الشخصانية: واحدة من الحركات الفكرية التي ظهرت في الغرب، ووجدت لها صدى في عالمنا العربي والإسلامي وخاصة في الستينيات من القرن العشرين. ولعل الكاتب اللبناني رينيه حبشي، والكاتب المغربي محمد عزيز الاحبابي، خير من يمثلانها في الفكر الفلسفي العربي المعاصر.
 
والشخصانية حركة فكرية، ومنهج بحثي أكثر منها فلسفة ذات نظام تام. وثمة شخصانية مؤمنة وأخرى غير مؤمنة، فالشخصانية المؤمنة تتصل بالوجودية إلى حد ما. ومن قادة الحركة عمانوئيل مونييه وأبرز مؤلفاته: “ما هي الشخصانية؟”. ونشر الكتاب سنة 1903 ضمن سلسلة ماذا أعرف بالفرنسية بباريس؟
 
ولمونييه كتاب آخر عنوانه: “منشور الثورة الشخصانية”، ويشير ج. ايبارولا في مقاله الموسوم “حقيقة الحركة الشخصانية”، الذي ترجم، ونشر في مجلة الهلال (المصرية) بعددها الصادر في الأول من سبتمبر/أيلول 1966 إلى أن الشخصانية ولدت كرد فعل على المشكلات التي نجمت عن الأزمة الاقتصادية التي بدأت سنة 1929 وهزت بنيان النظام الرأسمالي العالمي، وولدت النزعات النازية والفاشية التي مهدت للحرب العالمية الثانية.
 
وإزاء هذا الوضع الاقتصادي، والاجتماعي المضطرب الحافل بالتناقضات وأبرزها الحرمان، والمجاعة، والرغبة في انتهاج سياسة اقتصادية تركز على الإنتاج، وإعدام كميات هائلة من السلع والمنتجات الفائضة بقصد الحيلولة دون هبوط الأسعار، وبغض النظر عن حاجة الناس، أخذ المفكرون في الغرب -ومنهم مونييه نفسه – يتساءلون عن أسباب ذلك كله، وانتهى الأمر بهم إلى حقيقة مفادها أن العالم – بتلك الصورة – غير جدير بالبقاء والاحترام، ولا بد من تغييره واستبداله بعالم جديد آخر أكثر حظا من الإنسانية. وأكد مونييه أن الإنسان، كلما ازداد التزامه ازداد نصيبه من الحرية.
 
يرى الشخصانيون أن (العظماء في التاريخ) هم (حماة الحرية)، فهم يصنعون الحرية. ومما يلحظ أن الشخصانية تميل إلى عزل الشخصيات عن عصرها، وعن الطبقة الاجتماعية التي تمثلها. ومعنى هذا أنها، من وجهة نظر ماركسية، تساوي بين الجلاد والضحية وبين المستغلين (بفتح الغين) والمستغلين (بكسر الغين).
 
كما أن الشخصانية ترفض التعامل مع التاريخ الملموس للبشر، ومع الواقع الاجتماعي وتنحاز باسم الكرامة الفردية الشخصية إلى الجوانب التي تدافع عن النظام الرأسمالي وتدين النظام الاشتراكي في حين أنها تدعي السعي باتجاه تطوير ورفاهية الإنسان وتحرير شخصيته.
 
ويرى مونييه أن “الشخصية الإنسانية لا يمكن تحديدها، فهي تنبثق وتتجلى للأنظار، وتواجه العالم وتجابهه. فهي ليست وجودا جامدا يكمن خلف الظواهر، بل هي وجود خلاق. إنها نوع إنساني من الوجود، قائم بذاته”.
 
وعلى هذا الأساس لا يمكن اعتبار الشخص عالما مغلقا مقفلا، بل عالما في حالة تطور مستمر لا يكف عن إنكار ذاته الراهنة وتجاوزها. فالشخص شخص من حيث هو منطو على ما يخالف حاضره الظاهر، وما هو بسبيله إلى الوجود مستقبلا. إنه صيرورة مستمرة.
 
وتندد الشخصانية بحالات استغلال الإنسان للإنسان، وتجد أن القيمة لا تولد في المجتمع ولا عن طريقه، بل إن قيمة الشخص تتحدد في نفسه، وفي المجتمع تبرز قيمة الإنسان، وعن طريق الآخرين يجد الإنسان أي الشخص نفسه ويعرف حقيقته. وفي هذا تختلف الشخصانية عن الماركسية، فالماركسية تعترف بأهمية الشخص والمجتمع كليهما، وتجعل منهما وحدة جدلية لا انفصام لها، وهي تفسر ظهور الشخصية تفسيرا تاريخيا، وتعريف الفرد فيها يتوقف على مجموع العلاقات الاجتماعية، والإنسان جزء من مجموعات اجتماعية محددة هي الطبقات، وقيمة الشخص تقدر بكثافة علاقاته مع الأشخاص الآخرين.
 
أما الشخصانية فتنحاز إلى الفرد، وإلى النخبة الذين تزداد قيمتهم ودورهم من خلال أعمالهم التي تتصف بالنقاء والنظافة والكرامة والكبرياء.
 
وقد بذل رينيه حبشي (1915- 2003)، جهودا كبيرة في مجال الترويج للشخصانية في العالم العربي. وحبشي مفكر عربي لبناني متأثر بمونييه ومن كتبه: “الفلسفة المسيحية والإسلامية والوجودية”. وفي كتابه هذا دعوة روحانية دينية شاملة تستهدف تبني الشخصانية.
 
ورينيه حبشي لا يحب الحقائق التامة التكوين، ومرد ذلك رغبته في ترك باب الصيرورة والتحرر مفتوحاً، لأن الحقائق التامة التكوين، كما يقول حبشي، تغلق باب الصيرورة وتوقف السير في طريق التحرر. فكما لا يستطيع العقل أن يتصور للمكان والزمان (نهاية)، كذلك لا يستطيع أن يتصور (للكمال) حدوداً، بل الكمال الحق هو (التكامل) والحرية الحقة هي (التحرر).
 
وتوزعت حياة رينيه حبشي في عدة بلدان، وعبر مراحل مختلفة، ففي الفترة من 1915 وحتى 1940، عاش في مصر ونال شهادة البكالوريا من القاهرة. ثم حصل على إجازة تعليم في الفلسفة من كلِّية الآداب في غرونوبل فرنسا وماجستير في الفلسفة حول مين دُهْ بيرا، ودبلوم عازف منفرد على البيانو من المعهد الموسيقي الألماني “برغرون”. وبين 1940-1952 عين أستاذا للفلسفة في المدارس الثانوية. وهو مؤسِّس “المركز الفلسفي بالزمالك”، وحصل على مِنحة من أكاديمية الحقوق الدولية في لاهاي (هولندا). وخلال الفترة 1952 وحتى 1969 عاش في لبنان وعمل أستاذا للفلسفة في معهدي الآداب العليا، والآداب الشرقية لليسوعيين. وفي 1969 قبل دعوة المجلس البريطاني لزيارة جامعتي أكسفورد وكمبريدج.
 
أسَّس رينيه حبشي، ونظَّم، معهد العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية سنة 1960. وبين 1961-1964 عُيِّن مديرًا في مركز اليونسكو للتخطيط التربوي في الدول العربية. كما قبل دعوة الخارجية الأميركية لزيارة عدد من جامعات الولايات المتحدة الأميركية.
 
وبين 1969 و1977 عاش في فرنسا، وهناك عُيِّنَ رئيسا لقسم الفلسفة في اليونسكو بباريس. وفي سنة 1972 دافع عن أطروحته للدكتوراه في الفلسفة، وكان موضوعها “متطلبات فلسفة متوسطية”.
 
وبين سنتي 1977 و1983 عمل أستاذا للفلسفة في باريس، وفي جامعة بربينيان، ثم في جامعة ديجو وأستاذا زائرا لأربع مرات إلى جامعة لافال في كيبيك (كندا). كما أسَّس ونظَّم حلقة نقاشية حول الثقافة المتوسطية، كملحق لجامعة بربينيان. وخلال السنتين 1983 – 1984 ألقى سلسلة محاضرات، وأدار حلقات نقاشية في بلجيكا وايطاليا وفرنسا وسويسرا.
 
وقد كتب الدكتور حليم أسمر بحثا مستفيضا حول الشخصانية في الفكر العربي ودور رينيه حبشي في نشرها وقال إن فلسفة حبشي الشخصانية هي في حقيقة الأمر منهج عمل.
 
وتؤكد شخصانية رينيه حبشي على التواصل والعلاقات الإنسانية، وتبرز أولوية الذات على الموضوع، والوجود الذاتي على التصور الكلِّي، وعلى القلق كحافز على المعرفة. وقد راجت الشخصانية في العالم العربي – كما يقول جميل قاسم – من خلال رينيه حبشي ومحمد عزيز الحبابي. إلا أن ثمة فرق بينهما في النظرة، فالحبابي دعا إلى فلسفة شخصانية إسلامية. أما رينيه حبشي فقد وجد في الشخص الفرد وحدةً تقوم على إظهار الذات لذاتها، أولاً، كفرادة متميزة، ومن بعدُ إظهار هذه الذاتية تجاه العالم، والجماعة والآخرين.
 
والفارق بين الفرد والشخص في فلسفة حبشي، أن الفرد لا يرى وجود الآخر، كضرورة لوجود الذات، في حين أن الشخص ينظر إلى الآخر باعتباره حاجة ضرورية لكي يمكِّنه من تحقيق ذاته كمبدع للتاريخ.
 
والجماعة، في نظر حبشي، هي تعددية أشخاص، أي تعددية “الأنيَّات” التي تؤلِّف المجموعة؛ لهذا فالشخص البشري، من حيث هو شخص قائم في ذاته، مدعو إلى أن يتخطَّى ذاته وواقعه لكي يعي ويكتشف واقع جماعته الوجودية. ولا ينادي الفيلسوف حبشي بأولوية الوجود على الماهية، أو بأولوية الماهية على الوجود، بل يعتبرهما ديناميكية واحدة، في جدلية المادة والفكر.
 
والإنسان، عند حبشي، كائن روحاني، ذو بعد إلهي إنساني؛ وهو مادة ذاته وصانع حريته في انفتاحه على الآخر. وهو، بعكس الحبابي، صاحب الشخصانية الإسلامية، يتبنَّى العلمانية كاختيار فكري وثيق.
 
 
 
د. إبراهيم خليل العلاف
 
أستاذ التاريخ الحديث – جامعة الموصل (العراق)
 
 
 
نقلا عن ميدل إيست أونلاين
 
 

المراجع

ميديل ايست أونلاين

التصانيف

أبحاث