على التعلم الشفاهي فقط صفة الأمي التي تعني الجهل بمهارة القراءة، وعندما انتشرت الكتابة ألصقت بالأمية صفات أخرى سلبية فأصبحت تعني الجهل بمهارات القراءة والكتابة والحساب وغيرها من الصفات السلبية الأخرى.
ومع تطور الحضارة ووسائل الإعلام والمعلومات السمعية والبصرية تغيّر مفهوم الأمية فلم يؤكد على مهارتي القراءة والكتابة، لأن الشخص الأمي الجاهل لمهارات القراءة والكتابة قد يستطيع التعلم الشفاهي من وسائل سمعية بصرية متعددة، كما يستطيع تعلم حقوق المواطنة والتكيف مع المهنة التي يمارسها، وقد يسّر العيش في مجتمع معلوماتي للمواطنين إمكانات التعلم الذاتي من الكلمة المنطوقة والمسموعة والصورة الثابتة والمتحركة. وظهرت مصطلحات متعددة تتعلق بمفهوم الأمية وتطوره ومجالاته ومستوياته، منها «الأمية الهجائية» و«الأمية الوظيفية» وأحياناً «الأمية الحضارية» و«الأمية التقانية». ونظراً لسلبية هذه المصطلحات فقد استعملت عبارات تدل على محاولات التخلص منها، مثل «محو الأمية»، و«مكافحة الأمية» للدلالة على المراحل الأولى من التعلم الأساسي للكبار، أما «محو الأمية الوظيفية» فيعني ربطها بحاجات الإنسان ومهنته، وأما «محو الأمية الحضارية» فيعطي الأولوية لنظام المجتمع الأوسع من التعليم والتعلم، الذي أفرز الأمية ولذلك يتداخل مع محو الأمية الوظيفية ويعالج الأمية من منظور مجتمعي شمولي.
وهكذا يتغير تعريف الأمية بتغير مستويات الأمية، وقد يعدّ تعليم الكبار موازياً لتعليم الصغار في التعليم العام. فمحو الأمية الهجائية يوازي مستوى التعلم الإبتدائي للصغار لمدة أربع سنوات، ومحو الأمية الوظيفية يوازي التعليم الابتدائي لمدة ست سنوات، ومحو الأمية الحضارية يوازي مستوى التعليم الأساسي لمدة تسع سنوات، أو أكثر مع تطور الحضارة والتقنيات، والمعلومات. وقد يطلق على المستويات الأعلى من تعليم الكبار عبارة «تعليم الكبار» الذي يستمر مدى الحياة من دون سقف علوي للتعلم والعمر. ويغلب أن يتم تعليم الكبار عرضاً في تعلم ذاتي خارج المدرسة، حيث يستفيد الكبير من الموارد المتاحة في المكتبات والمعارض والمتاحف وما تقدمه المؤسسات الثقافية والإعلامية والمعلوماتية، وخاصة الإذاعة والتلفزيون والحاسوب وتوابعها فيواصل التعلم الذاتي المستمر مدى الحياة.
الأمية والتنمية
تعنى المجتمعات بمحو الأمية بسبب العلاقة الوثيقة بين الأمية والتنمية الشاملة، ولذلك تعنى البلدان النامية بالأمية وربطها بالتنمية من أجل الرقي بالمجتمع إلى مستوى أعلى يخفف من الأمية والجهل والفقر والمرض، وهي ظواهر مترابطة فيما بينها، لذلك فإن معالجة هذه الظواهر تكون بأساليب وطرائق شاملة ومتكاملة. فمتوسط مستويات محو الأمية والفقر في البلدان العربية وفق التقديرات العالمية في العقود الأخيرة من القرن العشرين، أدنى من متوسط مستوى محو الأمية في أمريكة وأوقيانوسية بالنسبة إلى مجموع العالم، وأعلى من متوسط مجموع العالم في إفريقية (الشكل 1). وعندما تحسن مستوى المعيشة في الدول العربية ذات الدخل العالي للفرد تحسن التعلم لديها، وانخفضت الأمية بسرعة كبيرة. وهناك ترابط بين ما يملكه الإنسان من معلومات وما يملكه من مال، إذ تسهم المعلومات اليوم في التنمية عن طريق الإعلام وقد دعا المربي البرازيلي باولو فريري Paolo Friere والمفكر النمسوي إيفان إيلتش Evan Ilitch إلى وضع نماذج جديدة للتحرر من الأمية في البلدان النامية وذلك بالتعلم الذاتي خارج المدرسة، وفي المجتمع الواسع. وقد أتاحت تقانات الإعلام والمعلومات في المجتمع فرصة للتعلم والثقافة، يمكن أن تخفض مخاطر الأمية. إذ يستطيع الإنسان أن يتعلم ذاتياً من الإذاعة والتلفزيون في البيت باستخدام التلفزيون والشبكات الفضائية والحاسوبية وكذلك الحاسوب الشخصي والشبكي، كما أن حاجته الأساسية في الحياة التقانية المعاصرة، تضطره إلى القراءة السريعة، وإلى ممارسة الكتابة، وهكذا أسهمت تقانات المعلومات والإعلام المنوعة في تعديل المفاهيم الخاصة بالأمية ومحو الأمية وتوسيع المهارات الأساسية المطلوبة ليعيش الإنسان عصر الشفاهية الثانوية التي يتعلم بها معتمداً على حاسة السمع والنطق وبالتالي التعلم والتنمية الذاتية والشاملة.
لمحة تاريخية:
بدأ اهتمام الإنسان بالقراءة والكتابة حين توصلت بعض الشعوب منذ أكثر من ستة آلاف عام إلى وضع رموز بصرية مجردة لتمثيل كلامها المنطوق. وظهرت أولى الكتابات الممثلة بمقاطع وكلمات وحروف في بلاد الرافدين والشام ومصر وفي الصين منذ أوائل الألف الثالث قبل الميلاد وتثبت ذلك النصب التذكارية والرقم الفخارية التي عثر عليها في تلك البلاد. وأما الكتابة اليونانية فقد تطورت في القرنين العاشر والتاسع قبل الميلاد، وتتابعت من بعدها الكتابة اللاتينية وغيرها. وكان العرب قبل الإسلام يستعملون الكتابة النبطية والكتابة بحرف المسند وحرف الجزم الذي تطور إلى الحرف العربي المعروف اليوم، كما أكد الإسلام أهمية القراءة والكتابة وسيلة للعلم والتعلم وحض المسلمين على اكتساب مهارة التعلم بجميع الوسائل المتاحة، ويسّر انتشار الكتابة والترجمة والنسخ انتقال الثقافات بين الشعوب، وساعد على نقل الحضارة العربية والحضارات القديمة إلى أوربة في عصر النهضة، ومع أن أوربة أهملت الكتابة والتعلم على المستوى الشعبي في العصور الوسطى بتأثير الكنيسة الرومية التي حرص رجالها على أن تكون اللاتينية لغة العلم واللاهوت، فقد قامت الكنيسة الأرثوذكسية بإدخال الحروف الكيريلية إلى اللغة السلافية، وأعادت حركة الإصلاح الديني في القرن السادس عشر الاهتمام بالكتابة باللغات المحلية، وساعد اختراع الطباعة وابتكار حروف الطباعة المتحركة[ر.الطباعة] على نشر المعرفة وتغيير بنية المجتمعات وأنظمتها التعليمية والثقافية كما غيرت مفاهيمها حول معنى «الأمية والتعلم» الذي كان يتبدل بتبدل العصور واختلاف البلاد. فقد كان يعد متعلماً مثلاً من يعرف القراءة فقط في بلد ما، في حين لا يعد متعلماً في بلد آخر إلا إذا عرف القراءة والكتابة معاً. وفي المؤتمر العاشر لليونسكو الذي عقد في باريس عام 1958 اقترح أن يعد متعلماً «كل من يعرف القراءة ويفهم ما يقرأ، ويستطيع أن يكتب جملاً قصيرة تتصل بحياته اليومية». ولم يبق لمؤشر «التعلم» في البلدان التي حققت نصيباً كبيراً من التعليم المتواصل إلا قيمته التاريخية يقوّم على أساسها مستوى تطور البناء الثقافي في تلك البلدان، وربما حل محله مصطلح «الثقافة» إذ ما يزال هذان المصطلحان مستعملين مؤشرين لتحديد المستوى الذي يحققه أي بلد في العالم في مجال التعلم والتثقيف.
والجدير بالذكر أن الإقبال على التعلم ازداد في أوربة من قرابة30% في القرن الثامن عشر إلى 50% في القرن التاسع عشر، وإلى قرابة 90% في أواسط القرن العشرين، وتوصلت كثير من الدول في أوربة وأمريكة الشمالية إلى محو الأمية تماماً في القرن العشرين (الشكل2) . كما تمكنت اليابان في نهضتها الحديثة من محو الأمية والتركيز على التعليم الأساسي للصغار والكبار في أواخر القرن التاسع عشر.
واستطاعت دول الاتحاد السوفييتي (سابقاً) وكوبة والمكسيك والأرجنتين وتنزانية القضاء على الأمية في حقبة الحرب العالمية الثانية وما بعدها. وتسهم المنظمة العالمية للعلوم والتربية والثقافة (اليونسكو) اليوم، والاتحاد العالمي لتعليم الكبار في وضع الخطط والبرامج والمشروعات لنشر التعليم، وقد توصل الاتحاد المذكور في مؤتمره الذي عقد في جوميتان بتايلند عام1990 إلى إعلان شعار «التعلم والعلم للجميع» والدعوة إلى تعليم 50% من الأميين خلال عشر سنوات.
وتتابع أنشطة التعليم والتعلم للجميع بعد مؤتمر جوميتان في برامج ومشروعات تسعى إلى متابعة تنفيذ مقرراته، وفي المنطقة العربية يتابع تعميم التعليم الأساسي ومحو أميّة الكبار وخاصة لدى النساء والمحرومين من الريفيين والبدو والمعوقين في برنامج «عرب يوبيل» المخصص للمنطقة العربية ضمن الأنشطة التي تنفذ قرارات مؤتمرات الاسكندرية التي وضعها الجهاز العربي لمحو الأمية وتعليم الكبار التابع للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (ألكسو) في المدة من1960 إلى 1994، وقد خططت هذه المنظمة وتابعت استراتيجية التعلم والتعليم للجميع بغية الوصول إلى محو أميّة الكبار قبل عام 2000 وللتوسع في التعليم والثقافة كما وضعت استراتيجيات للتربية العربية النظامية وتعليم الكبار بعد عام 1976، ولكن آليات تنفيذها مازالت تفتقر إلى الإمكانات المالية والبشرية، وقد تعرقل تنفيذ استراتيجيات التربية والتعليم لعدم التنسيق والتكامل في البلاد العربية، مما يدل على أن تنفيذ توصيات التعلم للجميع أمر مازال يفتقرإلى مزيد من الجهد والتعاون.
واقع الأمية ومستقبلها في العالم والبلاد العربية
يجري تقدير عدد الأميين ونسبتهم المئوية إما بتعداد السكان أو بالتقدير الإحصائي الحيوي لفئات الكبار من عمر15 سنة فما فوق. وهذا التقدير مازال غير دقيق لأنه، في الغالب، يستند إلى أدنى مستويات محو الأمية الهجائية، الذي يوازي تعليماً أساسياً للصغار مدته أربع سنوات. وعندما يحسب وفقاً لمعايير محو الأمية الوظيفية أو الحضارية قد ترفع النسبة إلى قرابة30% إلى50% من التقديرات. ويقدر عدد الأميين في العالم في أواسط التسعينات بقرابة ألف مليون أمي ونسبتهم المئوية قرابة 28% من الكبار ممن هم في عمر15 سنة فما فوق، في حين يبلغ عدد الأميين في البلاد العربية قرابة 60 مليوناً، ونسبتهم المئوية قرابة 45% ، وتزداد هذه النسبة لدى الإناث والريفيين ولاسيما في بعض الأقطار العربية، وهكذا يتفاوت أعداد الأميين في الأقطار العربية كما تتباين نسبة الأمية من قطر إلى آخر وتتباين باختلاف سنة الإحصاء أو التقدير لأعداد الأميين ونسبهم.
وقد وضع مؤتمر جوميتان الخطة لتعليم الجميع قبل عام 2000 ووضعت آليات تنفيذ في مناطق العالم ومنها المنطقة العربية ضمن برامج ومشروعات عربية تسعى إلى محو أمية الكبار بنسبة تراوح بين 2% و10% سنوياً إبان عقد التسعينات. ومع أن الواقع الحالي يدل على أن نسبة الأمية في البلاد العربية قريبة من 38%، ولكن عدد الأميين قد يزيد إلى قرابة 65 مليوناً في عام 2000، ولهذا ستبقى مشكلة الأمية في البلاد العربية مزمنة وطويلة المدى، ورهينة تخلف المجتمع، وتأخر التنمية الشاملة، وعدم إلزامية التعليم الأساسي للصغار، وعدم الاعتراف بحق الكبير في التعلم. وتتفاوت إمكانات الدول العربية في تعلم الصغار ومحو أمية الكبار، فقد تحسن تعليم النساء كثيراً في سورية والأردن وتتوافر لدى دول التعاون الخليجي العربي شروط جيدة لمحو الأمية لتوافر الإمكانيات المالية والمادية والبشرية، أما بقية الدول العربية، فمازالت تعترض تعليم الكبار فيها لدى فئات من المحرومين كالنساء الريفيات والمعوقين والبدو، معوقات كثيرة، وتولي الحكومات العربية والمنظمات العربية والدولية والمنظمات الشعبية اهتماماً خاصاً في برامجها لمحو أمية النساء الريفيات وتعميم التعليم. وقد حازت عدة منظمات شعبية وأفراد في المنطقة العربية جوائز عالمية على جهودها الطوعية في محو الأمية خلال عقدي الثمانينات والتسعينات من القرن العشرين.
ويرى المتفائلون أن وسائل الإعلام، وخاصة الإذاعة والتلفزيون والمحطات الفضائية وشبكات الحاسوب ستمكّن الإنسان في القرن الحادي والعشرين من التعلم الذاتي من بعد والقضاء على الأمية الهجائية في مستواها الأدنى، إلا أنه يبقى أكثر من نصف الأشخاص الذين محيت أميتهم الهجائية في حاجة إلى «محو الأميّة الوظيفية والحضارية». ولهذا يرى المتشائمون أن تحقيق التعليم للجميع صعب في البلدان النامية وبعض البلدان العربية، وخاصة في مستويات التعليم الأساسي للكبار الذي يوازي مستوى تسع سنوات وأكثر من تعليم الصغار.
ويبدو أن الدول العربية مازالت تهمل تمويل تعليم الكبار، إذ تخصص له أقل من 1% من ميزانياتها، في حين تصل ميزانية تعليم الصغار في بعض الدول العربية إلى قرابة 35% من ميزانياتها. ومازال75% من الإفريقيين و50% من الآسيويين أميين. وهناك 10 دول في العالم منها دولتان عربيتان تزيد نسبة الأمية فيها على80%، في حين انخفضت في أواخر القرن العشرين نسبة الأمية في المناطق النامية من إفريقية وآسيا وأمريكة اللاتينية بسرعة. وتدل الإحصاءات الأمريكية في أواسط الثمانينات على وجود قرابة 20 مليون أمريكي لا يستطيعون القراءة بمستوى يوازي مستوى الصف الرابع الابتدائي، وأن الفقراء يزدادون فقراً، إلا أن تزايد سيطرة شبكات الإعلام والمعلومات قد يزيد من فرص التعلم والاتصال بين الناس، مما يضع في أيدي الناس إمكانيات تقانة أوسع للتعلم الذاتي من بعد، وهذا ما دفع كثير من الباحثين إلى اقتراح إدخال مفهوم محو الأمية المعلوماتية أو الحاسوبية، ووضع متطلبات جديدة لمحو الأمية.
ويرى المتشائمون أن إمكانات وسائل الإعلام والمعلومات الإلكترونية لا تتوافر إلا لدى الأثرياء والدول القادرة مادياً ومعلوماتياً، أما الدول النامية فستزداد فقراً، وتزداد الفجوة المعرفية بينها وبين الدول المتقدمة، في حين يرى المتفائلون أن التقانات المتعددة المتوافرة ستزيد من فرص تقدم الأمم النامية.
ويمكن للتضامن العربي في مجال المعرفة أن يستفيد من الانفتاح على شبكات المعلومات في تسريع تعليم الكبار ومحو أميتهم وبالتالي تنمية البلاد العربية اقتصادياً واجتماعياً، وربما يسهم التعلم الذاتي في تحسين تعليم الكبار المفتوح وزيادة ثقافة الأفراد، إذ يمنح فرصاً أكبر للمتعلمين الكبار لمواصلة التعلم الذاتي المستمر مستفيدين من الإمكانات المتاحة للفرد في الحياة. وتبقى قضية الأمية ومحو الأمية من المشكلات التربوية والاجتماعية والتنموية المزمنة في العالم ، وقد أوصى المؤتمر العالمي الرابع المعني بالمرأة الذي عقد في بكين في أيلول 1995، بتخفيض معدل الأمية بين الإناث إلى نصف المعدل المسجل عام 1990 مع التركيز على المرأة الريفية والمهاجرة واللاجئة والمشردة في الداخل والمعوقة، وتوفير فرص التعليم الابتدائي للجميع، وإزالة الفجوة بين الجنسين في مجال الإلمام الأساسي والوظيفي بالقراءة والكتابة. وحث المؤتمر الراشدين على التعلم، كما دعا إلى ربط تعليم القراءة والكتابة بتنمية المهارات الحياتية والمعارف العلمية والتقانية. كما دعا إلى التوسع في تعرف القراءة والكتابة وفق الأهداف والمعايير الجديدة، بإعطاء الأولوية للتعليم الشامل للجميع في نظام تقاني ييسر التعلم الذاتي للكبار عن طريق شبكات الاتصال والمعلوماتية، ويبقى التوسع في هذا المجال اليوم وفي المستقبل قضية جغرافية جدلية.
المراجع
الموسوعة العربية
التصانيف
الأبحاث