الحمد لله خالق كل شيء وهاديه، ورازق كل حي وكافيه، وجامع الناس ليوم لا ريب فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الكريم التواب، العظيم الوهاب، ﴿ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [البقرة: 269]، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، ومصطفاه وخليله، المبعوث بالهدى والرحمة والنور، هو صفوة الباري وخاتم رسله، وأمينه المخصوص بفضله:

لا درَّ دُرُّ الشعرِ إن لم أُملِهِ *** في مدح أحمدَ لؤلؤًا منثورَا

 

صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه ذوي الفضل المشهور، والعمل المبرور، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم البعث والنشور، وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:

فـ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ﴾ [لقمان: 33].

 

ومن وصية العبد الصالح لابنه: ﴿ يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ * وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ﴾ [لقمان: 17، 18].

 

معاشر المؤمنين الكرام، جاء في حديث صحيح: ((أن بلالًا رضي الله عنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يؤذِنه بالفجر، فرآه يبكي، فقال: يا رسول الله، تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: يا بلال، أفلا أكون عبدًا شكورًا؟ لقد نزلت عليَّ الليلة آيات، ويلٌ لمن قرأها ولم يتفكر فيها: ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [آل عمران: 190])).

 

إنها أواخر سورة آل عمران، إنها دعوة للتأمل والتفكر، فيا أخا العقل تبصر وتأمل وتدبر، ليس للإنسان إلا ما قضى الله وقدر، ساءك الدهر بشيء وربما سرك أكثر، ليس للمخلوق أمر إنما الله المدبر.

 

تفكر أخي المسلم؛ فربك العظيم يقول: ﴿ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [يونس: 24]، تفكر؛ فالله جل جلاله يقول: ﴿ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الحشر: 21]، تفكر؛ فالله سبحانه وتعالى يقول: ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 44]، ويقول عز من قائل: ﴿ فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الأعراف: 176]، وعَودًا لقوله تعالى: ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [آل عمران: 190] إلى آخر السياق الكريم، فالله جل وعلا يأمرنا أن نتفكر في خلقه للسماوات والأرض: ﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [العنكبوت: 20]، فعلى المسلم الكيِّسِ الفطِنِ أن يدرك معنى خلق الله للأشياء، وأن فيها دقةً وإتقانًا، وحكمةً وتقديرًا عجيبًا؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ﴾ [القمر: 49]، وقال تعالى: ﴿ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا ﴾ [الفرقان: 2]، وقال تعالى: ﴿ الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى ﴾ [الأعلى: 2]، وقال تعالى: ﴿ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ﴾ [السجدة: 7]، وقال تعالى: ﴿ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ﴾ [فاطر: 16]، وقال تعالى: ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [يس: 36]، وقال تعالى: ﴿ أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 17]، وقال تعالى: ﴿ فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [يس: 83]، وقال تعالى: ﴿ قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [يونس: 101]، فأين الأعين الناظرة؟ وأين القلوب المتبصرة؟ وأين العقول المتفكرة؟ فهي دعوة للتفكر: ﴿ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ [آل عمران: 191]، فالله جل وعلا هو الخالق المبدع العظيم، خلق السماوات وأفلاكها، بنجومها وكواكبها، بمداراتها ومساراتها، بليلها ونهارها؛ قال تعالى: ﴿ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 29]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ ﴾ [الصافات: 6]، وقال تعالى: ﴿ وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ﴾ [الذاريات: 47]، وقال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ ﴾ [الحجر: 16]، وقال تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ ﴾ [الأنبياء: 32]، وقال تعالى: ﴿ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ﴾ [فصلت: 12]، هذه السماء العظيمة الواسعة التي لا نرى منها إلا جزءًا يسيرًا جدًّا قال عنها المصطفى صلى الله عليه وسلم: ((إني أرى ما لا تَرَون، أَطَّتِ السماء، وحُقَّ لها أن تَئِطَّ، ما فيها موضعُ أربعِ أصابعَ إلا ومَلَكٌ واضع جبهتَه ساجدًا لله تعالى، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلًا ولبكيتم كثيرًا، وما تلذذتم بالنساء على الفُرُشِ، ولخرجتم إلى الصُّعُدات تجأرون إلى الله تعالى)) ﴿ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ [آل عمران: 191]، تأمل يا رعاك الله، فالأرض جزء صغير جدًّا من السماوات، ومع هذا فقد حظيت بتفصيل وتخصيص؛ وما ذاك إلا لشدة قربها، وسهولة ملاحظتها، وكثرة مكوناتها، وقوة شواهدها؛ قال تعالى: ﴿ وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ ﴾ [الحجر: 19]، وهذا يدعونا لأن نتفكر في اتساع رقعتها، وتنوع تضاريسها، واختلاف بيئاتها، وكثرة مسالكها وأوديتها؛ تأمل قوله تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ﴾ [البقرة: 29]، ﴿ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الجاثية: 13]، تأمل أكثر: ﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ﴾ [إبراهيم: 32 - 34]، دقِّق جيدًا: ﴿ وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ ﴾ [يس: 33]، تعمق بعين البصيرة: ﴿ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ ﴾ [البقرة: 164]، ثم تأمل ودقق أكثر: ﴿ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ﴾ [الأنعام: 38]، إذًا فهي أمم وليست أفرادًا، وأمم كثيرة وليست أمةً واحدة، والله جل جلاله هو الذي أبدعها وسوَّاها على اختلاف مسمياتها وأشكالها، وتعدد أحجامها وألوانها، وتنوع وظائفها ومنافعها؛ فهو جلَّ وعلا يعلم ذلك كله، وهو المتكفل سبحانه بأرزاقهم، ولا يخفى عليه شيء من أمرهم؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾ [هود: 6].

 

إخواني في الله، لقد ذمَّ الله تعالى من يُعرِض عن آياته، ولا يعتبر بمخلوقاته الدالة على سمو ذاته، وعظيم صفاته؛ فقال: ﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ ﴾ [يوسف: 105]، ﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ ﴾ [ص: 27]، ﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى ﴾ [طه: 124 - 126]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث الذي افتتحنا به الخطبة: ((ويلٌ لمن قرأها ولم يتفكر فيها))، ولما قيل للإمام الأوزاعي رحمه الله: "ما أدنى ما يتعلق به المتعلق من التفكر فيهن؟ وما الذي ينجيه من هذا الويل؟ فأطرق رحمه الله هنيهة ثم قال: يقرؤهن وهو يعقِلهن"، وقال الإمام الحسن البصري: "الفكرة مرآة تريك حسناتك وسيئاتك"، وقال سفيان بن عيينة: "الفكر نور يدخل قلبك"، وقال عمر بن عبدالعزيز: "الكلام بذكر الله عز وجل حسن، والفكرة في نِعَمِ الله أفضل العبادة"، وقيل: "لو تفكر الناس في عظمة الله تعالى لَما عصَوه"، وقيل: "التفكر ضياء الإيمان":

تفكَّرتُ في حشري ويوم قيامتي
وإصباح خدِّي في المقابر ثاوِيَا
فريدًا وحيدًا بعد عزٍّ ورفعة
رهينًا بجُرمي والتراب وساديَا
تفكرتُ في طول الحساب وعَرْضِه
وذلِّ مقامي يوم أُعطى كتابيَا
ولكن رجائي فيك ربي وخالقي
بأنك تعفو يا إلهي خطائيَا

 

بارك الله لي ولكم

 

الحمد لله كما ينبغي، أما بعد:

فاتقوا الله عباد الله، وكونوا مع الصادقين، وكونوا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه.

 

معاشر المؤمنين الكرام، ينبغي للمؤمن أن يعيش عبادة التفكر في كل لحظة من لحظاته؛ لتكون حياته كلها عبادةً، ولأن في التفكر إعمالًا للعقل وإحياء للقلب وسموًّا للروح، ولأن التفكر هو نور القلب وضياؤه، وإذا ما أضاء القلب واستنار، انعكس ذلك على الجوارح نشاطًا في العبادة وتلذذًا بها، كما أن التفكر في نِعَمِ اللـه تعالى يزيد في محبة المنعم سبحانه، ويحرك اللسان بالحمد والشكر، ومن روَّض فكره على التفكر وداومَ عليه، حصد الأجور العظيمة وهو لم يتحرك من مكانه.

 

أحبتي في الله، تأملوا هذا الكلام الرائع لأحد العلماء: "وأنت إذا نظرتَ إلى الكون وما فيه من بدائع الحكم، وغرائب المخلوقات، ودقيق الصنع، وكبير الإحكام، مع العظمة والدقة والاتساع، والتناسق والروعة والإبداع ورأيت هذه السماء الصافية بكواكبها وأفلاكها، وشموسها وأقمارها، ومداراتها ومساراتها، ورأيت هذه الأرض بنباتاتها وخيراتها، ومعادنها وكنوزها، ورأيت عالم الحيوان وما فيه من غرائب الهدايات والإلهام، بل لو رأيت تركيب الإنسان وما احتواه من أجهزة كثيرة، كلٌّ يقوم بعمله ويؤدي وظيفته، ورأيت عالم البحار وما فيه من عجائب وغرائب، وما فيه من حكم وأسرار ثم انتقلت من النظر إلى الذوات والأوصاف إلى الروابط والصلات فيما بينها، وكيف أن كلًّا منها يتصل بالآخر اتصالًا محكمًا وثيقًا؛ حيث يتألف من مجموعها وحدة كونية، كلُّ جزء منها يخدم الأجزاء الأخرى ويُتممها، كما يخدم العضو في الجسم الواحد بقيةَ الأعضاء - لخرجتَ من كل ذلك من غير أن يأتيك دليل أو برهان، ولأيقنت أن لهذا الكون خالقًا موجدًا وفاطرًا مبدعًا لا بد أن يكون جليلًا كبيرًا عظيمًا فوق ما يتصور العقل من العظمة، وقادرًا مقتدرًا قديرًا فوق ما يفهم الإنسان من معاني القدرة، وحيًّا قيُّومًا بأكمل معاني الحياة وأشملها، وأنه مستغنٍ عن كل هذه المخلوقات؛ لأنه كان قبل أن تكون، وأنه عليم بأوسع حدود العلم وإجمالًا سترى نفسك مملوءًا إيمانًا بأن صانع هذا الكون ومدبره متصفٌ بكل صفات الكمال، ومنزه عن كل صفات النقص، وسترى هذا الإيمان يشع من أعماق وجدانك، ويفيض شعورًا من كل حنايا نفسك: ﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الروم: 30].

 

فيا ابن آدم، عِشْ ما شئت فإنك ميت، وأحببْ مَن شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزيٌّ به، البر لا يبلى، والذنب لا يُنسى، والديان لا يموت، وكما تدين تدان.

 

اللهم صلِّ وسلم على نبيك محمد.


المراجع

alukah.net

التصانيف

فنون  أدب  أدب إسلامي