الدَيْن العام
 
 
 

مفهوم الدين العام وتطوره

 
الدين العام public debt هو مصدر من مصادر الإيرادات العامة، تلجأ الدولة إليه لتمويل نفقاتها العامة عندما تعجز عن توفير إيرادات أخرى ولاسيما من الضرائب فتقترض إما من الأفراد أو من هيئات داخلية أو دولية أو من دول أجنبية.
 
وفكرة الدين العام تعد حديثة نسبياً لأنها تعود إلى بداية القرن الثامن عشر تقريباً، وكان ظهورها نتيجة لتطور المجتمع وحصول السلطات التشريعية الممثلة للشعب على حقها الكامل في فرض الضرائب من جهة واللجوء إلى الدين العام من جهة أخرى.
 
وقد اتخذ الفكر التقليدي في غالبيته موقفاً عدائياً من سياسة التجاء الدولة إلى الدين العام وطالب بضرورة تعادل الموازنة العامة للدولة سنويا، وقد قاد هذا الاتجاه آدم سميث[ر] وريكاردو ومالتوس وباستيبل.
 
وتناولت انتقادات الدين العام فيما يأتي:
 
1- إنه يؤدي إلى تحويل أموال القطاع الخاص التي كانت معدّة للتشغيل (التوظيف) في مشروعات إنتاجية إلى القطاع العام حيث يتم تبديدها في نفقات عامة غير منتجة.
 
2- يؤدي الدين العام إلى رفع سعر الفائدة، الأمر الذي يعمل على عرقلة النشاط الاقتصادي وسوء توزيع الموارد الاقتصادية ويقف عقبة في طريق التقدم الاقتصادي.
 
3- تؤدي خدمة الدين العام إلى زيادة العبء الضريبي.
 
4- تؤدي خدمة الدين العام إلى التضخم، إذ قد تعمد الدولة إلى تسديد التزاماتها عن طريق الإصدار النقدي أحياناً.
 
أما الفكر المعاصر الذي يمثله كينز ومن تبعه من الفقهاء الاقتصاديين والماليين المحدثين، فقد انتقد الفكر التقليدي ولاسيما في صيغة الإطلاق والتعميم التي استخدمها في طرح آرائه، وأكد على أهمية الدين العام في الاقتصاد الوطني باعتباره أحد الوسائل المالية الثلاث الهامة في يد الدولة وهي: النفقات العامة والضرائب والدين العام، إذ يمكنها عن طريقها وبوساطتها أن تتدخل وتوجه الاقتصاد وتعمل على تحقيق أهداف المجتمع الاقتصادية في التنمية والاستقرار والعمالة (التشغيل أو التوظيف الكامل) وانتهى الفكر الحديث إلى أن الدين العام يجب أن يزداد كي يمتص أي قوة شرائية زائدة أو أي أموال عاطلة، وليقلل السيولة في أوقات الرواج ويجب أن يرد الدين العام أو يسدد الجزء الأكبر منه في أوقات الكساد لزيادة السيولة في الاقتصاد الوطني. 
 
وإن أغلب دول العالم تلجأ اليوم، وعلى نطاق واسع، إلى الدين العام وذلك من أجل تغطية عجز موازناتها العامة. ويمكن الالتجاء إلى الدين العام في حدود ما يمكن أن يحدثه من آثار حميدة على كل من مستوى الدخل القومي وتوزيعه والطلب الفعال الكلي.
 

مفهوم الدين العام القانوني والاقتصادي

 
الدين العام: «مبلغ نقدي من المال تقترضه الدولة أو أحد أشخاص القانون العام من الأفراد أو المؤسسات المالية الخاصة أو العامة الوطنية منها أو الدولية أو من الدول الأخرى، بموجب اتفاق يستند في أساس مشروعيته إلى قاعدة قانونية عامة صادرة عن السلطة التشريعية يتضمن مقابل الوفاء والتعهد برده ودفع فائدة عنه وفقاً لشروط الاتفاق».
 

إصدار الدين العام 

 
يمكن للدولة من أجل إصدار الدين العام أن تلجأ إلى طرق أربع هي:
 
1- طرح السندات للاكتتاب العام المباشر: ويتلخص هذا الأسلوب في أن تتوجه الدولة أو الشخص المعنوي العام الراغب في الاقتراض إلى الأفراد والهيئات لتعرض عليهم الاكتتاب في سندات الدين العام، وتقوم عندئذ بتعريف الجمهور بالدين ومزاياه. وتحدد موعداً لفتح باب الاكتتاب ولقفله.
 
2- الالتجاء إلى المصارف أو إلى المؤسسات المالية المتخصصة: وهنا تستعين الدولة بالمصارف لطرح سنداتها للاكتتاب بحيث تكون المصارف وسيطاً بين الدولة والمقرضين، وترجع كفاءة المصارف وقدرتها في القيام بهذا الدور إلى مدى معرفتها بالزبائن ودرايتها بحالة كل منهم وإلى ثقتهم فيما تقدمه لهم من مشورة مالية.
 
3- بيع السندات في سوق الأوراق المالية: يمكن للدولة أن تبيع ما تصدره من سندات في سوق الأوراق المالية. ولكن لهذا الأسلوب مخاطر لا بد من ملاحظتها وهي أن مقدار السندات المطروحة لو كان كبيراً دون أن يقابله طلب كافٍ لانخفضت أسعارها في سوق الأوراق المالية انخفاضاً كبيراً يضر بالثقة المالية للدولة.
 
4- بيع سندات الدين العام بالمزاد: وهنا يتم البيع إلى الذين قدموا أعلى الأسعار.
 

مزايا المكتتبين بالدين العام

 
ـ إعطاء فائدة للمقرض مقابل تنازله لمدة من الزمن عن استعمال مبلغ القرض وإعطائه للمقترض.
 
ـ إصدار السندات بمستوى دون سعر التعادل، وذلك بأن تبيع الدولة السند بأقل من سعره الاسمي كأن تكون القيمة الاسمية للسند 100 وحدة نقدية وتبيعه الدولة عند إصداره بـ 80 وحدة نقدية. وتكون الدولة ملزمة هنا برد السند بقيمته الاسمية عند نهاية مدة القرض وذلك في سبيل تشجيع المقرضين.
 
ـ مكافأة السداد والأنصبة، ومعنى ذلك أن تدفع الدولة للمكتتبين عند السداد مبلغاً يزيد عن القيمة الاسمية التي اكتتبوا بها، أو أن تسحب الدولة بالقرعة، عند التسديد، بعض السندات وتقدم لأصحابها علاوة على القيمة الاسمية للسند جائزة تفوق بكثير قيمة السند.
 
ـ إعفاء السندات أو فوائدها أو كليهما من كل أو بعض الضرائب.
 
ـ المحافظة على القيمة الفعلية لأصل السند. ولكي تشجع الدولة على إقراضها، فإنها تتعهد بالمحافظة على قيمة أصل الدين عند السداد للمقرضين أي مع أخذ عامل التضخم بالحسبان.
 
ـ استعمال السندات لتسديد بعض الضرائب، وعندئذٍ تصبح لهذه السندات وظيفة نقدية.
 
ـ جعل سندات الدين العام غير قابلة للحجز وغير قابلة للسقوط بالتقادم.
 
ـ شرط السند الأولى بالرعاية، وذلك بتضمين السند شروطاً ومزايا أفضل.
 

أنواع الدين العام

 
تقسم القروض التي تعقدها الدولة وأشخاص القانون العام وفقاً لأسس مختلفة كما يأتي:
 
أ - قروض اختيارية وقروض إجبارية: يعتبر القرض اختيارياً إذا لجأت الدولة للاقتراض، وتركت للأفراد الذين تقترض منهم حرية إقراضها أو عدم إقراضها. أما القرض الإجباري فهو الذي تنعدم فيه حرية المقرض في إقراضه للدولة، إذ يكون مرغماً لسبب أو لآخر على إقراضها المبلغ الذي تطلبه.
 
ب - قروض داخلية وقروض خارجية: فالقرض العام الداخلي هو الذي تحصل عليه الدولة من أشخاص طبيعيين أو اعتباريين مقيمين في إقليمها. أما القرض العام الخارجي فهو الذي تحصل عليه الدولة من دولة أجنبية أو من شخص طبيعي أو اعتباري مقيم في الخارج أو من هيئة حكومية أو صندوق حكومي أو دولي أو منظمة دولية في الخارج.
 
ج - قروض مؤبدة وقروض مؤقتة: فالقرض المؤبد هو الذي تلتزم فيه الدولة بدفع فوائد القرض دون تحديد تاريخ معين لرد أصله إلى المقرض. أما القرض المؤقت فهو الذي يجب رد قيمة أصله في تاريخ معين. وقد ينقسم هذا القرض الأخير إلى قرض قصير الأجل كإذن الخزانة وقرض طويل الأجل.
 
د - قروض للحامل وقروض اسمية: فالأولى تكون قابلة للتسويق أما الأخرى فهي غير قابلة للتسويق لا يمكن تحويلها للغير إلا باتباع إجراءات معقدة.
 

عبء الدين العام وتخفيفه

 
يتكون عبء الدين العام من عنصرين هما: الفائدة السنوية ورد أصل الدين عند حلول أجل الوفاء. هذا ومن أجل تخفيف هذا العبء هناك عدة وسائل هي:
 
1- إنكار الدين: ويقصد به إعلان الدولة عن عزمها على عدم الوفاء مطلقاً بقيمة الدين ولا بفوائده، وهذا تدبير مكروه تنعدم معه الثقة بين الدائنين والدولة.
 
2- تبديل الدين العام: ويقصد به إحلال قرض عام جديد بفائدة مختلفة محل قرض قديم وذلك دون الاهتمام بموافقة حملة السندات. وهذا هو التبديل الإجباري وهناك تبديل اختياري عندما تعلن الدولة عن رغبتها في تغيير سعر فائدة القرض وتترك لحملة السندات إما قبول تبديل القرض وإما أن ترد إليهم أصل الدين.
 
3- استهلاك الدين العام: ويقصد به سداد قيمته للمقرضين. وهو أمر لا غنى عنه إذا أرادت الدولة أن تحتفظ بثقة المقرضين فيها حتى يقرضوها في المستقبل، وتلجأ في سبيل ذلك إلى تعبئة الموارد اللازمة لتغطية سداد القرض.
 
ويكون استهلاك القروض بأحد الأساليب الآتية:
 
1- استهلاك على أقساط سنوية تنتهي في وقت معين. وهنا تدفع الدولة لكل دائن قسطاً يضم الفائدة السنوية وجزءاً من أصل الدين حتى يستهلك الدين العام كله بعد وقت معين.
 
2- الاستهلاك بطريق القرعة.
 
3- الاستهلاك عن طريق الشراء من سوق الأوراق المالية. وتلجأ الدولة إلى هذا الأسلوب عندما تكون أسعار السندات قد انخفضت في سوق الأوراق المالية إلى ما دون سعر التعادل.
 

نجاح الدين العام

 
يتوقف نجاح الدين العام على بعض شروط خاصة لابد من توافرها في السوق المالية هي:
 
أ - وجود ادخار جاهز لاستخدامه في شراء سندات الدين: وهذا يعني زيادة الدخل عن حجم الاستهلاك مما يؤدي إلى زيادة القدرة على الإقراض كلما ازداد حجم الادخار ويتوقف هذا على حجم الدخل وحجم الاستهلاك والميل إلى الادخار.
 
ب - توجيه الادخار نحو الدين العام: وهذا يعتمد على الثقة التي تتوافر بالدولة واهتمامها بإعادة أصل الدين ودفع فائدته وعلى استعمال الدولة لسلطاتها في توجيه الأموال المدخرة لدى المواطنين والهيئات الوطنية نحو استخدامها ومنح المزايا المالية التي أوضحناها سابقاً.
 

آثار الدين العام

 
تتجلى آثار الدين العام في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
 
1- الآثار السياسية للدين العام: وتبدو هذه الآثار واضحة في الدين العام الخارجي، إذ تبدو في سيطرة الجهات الدائنة، سواء كانت حكومات أو مؤسسات مالية دولية، أحياناً على الدولة المدينة، مما يفقد هذه الأخيرة بعض سلطاتها واستقلالها وقدراتها على إدارة اقتصادها وفقاً لمصلحتها الوطنية. ولعل ذلك يبدو واضحاً في رضوخ الدول المدينة لشروط جدولة ديونها وتنفيذ الإصلاحات الهيكلية التي يفرضها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي عليها.
 
2- الآثار الاقتصادية للدين العام: تختلف آثار الدين العام الاقتصادية تبعاً لكون الدين خارجياً أو داخلياً.
 
أ - الآثار الاقتصادية للدين العام الخارجي: وتبدو هذه الآثار فيما يلي:
 
ـ يشجع الدين العام الخارجي الدولة المقترضة على استيراد ما تحتاجه من خدمات وسلع استهلاكية أو استثمارية دون أخذ طاقتها على التسديد بالحسبان.
 
ـ إذا استعملت القروض الخارجية في استيراد سلع استهلاكية قد يؤدي ذلك إلى آثار سيئة على الاقتصاد القومي لأن مثل هذا الاستخدام للقروض الخارجية لن يؤدي إلى زيادة في الطاقة الإنتاجية في الدولة المقترضة بل سوف يؤدي إلى تحويل جزء من الناتج القومي إلى الدولة المقرضة سداداً لأصل القرض وفوائده.
 
ـ إذا أحسن استخدام القروض الخارجية لاستيراد سلع رأسمالية لمشروعات التنمية الاقتصادية، فإن ذلك يؤدي إلى سرعة تكوين رؤوس الأموال وزيادة الطاقة الإنتاجية وزيادة العمالة في الدول المقترضة ورفع مستوى الدخل القومي.
 
ـ إن القرض الخارجي يمثل عبئاً على الثروة القومية للبلد المقترض، كما يثير مشكلة سعر الصرف وقت الحصول على القرض ووقت سداده فضلاً عن مشكلات تتعلق بميزان المدفوعات وهي أمور لا يثيرها القرض الداخلي.
 
ب - الآثار الاقتصادية للدين العام الداخلي: وتبدو هذه الآثار فيما يلي:
 
ـ إنه يؤدي إلى تحويل قسم من الموارد الاقتصادية من الوحدات الاقتصادية إلى الدولة أو القطاع العام للتصرف به مقابل إعادة هذه الموارد مع فوائدها.
 
ـ يؤدي الدين الداخلي المقترض عبر المصارف إلى خلق كتلة نقدية إضافية.
 
ـ إذا كان الاقتصاد الوطني في حالة ركود وفيه بعض الموارد المعطلة يمكن أن يقود القرض الداخلي إلى تحريك الاقتصاد وزيادة الانتفاع من الطاقات الإنتاجية المتوافرة فيه.
 
ـ في حال كان الجهاز الإنتاجي للدولة غير مرن، فإن هذه الزيادة في الطلب الفعال لن تقابلها زيادة مماثلة في حجم المعروض من السلع والخدمات، الأمر الذي يؤدي إلى ارتفاع مستوى الأسعار وإلى التضخم وذلك بصرف النظر عن مستوى العمالة في الدولة.
 
ـ ويمكن في اقتصاد يسوده مستوى العمالة الكاملة أن تقوم الدولة بعقد قرض عام داخلي لامتصاص القوة الشرائية الزائدة في السوق ثم تجميد حصيلة القرض أي عدم إنفاقها، في سبيل مقاومة أسباب التضخم وتجنب عواقبه الوخيمة.
 
3- الآثار الاجتماعية للدين العام:
 
ـ توزيع الأعباء المالية بين طبقات المجتمع: ويختلف ذلك تبعاً لنوع القرض وإنتاجيته. ففي القروض الداخلية التي تغطى من قبل الأفراد يخفف الدين العام العبء الضريبي عن الطبقة الفقيرة إذا كانت الدولة تعتمد في تمويل نفقاتها على الضرائب بنسبة كبيرة وذلك على اعتبار أن شراء سندات الدين العام يكون من قبل الطبقة الغنية المدخرة. وهنا لابد من استخدام القرض في الإنفاق على المشروعات الاستثمارية وليس كإنفاق استهلاكي لأن الدولة لو فعلت ذلك لاضطرت حين تسديد القرض إلى فرض ضرائب جديدة مما يزيد العبء على الطبقة الفقيرة وخاصة إذا كان النظام الضريبي يعتمد على الضرائب غير المباشرة.
 
ـ توزيع الأعباء المالية بين أجيال مختلفة: فإذا أنفقت الدولة الدين العام في أغراض استهلاكية فيعني ذلك أن الجيل الذي اشترى السندات استفاد من إنفاق الدولة لإيرادات الدين، أما الجيل التالي فإنه سوف يتحمل أعباء تسديد القرض باعتباره قرضاً غير منتج مما يؤدي بالدولة إلى زيادة عبء الضرائب فيصبح الدين العام وكأنه ضريبة مؤجلة.
 
أما إذا استخدمت الدولة أموال القرض في تمويل نفقات استثمارية فهذا يعني أن الجيل الذي اشترى السندات لا يفيد من القرض إلا بصورة جزئية لأن تنفيذ المشروعات الاستثمارية يستغرق وقتاً طويلاً. أما الجيل التالي فلا تلقى على عاتقه أعباء كبيرة لأن الدولة سوف تسدد القرض من الإيرادات التي تحققت من المشروعات الاستثمارية.
 
طارق الساطي 

المراجع

الموسوعة العربية

التصانيف

الأبحاث