الدعوى القضائية
التعريف
حلت عدالة الدولة محل عدالة الأفراد (ومحل الثأر والانتقام)، منذ أن أصبحت الدول تنظيماً قانونياً، وأنيطت مهمة إقامة العدل في الدولة في قضائها.
وقد عملت مختلف التشريعات القضائية على وضع قواعد وإجراءات محددة ينبغي سلوكها من أجل حماية الحق أو اقتضائه، وتكاد تتفق الفكرة الأساسية بين معظم دول العالم على أن الدعوى هي الوسيلة القانونية التي بوساطتها يستطيع الأفراد مراجعة القضاء والطلب منه القيام بمهمة العدالة عن طريق حماية القانون.
فالدعوى l’action إذن، هي حق كل فرد بتقديم مطالب أو ادعاءات أو دفوع إلى القضاء بهدف الحكم له أو عدم الحكم لخصمه بما يدعيه.
خصائص الدعوى
الدعوى سواء كانت حقاً أم وسيلة منحها القانون للأشخاص (سواء أكانوا أشخاصاً طبيعيين أم معنويين) تتمتع بمجموعة من الصفات والخصائص، أهمها الآتي:
1- إن الدعوى وسيلة وحق يستطيع الأفراد من خلاله مراجعة القضاء لحماية حقوقهم أو الدفاع عنها، وهي ترتبط بتلك الحقوق من خلال كونها تهدف إلى حمايتها أو تثبيتها أو اقتضائها، ولكنها مستقلة عنها لا تندمج فيها. والدعوى وفقاً للمفهوم الوارد في تعريفها تتضمن الطلبات التي يقدمها المدعي مهما كان نوعها أو تسميتها، إضافة إلى حق الخصم في تقديم كافة الطلبات والدفوع الهادفة إلى إنكارها ودحضها.
2- إن استعمال الدعوى كحق أو وسيلة لمراجعة القضاء ليس أمراً إلزامياً بل هو اختياري، إذ يكون للشخص أن يستعمله أو يتنازل عنه، أو أن يلجأ إلى طرق ودية، أو اختيار طريق التحكيم، كما يمكنه أن يتغاضى عن الاعتداء الواقع على حقه، وإن كان السكوت عن الدفاع عن الحقوق أو المطالبة فيها ليس أمراً يخدم مصلحة المجتمع.
3- إن الدعوى باعتبارها حق فإنها تنتقل إلى الغير عن طريق التفرغ أو الحوالة، كما، تنتقل إلى الورثة بعد الوفاة إذا لم تكن متعلقة بالحقوق الملازمة لشخصية المتوفى كالطلاق والنفقة وغير ذلك.
4- يجوز التنازل عن الدعوى بعد إقامتها في أي وقت بموافقة الخصم، وأن التنازل عن الدعوى لا يعني دائماً التنازل عن الحق، إذ يبقى لصاحب الحق إقامة دعوى جديدة لحمايته، أما التنازل عن الحق المطالب بحمايته في الدعوى، فإنه يعني التنازل حكماً عن تلك الدعوى، لأنه لا دعوى بلا حق.
5- إن الدعوى باعتبارها حقاً فهي تسقط بالتقادم، ويسري التقادم من تاريخ نشوء الحق بإقامة الدعوى، أي من تاريخ الاعتداء على الحق الذي تحميه الدعوى، أو من تاريخ العلم بالاعتداء، وبالشخص المسؤول عنه، وتختلف مدة السقوط باختلاف أنواع الدعاوى.
التمييز بين الدعوى والحق
يجمع الفقهاء في العصر الراهن على استقلال الدعوى كوسيلة قانونية عن الحق الموضوعي الذي تحميه، ويظهر هذا الاستقلال في سبب وشروط كل منهما، وكذلك في الاستعمال والموضوع والآثار القانونية، ويمكن تلخيص أهم الفروقات فيما يأتي:
1- يقضي المبدأ أنه لا يوجد حق دون دعوى تحميه: إذ إنه لكل حق دعوى تضمن حمايته، باستثناء الالتزامات الطبيعية، إذ يوجد هنا حق للدائن، ولكن الدعوى تكون قد سقطت بالتقادم فيبقى الحق وتسقط الدعوى، لأن الالتزام الطبيعي يصلح سبباً لالتزام مدني.
2- إن سبب الحق يكون إما تصرفاً قانونياً منشئاً له كالعقد، أو الإرادة المنفردة، وإما واقعة قانونية كالعمل غير المشروع أو الإثراء بلا سبب أو القانون، في حين أن سبب الدعوى هو الاعتداء على الحق أو لإنكار وجوده.
3- يخضع استعمال الدعوى إلى شروط تختلف عن شروط استعمال الحق، مثل الأهلية، والمواعيد، وبعض الإجراءات المنصوص عليها في القانون، كما يختلفان من حيث تحديد القانون الواجب التطبيق على كل منهما.
4- تختلف الدعوى عن الحق من حيث الموضوع، فموضوع الحق قد يكون سلطة مباشرة على شيء أو أداء شيء أو القيام بعمل أو الامتناع عن عمل، بينما يكون موضوع الدعوى هو تثبيت الحق أو التمكين من استعماله، أو الالتزام بتنفيذ التزام، أو دفع تعويض، لهذا قد تتعدد الخيارات في الدعاوى لحماية الحق الواحد، كما هو عليه الأمر في إخلال أحد المتعاقدين في تنفيذ التزام تعاقدي(التنفيذ، الفسخ مع التعويض).
وعلى الرغم من هذا الاختلاف القائم بين الدعوى والحق فهناك بعض نقاط الالتقاء منها أنه لكل حق دعوى واحدة تحميه ولا وجود لأحدهما دون الآخر، وتختلط طبيعة الدعوى مع طبيعة الحق، إذ إن الدعوى تسمى عادة باسم الحق الذي تحميه.
شروط قبول الدعوى
يفرق فقهاء القانون بين نوعين من الشروط، فيقولون بوجود شروط عامة يجب توافرها في كل أنواع الدعاوى وتسمى بالشروط الشخصية، وهناك شروط تختلف باختلاف أنواع الدعوى وهي لازمة من أجل الحكم للمدعي بدعواه أو العكس، وتسمى بالشروط الموضوعية، ويقتصر الحديث هنا على الشروط الشخصية الواجب توفرها لسماع أي دعوى أو دفع من قبل القضاء من الناحية الشكلية. وهذه الشروط هي:
1- الصفة: تدل الصفة على جواب سؤال: من أنت؟ فهي السلطة التي يستطيع بوساطتها الشخص إقامة الدعوى أمام القضاء، وهذه تكون عادة لصاحب الحق المطالب بحمايته أو تثبيته أو الاعتراف به، أو لمن تلقى هذا الحق عن طريق الإرث أو الوصية أو بأي سبب آخر.كما تكون لمن يمثل صاحب الحق، أو لمن حل محله قانوناً في الادعاء، وهذا ما يسمى في القانون بالنائب عنه، والنيابة يمكن أن تكون قانونية أو قضائية أو اتفاقية. فالصفة شرط لازم لقبول أي دعوى، وهي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالحق الذي تحميه، إذ لا دعوى من دون صفة، فلا تسمع دعوى إثبات النسب إلا من الولد غير الشرعي أو من قبل والدته بوصفها نائبة عنه، ودعوى الإبطال لوجود عيب في العقد، لا ترفع إلا من شرع البطلان لمصلحته، بمعنى، أن المبدأ القانوني يقضي بعدم صحة الادعاء عن الغير، إلا في الحالات التي نص عليها القانون، كاستعمال الدائن لحقوق مدينه التي قصّر في حمايتها، والدعاوى التي يقيمها وكيل التفليسة بالنيابة عن المفلس والدائنين، والدعاوى التي يقيمها أحد الورثة بالنيابة عن الآخرين، أو تلك التي يقيمها بعض الأهالي أو الجمعيات أو النقابات لحماية بعض الحقوق.
2- المصلحة: يقصد بالمصلحة الحق أو المركز القانوني الذي يطالب رافع الدعوى بحمايته، أو هي جواب لسؤال: لماذا تقيم الدعوى؟، هذا، ولا تكون المصلحة متوافرة إلا إذا كانت تتمتع بحماية القانون أي أن تكون مشروعة لذلك يقال إن المصلحة المعتبرة هي المصلحة القانونية سواء أكانت مادية أم أدبية، كما يجب أن تكون تلك المصلحة موجودة عند رفع الدعوى وأن تبقى قائمة ما دامت الدعوى قائمة.
ولكن هذا، لا يمنع من قبول الدعوى، من أجل دفع ضرر أو اعتداء يهدد مباشرة رافعها ولو لم يحدث بعد خسارة مادية، أو من أجل اتخاذ تدبير احتياطي أو إجراء مستعجل لتثبيت حق أو لمواجهة نزاع قد يحدث في المستقبل لذلك تكفي المصلحة المحتملة في مثل هذه الحالات. ومن ثم فإن معظم الدعاوى المستعجلة تقوم على فكرة المصلحة الاحتمالية طالما أنها لا تمس أصل الحق.
كما يجب أن تكون المصلحة مستند الدعوى شخصية ومباشرة، أي أن يكون الخطر أو الضرر واقعاً على المدعي شخصياً، لهذا يقال أن الدعوى الشعبية غير مسموعة، وإن كان القانون قد أعطى بعض النقابات الحق في إقامة بعض الدعاوى بالنيابة عن أعضائها على أساس أن أي ضرر يلحق بهم يؤثر فيها.
3- الأهلية: يقصد بالأهلية صلاحية الشخص في الحضور أمام المحاكم مدعياً أو مدعى عليه، وتسمى بصلاحية الادعاء، ويقضي المبدأ القانوني أن كل شخص أهل للتعاقد يكون أهلاً لأن يكون مدعياً أو مدعى عليه، لكن يجب التفريق بين مباشرة الدعوى وأهلية الادعاء، فلا يجوز للشخص أن يباشر الدعوى بنفسه إذا كان ناقص الأهلية إلا في الحالات التي أجيز فيها ذلك مثل حق الادعاء بالنسبة للمرأة المتزوجة القاصر حيث تعدّ كاملة الأهلية بالنسبة للمطالبة بحقوقها الزوجية ولها الحق في توكيل المحامين لتمثيلها، إلا أن القاصر الذي لم يبلغ سن الرشد أو بلغها وكان مجنوناً أو معتوهاً ليس له حق مباشرة الدعوى بنفسه بل يباشرها بالنيابة عنه من يمثله قانوناً.
فأهلية التقاضي بالنسبة للشخص الطبيعي هي بلوغ سن الرشد دون جنون أو عته وسن الرشد وفق القانون السوري هو إتمام الثامنة عشرة من العمر. أما الأشخاص المعنوية فإنها تمتلك أهلية التقاضي بمجرد شهرها أصولاً وقبل ذلك يمكن أن تسمع الدعوى منها على أساس أنها شركات فعلية، أو شركات قيد التأسيس أو شركات قيد التصفية.
أما الشخص الأجنبي فإنه يتمتع بحق التقاضي باعتباره من الحقوق المدنية التي يتمتع بها الأجانب والمواطنون على قدم المساواة، إلا أن المشرع السوري وضع قيداً على حق الادعاء من الأجنبي الذي ليس له أموال في سورية يتمثل في ضرورة تقديم كفالة تضمن الوفاء بالتضمينات والرسوم والنفقات التي يمكن أن يحكم عليه بها، وتوجد أحكام متناقضة حول شرط تقديم الكفالة حيث ذهب بعضها إلى عدّها من النظام العام وذهبت أحكام أخرى إلى القول إنها ليست من النظام العام، ويمكن استدراكها في أثناء سير الدعوى.
أشكال الدعاوى وأنواعها وتصنيفها
1- أشكال الدعاوى: تقدم الدعاوى إلى القضاء المختص بصيغ وأشكال متعددة كوسيلة قانونية وحيدة لاقتضاء الحقوق أو حمايتها أو الدفاع عنها فقد تقدم بصيغة طلب أصلي يعرض فيه المدعي طلباته مباشرة كي يحكم له القضاء بها، ويمكن أن تقدم بصيغة طلب عارض يتضمن إضافات أو تصحيحات على الطلب الأصلي، كما يمكن أن تقدم الدعوى عن طريق التدخل الاختياري أو الإجباري ويكون التدخل اختيارياً عندما يطلب شخص ليس طرفاً في دعوى قائمة التدخل فيها سواء بالانضمام إلى أحد أطرافها أو بطلب الحكم لنفسه وذلك باستدعاء يقدم إلى المحكمة وفق الإجراءات التي تقدم بها الدعوى أو الطلبات الأصلية، وبشرط أن يقدم الطلب قبل قفل باب المرافعة في الدعوى.
هذا، ويكون التدخل إجبارياً عندما يطلب المدعي أو المدعى عليه في الدعوى إدخال شخص ثالث فيها إما للحكم عليه فيها، أو لصدور الحكم بمواجهته منعاً من خصومة لاحقة وذلك لكونه كان مختصماً في مرحلة سابقة، أو لوجود رابطة تضامن أو التزام لا يقبل التجزئة أو لكونه وارثاً أو شريكاً لأحد الخصوم، أو لأنه قد يضار من الحكم الذي قد يصدر فيها. ويقدمّ طلب الإدخال باستدعاء أو بمذكرة إلى المحكمة التي تنظر في الدعوى القائمة.
كما تأخذ الدعاوى أحياناً صيغة دفع يقدم شفاهة أو بمذكرة في دعوى قائمة، وتكون الدعاوى في هذه الحالة سلبية حيث يقصد منها الحيلولة دون صدور حكم على صاحب الدفع، وتقسم الدفوع إلى دفوع شكلية ودفوع موضوعية، وتقدم الدفوع الشكلية قبل الدفوع الموضوعية لأن بعض الدفوع الشكلية تسقط إذا ما تم التعرض للموضوع مثل الدفع بعدم الاختصاص المحلي، وبطلان مذكرات التبليغ، وإحالة الدعوى إلى محكمة أخرى للارتباط، ويترتب على مثل هذه الدفوع الحكم برد الدعوى شكلاً، أما الدفوع الموضوعية فهي تلك التي يترتب عليها الحكم برد الدعوى لعدم الثبوت أو للسقوط، أو للوفاء.
2- أنواع الدعاوى وتصنيفها: تتعدد الدعاوى وتتنوع بتعدد وتنوع الحقوق والمراكز الحقوقية المراد اقتضاؤها أو حمايتها. كما تختلف باختلاف أهدافها وغاياتها، وهذا التنوع يؤدي إلى وضع تصنيفات متعددة لها، منها ما يقوم على أساس الغاية إذ تصنف إلى دعاوى موضوعية ودعاوى مستعجلة، فيكون هدف دعوى الموضوع حسم نزاع عن طريق الحصول على الحق أو حماية المركز الحقوقي، أو الإلزام بالقيام بعمل أو الامتناع عن عمل أو إعطاء أداء. أما الدعاوى المستعجلة فترمي إلى اتخاذ تدبير وقتي أو احتياطي ريثما يتم الفصل في الموضوع أو اللجوء إلى قضاء الموضوع.
كما تصنف بالنظر إلى طبيعة الحق المدعى به، إذ تقسم إلى دعاوى شخصية وعينية ومختلطة، فتكون شخصية إذا كانت ترمي إلى حماية حق شخصي أو ما يسمى بحقوق الدائنية (الالتزامات)، ويدخل أيضاً ضمن الدعاوى الشخصية الدعاوى المتعلقة بالحقوق غير المالية كحقوق الأسرة والملكية الأدبية والصناعية.
أما الدعاوى العينية فترمي إلى حماية حق عيني كالملكية والانتفاع والارتفاق والرهن، وكذلك دعاوى الاستحقاق والاسترداد إذا كانت تستند إلى حق الملكية، ودعاوى الحيازة، ودعاوى الحدود والمسافات.
أما الدعاوى المختلطة فهي التي تستند إلى حق شخصي وحق عيني، كدعوى تثبيت مبيع عقار وتسجيله في السجل العقاري، أو دعوى فسخ عقد بيع واسترداد العقار لعدم دفع الثمن، ويفيد تقسيم الدعاوى إلى عينية وشخصية ومختلطة في تحديد المحكمة المختصة محلياً في النظر بتلك الدعوى، وكذلك الأمر بالنسبة لوجوب وضع إشارة دعوى حيث تكون متوجبة إذا كانت الدعوى عينية أو مختلطة ولا تعدّ كذلك إذا كانت الدعوى شخصية.
هذا ويوجد تصنيف ثالث للدعاوى يقوم على تقسيمها إلى دعاوى منقولة ودعاوى عقارية، فتكون الدعوى منقولة إذا كانت ترمي إلى حماية حق على منقول وعقارية،إذا كانت تهدف حماية حق على عقار، ويفيد هذه التصنيف في تحديد اختصاص المحاكم المحلي والقيمي.
أما التصنيف الأخير للدعاوى فهو تقسيمها إلى دعاوى ملكية ودعاوى حيازة، إذ ترمي دعاوى الملكية كما ذُكر أعلاه إلى حماية حق عيني على عقار كحق الملكية وحق الانتفاع.
بينما تهدف دعاوى الحيازة إلى حماية الحيازة ذاتها وليس حماية الحق العيني. لذلك لا يجوز الجمع بين دعاوى أصل الحق ودعاوى الحيازة تحت طائلة سقوط دعاوى الحيازة لكن هذا لا يمنع من استناد دعاوى الحيازة إلى أصل الحق باعتباره المستند القانوني لتلك الدعاوى، ولأن القانون أصلاً يحمي الحيازة القانونية التي تستند إلى سبب مشروع، أما الحيازة غير المشروعة فلا تتمتع بالحماية.
وتجدر الإشارة أخيراً إلى أن نظرية الدعوى تحتل الجانب الأكثر أهمية في عمل القضاء والمحاماة بوصفها المفتاح الصحيح للوصول إلى عدالة الدولة.
محمد واصل
المراجع
الموسوعة العربية
التصانيف
الأبحاث