حلف شمال الأطلسي (منظمة -)
الخلفية التاريخية للحلف
منظمة معاهدة شمال الأطلسي North Atlantic Treaty Organization أو ما يرمز إليه بالناتو NATO أو بعبارة أخرى حلف شمال الأطلسي هو هيئة دولية شبه قارية أنشئت لتكون الجهاز المنّفذ للمعاهدة التي جرى التوقيع عليها في 4 نيسان عام 1949 في واشنطن. ودخلت حيز التنفيذ في 24 آب من العام نفسه.
ويرى بعض الكتاب أن التكتل الأطلسي كان موجوداً فعلاً قبل عقد الحلف رسمياً. فوجوده في رأيهم يرجع إلى التحالف الذي ربط كلاً من إنكلترا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية قبل الحرب العالمية الأولى.
وتمتد جذوره إلى التراث المشترك بين أوربا وأمريكا. ومهما يكن الأمر فإنه حين اشتدت الحرب الباردة بين المعسكرين الغربي والشرقي، وقام بين المعسكرين في أوربا ما سماه تشرشل «بالستار الحديدي» الذي يحول دون تقارب الطرفين وازدياد النفوذ السوڤييتي في أوربا، رأت كل من فرنسا وإنكلترا وبلجيكا وهولندا واللكسمبورغ أن مصالحها تقتضي أن تتحالف عسكرياً، وقد تم ذلك في ميثاق بروكسل المبرم في 17 آذار 1948، ولكن سرعان ما تبين أن تلك الدول غير قادرة بمفردها على الوقوف في وجه ما عدّ توسعاً سوڤييتياً في الغرب من دون مساعدة الولايات المتحدة الأمريكية.
وقد تبنى السناتور الأمريكي فاندنبرغ Vandenberg فكرة انضمام بلاده إلى هذا التحالف على أساس المساعدة المتبادلة بينها وبين الدول سالفة الذكر، وتقدم بتوصية رسمية في هذا الاتجاه إلى مجلس الشيوخ الأمريكي في شهر حزيران 1948، وأعقب ذلك بدء مرحلة من التشاور والمفاوضات بين الحكومة الأمريكية وحكومات الدول الأخرى في منطقة شمال الأطلسي، وانتهت هذه المفاوضات بإبرام معاهدة حلف شمال الأطلسي، ووافق عليها مجلس الشيوخ الأمريكي بأغلبية 82 صوتاً ضد 13 صوتاً، وتبع ذلك إجراء التصديق عليها من قبل الرئيس الأمريكي في 25 تموز 1949، ومن قبل الدولة المؤسسة الإحدى عشرة، وبذا أصبحت المعاهدة سارية المعول اعتباراً من 24 آب 1949.
الدول الأعضاء في الحلف
تتألف عضوية الحلف من بلجيكا، كندا، الدانمارك، فرنسا، ايسلندا، إيطاليا، اللكسمبورغ، هولندا، النروج، البرتغال، المملكة المتحدة، الولايات المتحدة الأمريكية، وقد انضمت كل من اليونان وتركيا للحلف في شهر شباط عام 1952، وانضمت ألمانية الغربية للحلف في أيار عام 1955، وقد اتحدت الألمانيتان عام 1990، فأصبحت ألمانيا الموحدة هي الدولة العضو في الحلف. وكان انضمام إسبانيا إلى المعاهدة في أيار عام 1982، هذا وقد انسحبت فرنسا من قيادة الحلف العسكرية المشتركة عام 1966 دون أن تنسحب من عضويته. كما وانضم إلى الحلف في كانون الثاني 1999 الدول اليورو أطلسية التالية: تشيكيا، هنغاريا، بولونيا.
ومن بيان الدول المشتركة في هذا الحلف يتضح أن العامل الاستراتيجي العسكري هو المعيار الحاسم في عضويته وليس العامل الإقليمي، فالحلف يضم دولاً تترامى في قارتين من تركيا واليونان في الشرق وهما دولتان غير أطلسيتين إلى أمريكة وكندا في الغرب مروراً بمعظم أوربا الغربية. ودول أوربية شرقية كانت إلى حين أعضاء في حلف وارسو المنافس في حين تنتظر بقية أعضاء هذا الحلف دورها للانضمام لحلف شمال الأطلسي.
أهداف حلف شمال الأطلسي
تقع معاهدة حلف شمال الأطلسي في مقدمة وأربع عشرة مادة وتنص المقدمة على أن «الدول الأطراف تجدد عهدها وثقتها بالمبادئ والأهداف التي اشتمل عليها ميثاق الأمم المتحدة وتؤكد رغبتها في أن تحيا في سلام إلى جانب الدول والحكومات كافة، وتعلن تصميمها على أن تحافظ على حريتها وحضارتها وتراثها المشترك وقيمها القائمة على مبادئ الديمقراطية والحرية والفردية وحكم القانون، كما تؤكد أنها ستنسق جهودها بشكل جماعي للدفاع عن أمن وسلام منطقة شمال الأطلسي».
وقد تعهدت الأطراف المتعاقدة، بنص المادة الأولى من معاهدة الحلف، بالامتناع عن استخدام القوة أو التهديد باستخدامها بما يتعارض مع مبادئ وأهداف ميثاق الأمم المتحدة، كما تعهدت بأن تعمل على تسوية منازعاتها الدولية بالطرق السلمية وعلى النحو الذي يدعم السلام والأمن الدوليين.
واشتملت المادة الثالثة من المعاهدة على إعلان الدول المتعاقدة عن رغبتها في أن تدمج وتنسق جهودها بالشكل الفعال الذي يُمكن الدول هذه من تحقيق الأهداف التي قام من أجلها هذا التحالف.
ونصت المادة الرابعة على مبدأ التشاور الجماعي في الحالات التي يعتقد معها بوجود تهديد للكيان الإقليمي أو الاستقلال السياسي أو لأمن أي دولة منها. أما المادة الخامسة والتي تعد من أهم هذه المواد كلها فقد ذكرت أن أي عدوان مسلح يقع على دولة من دول حلف شمال الأطلسي يعتبر عدواناً ضد كل الدول المتحالفة، ويتعين في هذه الحالة اتخاذ ما تراه ضرورياً من الإجراءات القادرة على مقاومة العدوان والترتيبات التي اتخذت في مواجهته إلى مجلس أمن الأمم المتحدة ليقوم بواجباته المنصوص عليها في الفصل السابع من الميثاق.
وأكدت المادة السابعة من معاهدة الحلف عدم تعارض نصوص المعاهدة مع الحقوق والالتزامات التي تتمتع بها الدول الأطراف المعلنة في ظل ميثاق الأمم المتحدة، كما أكدت استمرار اعتراف هذه الدول بسلطة مجلس الأمن باعتباره الجهاز الأول المسؤول عن حماية أوضاع السلام والأمن في العالم.
ونصت المادة الثالثة عشرة على أنه بعد انقضاء عشرين عاماً على سريان المعاهدة يحق لأي طرف من الأطراف أن ينسحب من المعاهدة ويكون ذلك بعد عام من تقديم أخطار بهذا المعنى إلى حكومة الولايات المتحدة التي تقوم من جانبها بإخطار الدول المتحالفة الأخرى بهذه الرغبة.
المنطقة الجغرافية التي يغطيها الحلف
بموجب المادة الرابعة من معاهدة واشنطن لعام 1949 يعدّ الهجوم المسلح الواقع على واحد أو أكثر من الفرقاء الموقعين عليها شاملاً ما يأتي:
1- أي إقليم من أقاليم الفرقاء في أوربا أو أمريكا الشمالية أو المقاطعات الجزائرية فرنسا أو إقليم تركيا (لأن قسماً من تركيا يقع في آسيا) أو الجزر الخاضعة لولاية أي من هؤلاء الفرقاء في منطقة شمال الأطلسي وشمال مدار السرطان.
2- القوات والسفن والطائرات التابعة لأي من الفرقاء إذا كانت على أو فوق أقاليمها أو في أية منطقة في أوربا تعسكر فيها قوات احتلال تابعة للفرقاء حين دخول الاتفاقية حين النفاذ (أي في ألمانيا والنمسا) أو في البحر المتوسط أو في المحيط الأطلسي شمال مدار السرطان وحتى خليج المكسيك غرباً.
وتعد المناطق التالية أيضاً محمية بالحلف «الجزر الكندية القطبية، آلاسكا» (كجزء من إقليم الولايات المتحدة)، غرينلند كجزء من إقليم الدانمارك، وجزر البهاما وبرمودا(كجزر خاضعة للسيادة البريطانية)، كذلك كل الجزر والأقاليم الواقعة شمال مدار السرطان.
غير أنه بعد استقلال الجزائر العربية منذ 3 تموز 1962 قرر مجلس الحلف إخراجها من المناطق المحمية به. والجدير بالذكر أن الجزائر تعرضت لحرب أسلحة هذا الحلف في أثناء نضالها البطولي من أجل الاستقلال. غير أنه بالمقابل ومع انضمام تركيا للحلف أصبحت مناطق نفوذه تمتد حتى شرق البحر المتوسط مما يجعل الوطن العربي على مرمى مدفعيته إضافة إلى صواريخه وأدوات حربه الخطيرة الأخرى. كما أن انضمام ثلاث من الدول السابقة في حلف وارسو مدّ منطقة نفوذ الحلف لتشمل ما كان داخلاً في منطقة نفوذ الحلف الأول وجعل الحلف يقترب أكثر من روسيا الاتحادية وما تبقى من الدول المنشقة عن الاتحاد السوفييتي السابق.
أجهزة الحلف ونشاطاته
تضم أجهزة حلف شمال الأطلسي الهيئات الأساسية الآتية:
1- مجلس الحلف: وهو السلطة العليا للحلف. ويمثل الدول فيه عادة وزراء خارجيتها وماليتها، وينعقد المجلس مرتين أو ثلاث مرات سنوياً، ويرأس المجلس السكرتير العام للحلف وهو حالياً جورج روبرتسون (البريطاني)، كما يتولى السكرتير العام رئاسة الجهاز الدائم للسكرتارية التي تنظم على اساس وجود أقسام خاصة للشؤون السياسية. ويساعد المجلس في النهوض بمهامه ما ينوف عن عشرين لجنة أساسية أخرى إضافة للجان مؤقتة تشكل حسبما تدعو الحاجة. ومن أهم اللجان الأساسية: لجنة الشؤون السياسية، لجنة التخطيط الدفاعي، لجنة شؤون الدفاع النووي، لجنة التخطيط الاقتصادي، لجنة التمحيص الدفاعي، لجنة البنيان التنظيمي، لجنة تخطيط الطوارئ المدنية، لجنة الإعلام والدعاية، لجنة الموازنة المدنية والعسكرية، لجنة التنسيق الجوي.
2- اللجنة العسكرية: وهي السلطة العليا في الشؤون الحربية وتضم رؤساء أركان حرب الدول المتحالفة باستثناء إيسلندة التي ليس لها قوات مسلحة فيمثلها مندوب مدني.وتجتمع اللجان العسكرية مرتين في العام على الأقل. وإلى جانب اللجنة هناك اجتماعات مستمرة للممثلين العسكريين الدائمين للدول المتحالفة بقصد التخطيط المستمر للسياسة العسكرية للحلف.
وحتى عام 1966 كانت الإدارة التنفيذية للجنة العسكرية هي ما يسمى بالمجموعة الدائمة. لكن انسحاب فرنسا من القيادة العسكرية للحلف في آذار 1966 أدى إلى إلغاء المجموعة الدائمة وإبدالها بجهاز جديد أطلق عليه اسم الهيئة العسكرية الدولية.
3- القيادة العسكرية: التي تتبع الحلف وهي قيادة الأطلسي ومقرها نورفولك بولاية فرجينية الأمريكية، وقيادة منطقة القنال الإنكليزي، وقيادة القوات المتحالفة في أوربة ومقرها حالياً مدينة (ايفير) قرب بروكسل في بلجيكا ويرأس هذه القيادة ضابط أمريكي تتبعها ثلاث قيادات فرعية هي:
ـ قيادة المنطقة الشمالية ومقرها كولساس في النروج.
ـ قيادة المنطقة الوسطى ومقرها برولسنوم في هولندا.
ـ قيادة المنطقة الجنوبية ومقرها مدينة نابولي في إيطاليا. وهي القيادة التي تهيمن على البحر المتوسط من شرقه إلى غربه.
وكلها في زمن السلم تقوم بتخطيط الدفاع المحتمل وبوظائف تتعلق بتطوير قوات الدول الأعضاء وتدريبها. وقد اكتسب هذا التنظيم المصداقية المقنعة حين أدت الولايات المتحدة فعلاً في كانون الثاني 1950 القسط الأول البالغ مليار دولار من المساعدة العسكرية المخصصة لأعضاء الحلف. وجاء اجتياح كوريا الشمالية لأراضي كوريا الجنوبية في حزيران من العام نفسه، وما أعقبه من رد فعل حازم من الولايات المتحدة دليلاً على التصميم على مقاومة كل توسع عسكري سوڤييتي ومجابهة الضغوط على أوربا، وتمثل هذا التصميم عملياً في كانون الأول 1950 بتسمية مجلس الأطلسي الأعلى للجنرال دوايت آيزنهاور قائد القوات المتحالفة الغربية في الحرب العالمية الثانية قائداً أعلى لقوات الأطلسي في أوربا، وتبع ذلك تسلم عدد من الجنرالات الأمريكيين مناصب القيادة في التحالف الأطلسي. ثم كان تخصيص ثلاثة مليارات دولار لبناء البنية الأساسية للحلف من قواعد ومطارات وأنابيب لنقل الطاقة وشبكات للمواصلات ومستودعات للوقود والعتاد دليلاً آخر على متانة الحلف في الزمان والمكان.
ومع ذلك فقد روعيت الاعتبارات السياسية في توزيع القيادات وتداخلها. فكل عضو من أعضائه كان يتمثل في هذا التنظيم بعدد من قواده البريين والبحريين والجويين. ومع تسليح ألمانيا الغربية والسماح لها بالانضمام إلى معاهدة بروكسل ومن ثم إلى منظمة شمال الأطلسي، كان يعني دعم القوات الغربية برفد ألماني قوي يتألف من عدة فرق وقوات جوية كبيرة عسكر أكثرها في أراضي ألمانيا الغربية. وكان دخول ألمانيا الغربية الحلف سبباً مباشراً لإقامة حلف وارسو.
أسلحته
كان الهاجس المعلن لمنظمة شمال الأطلسي في البدء تمكين الحلفاء الغربيين من الوقوف في وجه أي غزو محتمل آت من الاتحاد السوڤييتي وحلفائه ضمن مجهود دموي. وتطورت فكرة الردع هذه إلى نشر أسلحة أمريكية نووية فعلاً في قواعد أوربية غربية ابتداء من عام 1957. وفي أوائل الستينيات بدا أن وحدات المنظمة أخذت تتفوق بنوعية السلاح ومهارة التدريب مما أحل نوعاً من التكافؤ مع قوات حلف وارسو الأضخم في العدد. ثم شهد هذا النظام تقدماً أبلغ عندما أصبحت لدى قوات المنظمة صواريخ متوسطة المدى مسلحة نووياً تسيطر الولايات المتحدة على حركتها، فضلاً عن ثلاثمائة ألف من القوات الأمريكية تتمركز في أراضي المنظمة وخاصة في ألمانيا الغربية. فكان حلف شمال الأطلسي يملك حوالي سبعة آلاف رأس نووي تنقل بتشكيلة متنوعة من الوسائط يبلغ مجموعها 225 من الطائرات والصواريخ القصيرة المدى والمدفعية وكلها في حراسة الولايات المتحدة الأمريكية.
استراتيجية الحلف
ثمة من يعتقد أن حلف شمال الأطلسي كتحالف في وقت السلم، استطاع أن يحقق مستوى عالياً للغاية من التنسيق والمركزية وإن لم يحقق ذلك القدر من التكامل الذي يرقى به إلى مستوى التنظيمات الفوقمية Super National ومفهوم التكامل أو الاندماج في حلف الأطلسي بالمقاييس الحالية لدول الحلف هو محاولة التوصل إلى حد من التنسيق في القوات والسياسات بما يسمح بوضعها موضع العمل الفعال تحت قيادة مركزية إذا نشبت الحرب. غير أنه حتى اليوم ما زال الإشراف على القوات الوطنية التابعة لدول الحلف تحت السيادة الوطنية للدول الأعضاء، كما أن استخدام الأراضي والتسهيلات في أقاليم دول الحلف ما زال يحتاج إلى موافقة الدول المعنية، أما الأسلحة النووية التي يفترض أنها تحت تصرف الحلف فهي تخضع لرقابة الولايات المتحدة وحدها وتقع خارج الأراضي الأوربية، وقد كان هذا من الأسباب التي حملت الجنرال ديغول على اتخاذ قراره التاريخي في عام 1966 بالانسحاب من القيادة العسكرية للحلف، إضافة لقناعته الراسخة بأن أمريكة إنما تستخدم الحلف وقواتها فيه لخدمة مصلحتها القومية قبل مصالح حلفائها، وهو أمر أكدته مثلاً تصرفات الرئيس نيكسون في معارك تشرين 1973 بين العرب وإسرائيل حين استنفر القوات الأمريكية في العالم بما فيها تلك الموضوعة تحت تصرف الحلف الأطلسي، وكان ممكناً لو تطورت الأمور أن يوجهها للتدخل في الوطن العربي من دون رضا أو حتى مشورة حلفائه الأطلسيين وذلك ما سبب شرخاً في العلاقات الأمريكية الأوربية وجعل مستقبل الحلف بوصفه قوة فعالة موضع جدل مستمر بين الأوساط الأوربية المختلفة على الرغم من محاولة التوفيق التي تمت فيما بعد فيما عرف بإعلان أتاوا.
كانت استراتيجية حلف الأطلسي تعتمد بادئ الأمر على تدعيم القوة التقليدية لأوربا بالقوة النووية لأمريكا، أي تقسيم مسؤولية الدفاع عن الغرب إلى مهمتين: المشاركة بالأسلحة التقليدية وتتولاها أساساً أوربا الغربية، والمشاركة بالأسلحة النووية وتتولاها أساساً الولايات المتحدة الأمريكية. إلا أنه في ضوء النتائج التي أسفرت عنها حرب كوريا في مطلع الخمسينات دخلت تحولات على استراتيجية الحلف تتلائم مع التغيرات التي طرأت على الاستراتيجية الأمريكية التي تبنت نظرية الانتقام الشامل ومضمونها مقابلة التهديدات السوڤييتية مهما كان حجمها ونوعية الأسلحة المستخدمة في هذه التهديدات بالرد النووي والفوري والشامل من جانب البنتاغون.
لكن التطورات الجذرية التي طرأت على الاستراتيجية الدولية بسبب الاختراعات التقنية الخاصة بالصواريخ العابرة للقارات، والتصاعد المذهل للطاقة التدميرية للأسلحة النووية أديا بأمريكا مرة أخرى إلى العدول عن فلسفة الانتقام الشامل والاستعاضة عنها باستراتيجية الاستجابة المرنة أو ما يسميه بعضهم استراتيجية القوة المقيدة، وهي الاستراتيجية التي كان من أبرز واضعيها الجنرال مكسويل تيلور، ومضمون هذه الاستراتيجية بعبارة موجزة «التدرج في رد الفعل العسكري بحسب التحدي».
ومع أن هذه الاستراتيجية الجديدة قبلت رسمياً من قبل الحلف الأطلسي منذ عام 1967 فإن خصومها الأوربيين ومازالوا كُثر لقناعتهم بأن من شأن هذه الاستراتيجية أن تؤدي إلى تنصل الولايات المتحدة التدريجي من مسؤولية الدفاع الفعال عن أوربا وتركها تقاتل بالأسلحة التقليدية ولو بمساعدة أمريكية ما دام استخدامها للسلاح القوي لديها وهو السلاح النووي بعيد الاحتمال. وهكذا تنحسر أهمية الحلف الأطلسي في نظر خصوم الاستراتيجية الجديدة إلى مجرد كونه حاجز أمان للولايات المتحدة الأمريكية.
تعرض حلف شمال الأطلسي لمطارق نقد عنيفة انهالت عليه من قبل الدول الاشتراكية ودول عدم الانحياز على حد سواء.
فأما الدول الاشتراكية فترى:
1ـ أن الحلف يناقض في جوهره قضية السلام ومبادرة الأمم المتحدة لأن الغرض الأساسي منه هو التربص بهذه الدول لاختلافها العقائدي مع دول تحت ستار تهديدها المزعوم للسلام في أوربا والعالم.
2ـ أنه يناقض المعاهدتين اللتين أبرمتا بين كل من إنكلترا والاتحاد السوڤييتي وبين فرنسا والاتحاد السوڤييتي عام 1944 وهما معاهدتا صداقة ووفاق.
3ـ وأنه يناقض معاهدتي يالطة وبوتسدام المبرمتين بين كل من أمريكا والاتحاد السوڤييتي وإنكلترا وهما أيضاً معاهدتا صداقة وتفاهم انقسم عالم ما بعد الحرب بين هذه الدول الكبرى على أساسها.
والواقع أنه في 31 آذار 1954 خطت الدبلوماسية السوڤييتية خطوة ذكية نحو إثبات أن الحلف الأطلسي مناقض لقضية السلام إذ تقدمت موسكو بطلب انضمام إلى الحلف فرفض طلبها عملياً.
أما أنصار عدم الانحياز فإنهم ينعون على الحلف الأطلسي ما يلي:
1ـ أنه أكد انقسام العالم إلى كتلتين مناهضتين وجعل التقارب بينهما عسيراً مما شدد من رياح الحرب الباردة التي لفحت كل منطقة من مناطق العالم تقريباً بما تحمله من قلق وخوف.
2ـ ولأنه يدعو إلى التسابق في التسلح مع كل ما يتركه ذلك من آثار في انخفاض مستويات المعيشة، فالملايين الملايين التي تصرف على التسلح المدمر يمكن أن توفر حياة أفضل للبشرية عامة وللدول النامية خاصة.
3ـ ولأنه يضعف هيئة الأمم المتحدة إذ ينصب نفسه من دون مجلس أمنها حارساً على السلام ووفق تقدير أربابه وهو تقدير أناني مصلحي بالدرجة الأولى.
4ـ وأخيراً وليس آخراً لأنه استخدم غير مرة في تدعيم الاستعمار وقمع الحركات التحررية على نحو ما جرى إبان الثورة الجزائرية في الخمسينات، وعلى نحوها ما جرى بعد ذلك في المستعمرات البرتغالية في إفريقيا حيث استخدمت أسلحة الحلف وخبراته في اغتيال الآلاف من الطامحين للحرية والخلاص من خرافة ما يسمى بعبء الرجل الأبيض بل أن من العدل أن يقرر أن أسلحة حلف شمال الأطلسي لم تستخدم فعلياً حتى الآن إلا في هذا المجال.
التطورات التي لحقت بالحلف بعد انهيار الاتحاد السوڤييتي
مع انهيار الاتحاد السوڤييتي وتفكك المنظومة الاشتراكية حصل تغير جذري في أهداف الحلف واستراتيجيته فقد تغير الهدف من مبدأ الدفاع المشروع self defense إلى مقولة الأمن الجماعي collective security. فلقد قادت هذه التطورات المتسارعة إلى التركيز على الهدف الذي حال الانقسام دون بلوغه وعطلت الحرب الباردة السعي إليه، وهو قيام نظام أوربي سياسي جديد على أساس السلم والتعاون ولو أو الواقع كشف عن هيمنة للولايات المتحدة بعد أن أصبحت في المنظور الزمني الراهن على الأقل بمنزلة القطب الرئيس في السياسة العالمية، وفي ما سمي بالنظام العالمي الجديد.
وكان من الطبيعي بعد أن تضاءل تأثير خصم الأمس أن ينتقل حلف شمال الأطلسي من مؤسسة دفاعية في جوهره إلى مؤسسة للأمن الجماعي الأوربي، إن هذا الانتقال يضع الحلف أمام اختيار جوهري: أما وظائفه اليوم على وجه التحديد فهي أن الحلف راجع مفهوماته الاستراتيجية في القمة التي عقدت في واشنطن عام 1999.
ولكن تسبق انعقاد هذه القمة أحداث بالغة الأهمية. لم يكن أقلها «الشراكة من أجل السلام» التي تمثلت في اتفاق الحلف مع روسيا في «الصك التأسيسي» المبرم بين الطرفين في أيار عام 1997 وبموجبه «يتعهد الطرفان ببناء سلام» في المنطقة الأوربية الأطلسية مبني على مبادئ الديمقراطية والأمن والتعاون وعلى أن أمن جميع دول هذه المنطقة غير قابل للتجزئة.
وبهذا تحول حلف شمال الأطلسي إلى مؤسسة تركز جهدها على مهمات الأمن الجماعي في أوربا، ولو كانت هذه المهمات تتعدى في مداها الجغرافي ما نصّ عليه ميثاق الحلف، كما حدث في أزمة تفكك يوغسلافيا وحرب البوسنة واضطرابات كوسوفو التي كان للحلف باع طويل في معالجتها، وقد فتح الحلف الباب أمام توسيع عضويته حتى إن اشتراك روسيا نفسها فيه لم يعد في أدبيات الحلف شيئاً من باب اللامعقول، ويعزى غرض التوسيع إلى استحسان انتشار الاستقرار في البلاد الأوربية الوسطى والشرقية. وقد قالت وزيرة الخارجية الأمريكية في هذا الصدد في 15 شباط 1997 لمجلة «الإيكونومسيت» Économist: «إننا بذلك سنكسب حلفاء جدداً يتوقون إلى الإسهام في برنامجنا المشترك وقادرين على هذا الإسهام، في مكافحة كل من الإرهاب وانتشار الأسلحة وعلى تأمين الاستقرار في البقاع المضطربة كما كانت الحال في يوغسلافيا السابقة …» فغدا الحلف، مع قدر من التعاون مع الأمم المتحدة ومجلس الأمن على الأخص، بمثابة حارس على الأمن الجماعي الأوربي، وقد يتعدى أوربا إلى مناطق أخرى، مع ما يحمل ذلك في طياته من نوازع السيطرة وفرض ما لا يأتلف مع قواعد القانون الدولي، ومن هذا المنطلق لم تبد روسيا ارتياحاً لتوسيع الحلف باتجاه حدودها الغربية وعارضت معارضة شديدة فكرة ضم دول البلطيق إليه، دون أن تفلح في استبعاد الفكرة من تخطيط الحلف للمستقبل القريب أو البعيد، تخطيطاً يبرز ما يقول الحلف أنه مايزال يسعى إليه من «أمن مشترك لأعضائه، ونظام عادل ودائم وسلمي في أوربة مبني على الديمقراطية وحقوق الإنسان وحكم القانون». وغير كافٍ أن لكل من هذه المصطلحات الأخيرة مفاهيم مختلفة في الزمان والمكان إضافة لما يشهده العالم من ازدواجية المعايير في تفهم الديمقراطية وحكم القانون وحقوق الإنسان.
محمد عزيز شكري، رفيق جويجاتي
المراجع
الموسوعة العربية
التصانيف
الأبحاث