الأنا
 
الأنا ego ضمير المتكلم، ويشير به كل واحد إلى نفسه وهو أَعْرَف المعارف كما يقول فخر الدين الرازي في التفسير الكبير. والنسبة إليه: «الأَنية»، و"الأنانية أو الأنائية». درس الفلاسفة وعلماء النفس هذا المصطلح، وقام سقراط بدور مهم في تطوير «الإرهاصات» المبكرة اليونانية لفهم الأنا، وذلك حين تبنى في فلسفته الشعار المعروف: «اعرف نفسك بنفسك». والنفس الفردية الإنسانية العاقلة لدى أفلاطون كانت جزءاً من عالم المثل. ومع أن النفس عند أرسطو كانت تدرس ضمن العلوم الطبيعية، فإنها جوهر غير خاضع للتغير كالأعراض. وبعد الميلاد، ازداد الاهتمام بالأنا على يد كل من أفلوطين والقديس أوغسطين.

في الفكر العربي الإسلامي

لم تكن «الأنا» في العصر الجاهلي منفصلة عن العشيرة، فهي ذائبة في الـ «نحن»، (والنزعة الفردية التي تُستشف لدى بعض شعراء العصر الجاهلي كانت مرفوضة عندهم وتعود إلى الصعلكة) وهذا واضح في معلقة عمرو بن كلثوم:
 
ونحن التاركون لما سخطنا
 
ونحن الآخذون لما رضينا
 أما في الإسلام فتبدو الأنا واضحة في سورة طه في خطاب الله تعالى لموسى )إنني أنا الله لا إله إلا أنا( (الآية 14)، ويرى عبد الكريم الجيلي في كتابه «الإنسان الكامل» أن في الآية المذكورة تحدياً إلهياً، وأن الأحدية الباطنة المشار إليها بالهوية هي «الأنية» الظاهرة، المشار إليها بلفظة أنا. ويبدو أن الاختصاص الإلهي بـ «الأنا» منذ بداية الإسلام جعل الناس يعتذرون عن نسبة «ضمير المتكلم» إليهم بقولهم: «أعوذ بالله من كلمة أنا». وبالتالي يمكن تصور الوقع الهائل لصيحة الحلاج: «أنا الحق» التي عُدت، في أحسن الحالات نوعاً من «الشطح»، وفي أسوئها، كفراً يستحق قائلها القتل.
حاول المتصوفة، فيما بعد، تأويل قولة الحلاج، وأرجعوا أصلها إلى تجربة الحب الإلهي. فكما أن مجنون ليلى كان إذا سأله الناس عن ليلى، يقول: «أنا ليلى»، كذلك كانت حال الحلاج العاشق لله. وثمة أمثلة كثيرة في مجال المحبة لدى مؤرخي التصوف، منها ما ذكره أبو نصر السراج الطوسي في كتابه «اللمع»: «لا تصلح المحبة بين اثنين حتى يقول الواحد للآخر يا أنا»، وقد شاع هذا المعنى شعراً: «أنا من أهوى ومن أهوى أنا». أما على صعيد التجربة الصوفية فيرى الكثيرون أن ما صدر عن الحلاج إنما صدر عنه في حالة «سكر» روحاني، ناجم عن «وجد» شديد تضيق عنه العبارة. فإذا عاد الصوفي إلى وعيه وكان في حال «الصحو» النقيض، يرفض ما صدر عنه، وينفي كل حلول أو اتحاد فهو مجازاً اتحاد وحقيقة توحيد، بحسب تعبير الغزالي. وقد ثبّت روزبهان بقلي الشيرازي «شغف العاشق والمعشوق» وسماه «مقام الأنانية»، نسبة إلى شطحة الحلاج.
وفرق ابن الفارض، فيما بعد في «التائية الكبرى» من ديوانه، بين حالي السكر والصحو، أي بين «الأنا إياها» و«الأنا إياي»، وهذا ما حدا بشارح التائية، عبد الرزاق القاشاني إلى القول إن «الأنا إياها» تعني: «أنا الحق» و«الأنا إياي» تعني «الأنا أنا»، أي الجانب المكلف من الشخص حين صحوه وانطباق الشرائع عليه. في حين يعامل «السكران» كالمجنون، في حالة الشطح. وفي هذا المعنى نفسه الذي يستبعد «الاتحاد» يقول ابن عربي في كتاب «الياء»: «إن الاتحاد محال أصلاً». إن هذا المعنى الحاصل عندك من الذي تريد الاتحاد به هو الذي يقول: «أنا» فإنه الناطق فيك، لا أنت. فإذا قلت: «أنا»، فأنت لا هو فإن قلتها بأنانيتك فأنت لا هو، وإن قلت بأنانيته فما قلت، فهو القائل: «أنا بأنانيته»، كذلك يعقد ابن عربي في كتاب «التراجم» باباً في «ترجمة الأنانية»، ويقول «أنا حيث ما كانت مربوطة بأنت».
أما على صعيد الفلسفة العربية ـ الإسلامية، فقد أعطى ابن سينا لمفهوم النفس ومن ثم لمفهوم «الأنا» بعداً عالمياً جديداً، تجاوز فيه ما اقتبسه من الفلسفة اليونانية، وأنشأ بأفكاره نموذجاً مميزاً لتـلاقح الثقافة اليونانية والثقافة الإسلامية. فقد أفاد من أرسطو وأفلوطين مبادئ وظفها في خدمة نظرية «المعاد» التي تقتضي أن تكون النفس بموجبها جوهراً خالداً يرجع إلى أصله (عالم العقول المُفارِقة) بعد الموت. ولكي يبرهن ابن سينا على هبوط النفس من عالم علوي:
هبطت إليك من المكان الأرفع
 
ورقاء ذات تعزز وتمنع
 
فقد ابتكر «برهان الإنسان المعلق في الفضاء»:
«يجب أن يتوهم الواحد منا كأنه خلق دفعة، وخلق كاملاً. ولكنه حجب بصره عن مشاهدة الخارجات. وخلق يهوي في هواء أو خلاء هوياً لا يصدمه فيه قوام الهواء صدماً يحوج إلى أن يحس ثم يتأمل أَنَهُ هل يثبت وجود ذاته؟ فلا يشك في إثباته لذاته موجوداً». هذه الذات إذن ليست الجسم بعينه. بل هي الشيء الذي يقال له «هو» أو يقول الإنسان عنه بنفسه: «أنا». وهو «ذاته الحقيقية». ويجري ابن سينا في كتابه «الشفاء» مقارنة بين الجسم الذي ينطوي على النفس والثياب التي يندرج فيها الجسم. فالثياب التي يعتاد الإنسان ارتداءها تمنعه من أن يفكر بنفسه عارياً، كذلك البدن اعتادت النفس مجاورته حتى إنها لا تتصور لها وجوداً مستقلاً عنه. بل قد يصل الأمر إلى أن يعد القلب أو الدماغ هو الشيء الذي يعتقد أنه لذاته «أنا». يقول ابن سينا: «يجب أن يكون شعوري بـ «أنا» هو شعوري بذلك الشيء، وليس الأمر كذلك. فإني إنما أعرف أن لي قلباً ودماغاً بالإحساس والسماع والتجارب، لا لأني أعرف أني أنا، فيكون إذن: ليس ذلك العضو لنفسه «هو» الشيء الذي أشعر به أنه «أنا بالذات».
ومع أن ابن سينا يعد الجسم شرطاً لوجود النفس لا محالة، فإنه يؤكد أن «النفس لا تكون عاقلة بالحقيقة إلا بعد التفرد والتجرد عن المادة». ويضيف ابن سينا أن شعور النفس بذاتها هو «أولي لها»، كما يميز تمييزاً حاسماً «الشعور بالذات» من «الشعور بالشعور» قائلاً: «إذا أدركت ذاتي وأعلم أني أنا المدرِك، كان المدرِك والمدرَك شيئاً واحداً، وهذه الخاصية هي للإنسان وحده من دون سائر الحيوانات، فإن تلك ليس لها شعور بذواتها» فالأول شعور فعلي ودائم، على حين يكون الثاني حاصلاً في وقت دون وقت.
ظلت هذه النظرية تمثل خلاصة الفكر الإسلامي، وقد لخصها نصير الدين الطوسي في القرن السابع للهجرة في مراسلاته مع صدر الدين القونوي بقوله: «أما حقيقة النفس الإنسانية، فهي التي يشير إليها كل واحد من الناس بقوله: أنا. فإن ذلك أظهر الأشياء له. وإثباتها لا يحتاج إلى برهان. لأن العلم بثبوتها فطري». ولم يتجرأ أحد على نقد هذه النظرية قبل القونوي المذكور. فقد رد على النص السابق قائلاً: «إن الصعوبة ليست في معرفة أن ثمة أمراً وراء البدن مدبراً له، هو المسمى نفساً، بل الذي يعسر جداً هو معرفة ما حقيقة ذلك الأمر المدبر؟ ولا شك في أن معرفة كنهه ليس ببديهي».
وهنا يظهر أول الأمر أن «الأنا» أو «النفس» ليس جوهراً مصمتاً، ولا واحداً وحدة مطلقة، وذلك في رد القونوي الذي يضيف: «وأيضاً فإن الإنسان من حيث ظاهره وباطنه وقواه وصفاته متكثر، ونسخة وجوده متحصلة من أمور مختلفة تجمعها أحدية ـ كثرة. وهكذا كل جملة، فإنها متحصلة من أفراد تجمعها وحدة تلك الجملة». ويعقب القونوي بأن المحققين من الفلاسفة متفقون على وجود نفس مفارقة باقية غير البدن، لكن المشكلة هي معرفة ما إذا كان من الممكن إثباتها «بطريق البرهان». ولو كان ثمة برهان فعلاً لما اضطرب الناس في أمرها واختلفت آراؤهم.
ويختتم رأيه قائلاً: «فلو كانت معرفة حقيقة العلم والوجود والنفس ونحو ذلك ـ كما زعم القائلون ـ بديهية، لما وقعت حيرة ولا حصل نزاع. لأن البديهي ما لا نزاع فيه. وهذا ليس كذلك، فليس ببديهي».

في الفكر الغربي الحديث

صورة الأنا عند الفيلسوف الفرنسي باسكال ذات سمة سلبية، وهي تشبه إلى حد كبير صورة النفس عند الملامتية في التصوف العربي الإسلامي. فالأنا الفلسفي لدى باسكال لم يتخلص من التأثير الديني، إنه مكروه وجائر ومستبد. في حين أعطى ديكارت «الأنا» وثيقة ميلاده الفعلي في صلب الفلسفة، وذلك بربطه بالفكر. وقد أحدثت الجملة الشهيرة لديكارت: «أنا أفكر إذن أنا موجود» دوياً كبيراً في أجواء الفلسفة الحديثة فكانت القاعدة الصلبة التي أقام عليها ديكارت صرح فلسفته. وانقسم الفلاسفة بعد ديكارت بين مؤيد لربط الأنا المفكر بالوجود ومعارض لها بطرائق مختلفة. مما مهد السبيل أمام الفيلسوف الألماني كَنت الذي عدَّ «الأنا» شرطاً لوحدة الفكر في الزمن. والأنا، بهذا المعنى، يعبر عن التعالي (الخارج عن نطاق التجربة). وتعمق الفيلسوف الألماني الآخر فيختة في غنى «الأنا» ورأى أن الشعور بالواقع مرتبط بالفكر، وإثبات وجودٍ ما هو إثبات موضوع للفكر. وأضاف أن الفعل الأصلي للفكر هو التعبير عن الاستقلال الجذري لـ «الأنا». هذا الفعل هو الفرد بذاته بوصفه سابقاً على تمييز الأنا الاختباري من اللاأنا (العالم الخارجي)، ومن ثم بوصفه يطرح في آن معاً الشخص والموضوع. وابتكر فيختة فكرة «الأنا المطلق»، بمعنى الأنا الكلي الذي يختزل الصفات المشتركة لذوات البشر، بوصفهم متشابهين.

في علم النفس والتحليل النفسي

أنزل كلٌّ من ماركس ونيتشه وفرويد «الأنا» عن عرش السلطة وأعلنوا «موت الإنسان» إذ أصبحت حقيقة الأنا قائمة في مفهوم المصلحة عند ماركس، وفي السيطرة عند نيتشه، وفي اللاشعور عند فرويد.
وقد نجح التحليل النفسي مع فرويد في تشكيل الصورة المعاصرة للأنا بعد أن صارت من أسس الأدبيات العامة في الثقافة والفن، كما أثبتت جدواها في العلاج النفسي وفهم علم نفس الأعماق. وانقسمت النفس الإنسانية لديه إلى أجزاء أو أركان أو مواضع topiques ثلاثة: «الهو» id و«الأنا» ego و«الأنا الأعلى» super ego. ويرجع الفضل إلى فرويد في إرساء دعائم هذا التصور الجديد للنفس وتطويره حتى أواخر حياته.
الجديد عند فرويد هو كون «الأنا» قد خضعت أول مرة لقوانين الحتمية النفسية. وغدا السلوك الإنساني أسير الدوافع اللاشعورية والانفعالات غير المنطقية. وبذا طويت صفحة الأنا المفكرة الحرة المحلقة في عالم تجريدي. وغدا الكائن البشري أكثر تعقيداً مما كان يخطر على بال الفلاسفة وعلماء النفس التقليديين. وقد حاول أصدقاء فرويد وتلاميذه من بعده التقليل من هذا الجانب الحتمي في الأنا. والذين اختلفوا مع فرويد مثل يونغ وأدلر ابتعدوا عن التأويل الوحيد القائم على الدوافع الجنسية. ورأى يونغ أن الشخصية تنظر إلى الأمام والمستقبل بحثاً عن الكمال، وأن الأهداف تحرك الإنسان بقدر ما تحركه الأسباب. كذلك ابتكر يونغ مفهوم اللاشعور الجمعي ليعطي بعداً اجتماعياً للفرد كان فرويد قلل من أهميته. أما «أدلر» فركز على الجانب الإرادي لدى «الأنا»، وعلى تفرد الشخصية، ودور الكفاح في سبيل التفوق، كردة فعل على مشاعر النقص.
وحاول عدد من علماء النفس الأمريكيين إبراز الدور الاجتماعي للأنا. منهم هاري ستاك سوليفان في بداية النصف الثاني للقرن العشرين، الذي قال بأن الأنا أو الشخصية «كيان فَرضي خالص» لا يمكن ملاحظته أو دراسته بمعزل عن المواقف المتبادلة مع الآخرين، كما أنه لا يمكن تخيل الأنا أو الشخص معزولاً عن المجتمع.
وتنحو الدراسات المعاصرة الأخيرة إلى مراقبة الأنا من زاوية تكاملية. ولم تعد الأنا «نتاجاً لارتطام الهو بالواقع. كما أنها ليست مجالاً حيادياً يحدث فيه الصراع بين نزوات الهو وضغط الأنا الأعلى ودواعي الواقع». إن للأنا دوراً تكاملياً بين الداخل والخارج يوجه السلوك ويؤكد الذات قيمةً اجتماعية.
كما تظهر من وقت إلى آخر دعوات لإحياء فكرة الروح ووجود كينونة entity داخلية تصوغ مصير الإنسان، وذلك بتأثير وليم جيمس. فهو يعرِّف الذات أو «الأنا التجريبية» emperical me بأنها «المجموع الكلي لكل ما يستطيع الإنسان أن يدعي أنه له: جسده وسماته وقدراته وممتلكاته المادية وأسرته وأصدقاؤه وأعداؤه ومهنته وهواياته» وقد حاول جيمس الابتعاد عن مفهوم الأنا «الخالصة»، ووجد أنه، في علم النفس الطبيعي، يمكن تعريف الأنا بأنها «ذلك التيار من التفكير الذي يكوّن إحساس المرء بهويته الشخصية».
 
بكري علاء الدين
 

المراجع

الموسوعة العربية

التصانيف

الأبحاث