الخسائر البحرية المشتركة
العَوارُ لغة هو العيب، والعوارية هي البضاعة التي أصابها ماء البحر فنقصت بذلك قيمتها. وقد اقتبست اللغات الأوربية لفظة العوار للدلالة على الخسائر التي قد تلحق السفينة أو البضائع المشحونة عليها.
والخسائر البحرية نوعان: خسائر بحرية خاصة وخسائر بحرية مشتركة.
1- الخسائر الخاصة: هي الخسائر التي يتحملها من تصيبه، ومثل هذه الخسائر الأضرار التي قد تلحق بالبضائع المشحونة بسبب عيب خاص فيها، أو قد تلحق بالسفينة بسبب خطأ الربان.
2- الخسائر المشتركة avaries communes: فهي كل ما ينتج من أضرار وهلاك أشياء ونفقات أقدم عليها الربان قصداً للمنفعة المشتركة ومجابهة لخطر تعرضت له الرحلة البحرية. وهذه الخسائر مشتركة بين مجهز السفينة والشاحنين يسهمون جميعاً في تحملها وتوزع أعبائها لما فيه من فائدة عامة عليهم.
ومثال خسائر الأضرار تلك التي تلحق بالحمولة جراء طرح البضائع في البحر أو استعمالها وقوداً لإتاحة إكمال السفرة وتفريغها، أو تلك التي تلحق بالسفينة جراء إهلاك مهماتها وتفرعاتها من أشرعة وصواري تخفيفاً لحمولتها وتمكيناً لها من متابعة السفر، أما خسائر النفقات فهي النفقات الاستثنائية التي يدفعها الربان لسلامة الرحلة كنفقات تعويم السفينة وإسعافها أو قطرها.
يعد مبدأ الاشتراك العام في الخسائر البحرية من أقدم أنظمة القانون البحري. وقد ظهر مكتوباً لدى الفينيقيين بجزيرة رودس نحو القرن العاشر قبل الميلاد واشتهر بقانون رودس للرمي في البحر. وقد أعطى هذا القانون لمالك البضاعة المشحونة التي ألقيت في البحر حق مداعاة الشاحنين لمطالبتهم بما أفادوه من جراء التضحية برمي بضاعته.
وحيث أن نظام الرمي في البحر قد أصبح نادراً ولم يعد يتمشى مع حالة الملاحة الحديثة وتطور بناء السفن، لذلك ظهرت الحاجة إلى إيجاد قواعد دولية تنظم مبدأ الاشتراك في الخسائر المشتركة. وقد أخذت جمعية القانون الدولي على عاتقها تحقيق هذه المهمة، فعقدت مؤتمراً في يورك عام 1864 وآخر في أنغرس عام 1877 انتهيا بوضع قواعد يورك وانغرس الخاصة بالخسائر المشتركة. وقد عُدلت هذه القواعد في استوكهولم عام 1924 وفي أمستردام عام 1950. ومع أن هذه القواعد ليس لها طابع الإلزام فإنها لاقت نجاحاً دولياً إذ ذاع الاتفاق على الإحالة إليها في عقود النقل البحري وعقود إيجار السفن.
شروط الخسائر البحرية المشتركة
عرّفت قواعد يورك وانغرس الخسائر المشتركة بأنها التضحية التي تتم أو المصروفات التي تنفق بصفة استثنائية واختيارية ومعقولة في سبيل السلامة العامة بقصد تجنيب خطر تتعرض له الأموال التي تشترك في الرحلة البحرية.
أما قانون التجارة البحرية السوري فقد عرّفها بأنها كل ما ينتج من أضرار وهلاك أشياء ونفقات استثنائية عن هلاك أقدم عليه الربان قصداً للمنفعة المشتركة ومجابهة لخطر تعرضت له الرحلة.
ومن هذا التعريف يظهر أنه لابد من توافر ثلاثة شروط لتعدّ الخسائر البحرية خسائر مشتركة. وهذه الشروط هي: وجود خطر، تضحية إرادية من الربان، تأمين السلامة العامة.
1- الخطر: شروط الخسائر البحرية المشتركة تبدأ بحال الخطر التي يواجهها الربان. ولا يشترط أن يكون الخطر الذي تتعرض له السفينة وحمولتها حالاً وحقيقياً، بل يكتفى أن يكون استخلاص حقيقة الخطر سائغاً في الظروف التي يوجد فيها الربان. فاشتراط الخطر الحقيقي قد يغل يد الربان عن التصرف خشية أن يخطئ التقدير.
وإذا كان الأصل أن يكون الخطر الذي يواجهه الربان ناشئاً عن قوة قاهرة، وليس خطأ من ذوي الشأن، فإن قواعد يورك وانغرس، ومن بعدها الكثير من القوانين الوطنية كالقانون السوري واللبناني والأردني، قد خالفت هذا المبدأ ونصت على أنه إذا كان الحادث الذي ترتبت عليه التضحية أو إنفاق المصروفات نتيجة خطأ أحد ذوي الشأن في الإرسالية البحرية (عيب خاص في البضاعة أو في السفينة، أو خطأ ربان)، فإن هذا لا يؤثر في توزيع الخسائر المشتركة مع عدم الإخلال بحق الرجوع في التعويض على من ارتكب الخطأ.
2- التضحية الإرادية: عندما تتعرض السفينة وحمولتها للخطر، فإن على الربان أن يتصرف. وقد يتضمن تصرفه تضحية تؤدي إلى خسارة، ولكنها تضحية معقولة يتجنب الربان فيها خسارة أفدح مما كان يمكن أن تصيب جموع المصالح البحرية على السفينة: فقد يقرر الربان أن يرسو في ميناء قريب ليتجنب خطراً محدقاً فتكون تكاليف الرسو خسارة مشتركة، وكذلك إذا قرر الربان رمي بعض البضاعة لتخفيف حمولة السفينة ليعمل على إنقاذ السفينة وسائر الحمولة، فإن قيمة البضاعة المرمية تعد خسارة مشتركة. والربان في إقدامه على إثبات هذه الأفعال التي تمليها الضرورة إنما يفعل ذلك في سبيل مصلحة الجميع.
أما إذا كانت الخسارة ناتجة من قوة قاهرة، فإنها لا تعد خسارة مشتركة بل خسارة خاصة يتحملها من تصيبه: كما لو قذفت الرياح بالبضائع إلى البحر أو عملت الأمواج على دخول الماء إلى عنابر السفينة فأحدثت تلفاً في البضائع الموجودة بتلك العنابر.
وتجدر الإشارة إلى أنه لا يلزم لعدّ التضحية الاختيارية خسارة مشتركة أن يترتب عليها نتيجة مفيدة. وعلى هذا الأساس، لو جنحت سفينة واستأجر الربان قاطرة لإنقاذها من دون أن يسفر ذلك عن أي نتيجة مفيدة، ثم جاء المدُّ قوياً بعد ذلك فعامت السفينة من تلقاء نفسها، فإن نفقات القطر تبقى معدّة خسارة مشتركة تتحملها السفينة والحمولة بحسبان أن عمل الربان قد تم قصداً تحت تأثير خطر داهم، ولو أن هذا العمل في ذاته لم يحقق نتيجة مفيدة.
3- قصد السلامة العامة: يشترط في تحقق وصف الخسائر المشتركة أن تكون التضحية التي أقدم عليها الربان في سبيل منفعة مشتركة هي السلامة العامة للرحلة. ويقصد بالسلامة العامة سلامة الإرسالية البحرية كوحدة بأسرها، أي سلامة السفينة وحمولتها من البضائع.
وعلى هذا، فإن الأشخاص الموجودين على ظهر السفينة، سواء أكانوا من الركاب أو من الطاقم والذين أنقذوا بفضل التضحية الاختيارية لا يشتركون في الخسائر المشتركة لأن الأرواح غير قابلة للتقويم بالنقود.
كما أن قانون التجارة البحرية السوري، ونظيريه الأردني واللبناني، قد نصوا صراحة على استثناء بعض الأموال والقيم من الخسائر المشتركة من بعض الوجوه.
فجميع البضائع التي لم تنظم بها وثيقة شحن أو التي لم يقدم عنها الربان إشعاراً بالاستلام لا تعد من الخسائر البحرية المشتركة إذا أهلكت لكنها تدخل في الغرامة إذا هي أنقذت. وهذا حكم البضائع التي قدّم عنها تصريح كاذب ما لم يثبت صاحب العلاقة حسن النية.
ثم إن البضائع الموسومة على سطح السفينة خلافاً للعادات البحرية تدخل في الغرامة إذا هي أُنقذت، أما إذا هلكت فلا يسمح لصاحبها تقديم طلب التحاص إلا إذا أثبت أنه لم يوافق على طريقة الوِسُق هذه.
وكذلك تعفى من الغرامات الرسالات البريدية من كل نوع، وأمتعة البحارة والركاب وأجهزتهم الشخصية وأجور البحارة ومؤن السفينة وبالإجمال كل الأشياء التي يصح نقلها من دون وثيقة شحن، أما إذا أهلكت فإن قيمتها ترجع عن طريق التحاصّ.
أنواع الخسائر البحرية المشتركة
عددت المادة 259 من قانون التجارة البحرية السوري الخسائر المشتركة وجعلتها في نوعين:
1- خسائر الأضرار: وهي التي تلحق من جهة أولى بالحمولة جراء طرح البضائع في البحر، أو استعمالها وقوداً لإتاحة إكمال السفرة وتفريغها للتخفيف عن السفينة، أو لتعويمها والقيام بأعمال نوتية لإطفاء حريق، أو تلحق من جهة أخرى، بالسفينة جراء إهلاك المهمات والتفرعات وتنشيب السفينة على البر قصد إنقاذ الحمولة.
2- خسائر النفقات: وهي النفقات الاستثنائية التي يدفعها الربان لسلامة الرحلة كنفقات تعويم وإسعاف وقطر سفينة متضررة ونفقات الإرساء الذي يقتضيه خطر بحري، ونفقات غذاء وأجرة البحارة المدفوعة جراء حادث استثنائي.
تسوية الخسائر البحرية المشتركة
تجري تسوية الخسائر المشتركة في آخر مرفأ تقصده الحمولة التي تكون في السفينة وقت الهلاك أو في مكان انقطاع السفر وبموجب قانون هذا المرفأ. ويقوم بالتسوية خبراء يعينهم قاضي الأمور المستعجلة إذا لم يتفق عليهم جميع أصحاب العلاقة.
وللوصول إلى هذه التسوية تتكون من ذوي الشأن في الرحلة البحرية مجموعتان متقابلتان: المجموعة الدائنة، وتضم المتضررين الذين لهم المطالبة بشيء ما، والمجموعة المدينة، وتضم غير المتضررين الذين ينبغي عليهم إسهام بدفع الغرامة لأن أموالهم أنقذت جراء التضحية بأموال المجموعة الأولى.
ويدخل في عداد المجموعة الدائنة: نفقات الربان ومبلغ الضرر اللاحق بالسفينة وثمن البضائع الهالكة وأجرة النقل المالكة ونفقات تسوية الخسائر البحرية.
أما المجموعة المدينة فيحسب في عدادها: البضائع بكامل قيمتها إذا هي أنقذت، أو بكامل القيمة المقدرة لها في المرفأ المقصود إذا هي أهلكت بعد حسم النفقات من الرسوم الجمركية، والسفينة بقيمتها الحقيقية الصافية في مرفأ استقرارها بعد حسم النفقات.
وعندما يقوم المسووّن بإعداد المجموعة الدائنة والمدينة يجري توزيع الغرامة بنسبة الحق المتوجب لكل طرف. وفي حال عجز أحد الفرقاء عن الدفع توزع حصته على الآخرين بنسبة حقوق كل منهم، كما أجاز القانون لكل صاحب علاقة أن يتبرأ من الالتزام بالغرامة إذا تنازل عن الأموال الخاضعة للتحاص قبل كل تسلّم.
ومن جهة أخرى، فإن القانون السوري قد أعطى الربان الحق بأن يرفض تسليم البضائع ما لم تقدم له ضمانة كافية لدفع الغرامة، وللمجهز امتياز في ضمان الوفاء بحقه في الخسائر المشتركة على البضائع أو الثمن الحاصل منها مدة 15 يوماً بعد تسليمها إذا لم تنتقل إلى الغير. وبالمقابل إن لأصحاب البضائع المهلكة امتيازاً على السفينة وأجرتها عن مبلغ الغرامات المترتبة عليها.
دعوى الخسائر البحرية المشتركة
إذا لم تتم تسوية الخسائر البحرية المشتركة ودّياً، كان للدائن بهذه الخسائر أن يرفع الدعوى على سائر المدينين بها أمام المحكمة التي يقع في دائرتها مرفأ تفريغ السفينة.
ويلزم لممارسة دعوى الخسائر المشتركة أن يقوم المتسلّم بتقديم احتجاج معلّل في مدة ثلاثة أيام من تسليم البضاعة تحت طائلة رد الدعوى.
وأن الدعوى يتوجب إقامتها، تحت طائلة السقوط بالتقادم، في مدة سنتين من وصول السفينة إلى آخر مرفأ تقصده البضاعة التي كانت في السفينة وقت الإهلاك أو إلى إمكان انقطاع السفر.
إلياس حداد
المراجع
الموسوعة العربية
التصانيف
الأبحاث