أ) ـ صفاته ااشترينا زوجا من الأحذية الصفراء. وبعد مدة من الزمن تبلى فنصلحها ومع ذلك نقول بأننا نلبس أحذية صفراء دون أن ندرك أنها لم تعد نفس الأحذية التي اشتريناها سابقا، ولكننا نهمل الإشارة إلى ما أصابها من تغيير فنعتبرها وكأنها لا تزال على حالها. سيساعدنا هذا المثال على فهم ماهية المنهج الميتافيزيقي. يعتبر مثل هذا المنهج، حسب قول انجلز، الأشياء "وكأنها تامة الصنع " لا تتغير، لا تتأثر بأسباب التغير. ولنشر إلى أن كلمة "ميتافيزيقية" مشتقة من "ميتا" اليونانية وهي تعني "ما وراء" و "فيزيقيا" وهي تعني علم الطبيعة. وموضوع الميتافيزيقيا (ولا سيما عند ارسطو) هو دراسة الكائن الذي يوجد وراء الطبيعة. وبينما الطبيعة متغيرة، فأن الكائن الذي يوجد وراء الطبيعة ابدي لا يتغير. يسميه البعض الله، ويسميه الآخرون المطلق.. الخ. ويعتقد الماديون، الذين لا يعتمدون على العلم فقط، أن هذا الكائن خيالي (راجع الدرس التاسع). ولما كان قدماء الأغريق لم يصلوا إلى تفسير الحركة فقد اضطر بعض فلاسفتهم أن يقيموا، وراء الطبيعة المتغيرة، مبدأ أبديا. فإذا ما تحدثنا عن منهج ميتافيزيقي أردنا بذلك منهجا يجهل حقيقة الحركة والتغير. ولهذا كان عدم رؤيتي لتغير حذائي موقفا ميتافيزيقيا. تجهل الميتافيزيقيا الحركة وتقول بالسكون والتماثل وشعارها "لا جديد تحت الشمس". كما أن القول بأن الرأسمالية أبدية وأن مصائب الرأسمالية وعيوبها (من أفساد وأنانية وقسوة) التي تولدها في الناس مخلدة ضرب من التفكير الميتافيزيقي. لأن الميتافيزيقي يتمثل في خاطره إنسانا أبديا لا يتغير. لماذا ؟ لأنه يفصل الإنسان عن بيئته وعن مجتمعه. فهو يقول: "يوجد من جهة الإنسان، ومن جهة ثانية المجتمع. فإذا ما قضينا على المجتمع الرأسمالي ليحل محله مجتمع اشتراكي ظل الإنسان مع ذلك إنسانا". نقع هنا على صفة ثانية من صفات الميتافيزيقيا: فهي تفصل بصورة اعتباطية بين ما هو في الواقع لا انفصال بينه. فالإنسان ثمرة لتاريخ المجتمعات. وهو ليس كذلك خارج المجتمع بل بتأثيره. وهكذا يفصل المنهج الميتافيزيقي ما هو متصل في الواقع. ويقوم بتصنيف جميع الأشياء تصنيفا نهائيا. فهو يقول مثلاً: "السياسة من جهة والنقابة من جهة". ولا شك أن السياسة والنقابة شيئان، غير أن التجربة والحياة تبرهن لنا على أنه لا يمكن فصل السياسة عن النقابة، لأن ما يحدث في النقابة يؤثر في السياسة، كما أن النشاط السياسي (كالدولة، والأحزاب، والانتخابات) يؤثر في النقابة. تؤدي هذه التجزئة بالميتافيزيقي إلى أن يفكر في كل مناسبة بهذا الشكل: يكون الشيء هذا أو ذاك، فهو لا يمكنه أن يكون في نفس الوقت هذا أو ذاك" مثال: ليست الديمقراطية هي الدكتاتورية، وليست الدكتاتورية هي الديمقراطية فالدولة إذن إما أن تكون ديمقراطية وأما أن تكون دكتاتورية. ولكن ما الذي تعلمنا أياه الحياة ؟ تعلمنا الحياة أن الدولة يمكن أن تكون، في نفس الوقت، دكتاتورية وديمقراطية. فالدولة البرجوازية، في الولايات المتحدة مثلا، ديمقراطية بالنسبة لأقلية من كبار الممولين الذين يتمتعون بجميع الحقوق وكل السلطات. وهي دكتاتورية بالنسبة للأغلبية الساحقة من أوساط الناس الذين لا يتمتعون إلا بحقوق وهمية. أما الدولة الشعبية، في الصين مثلا، فهي دكتاتورية بالنسبة لأعداء الشعب وبالنسبة للأقلية المستغلة التي طردتها الثورة من الحكم، وهي ديمقراطية بالنسبة للأغلبية المطلقة من العمال الذين تحرروا من الاضطهاد. ولما كان الميتافيزيقي يحدد الأشياء تحديداً نهائياً ويحرص على أن يعزلها بعضها عن بعض، فأنه مضطر إلى أن يناقض بعضها بالبعض على أنها متنافرة لا يمكن التوحيد بينها. فهو يعتقد أنه لا يمكن أن يوجد متناقضان في نفس الوقت، فهو يقول إن الكائن إما أن يكون حيا وإما أن يكون ميتا، ولا يمكن أن يتصور أن كائنا ما يمكن أن يكون حيا وميتا في نفس الوقت. ومع ذلك تحل في الجسد الإنساني. في كل لحظة. خلايا جديدة محل الخلايا الميتة. وتقوم حياة الجسم على هذا النضال المستمر بين الأضداد. يمتاز المنهج الميتافيزيقي إذن برفضه للتغير وفصله بين ما لا يمكن فصله وإهماله للأضداد. وسوف ندرس كل ذلك بتفصيل في الدروس المقبلة. فنقارن بين هذه الصفات والصفات التي يمتاز بها المنهج الجدلي. ولكن يمكننا منذ الآن أن نحس بالأخطار التي يمكن أن يؤدي إليها المنهج الميتافيزيقي في البحث عن الحقيقة والتأثير في العالم. لأن الميتافيزيقيا يفوتها جوهر الواقع الذي هو تغير مستمر وتحول دائم: فهي لا تريد أن ترى إلا جانبا واحدا من هذا الواقع الغني وأن ترد الكل إلى أحد أجزائه فترد الغابة بأكملها إلى إحدى شجراتها. فهي لا تتخذ صورة الواقع كما تفعل الجدلية بل تريد أن تحمل الواقع الحي على أن يتخذ صورة قوالبها الميتة. وهي مهمة مصيرها إلى الفشل. تروي خرافة يونانية قديمة مساوىء قاطع الطريق بروكست الذي كان يرقد ضحاياه على سرير ضيق. فإذا كانت الضحية أضخم من السرير قطع رجليها، وإذا كانت ضئيلة مدد أعضاءها... وهكذا تفعل الميتافيزيقا بالوقائع غير أن الوقائع عنيدة لا تستسلم.

المراجع

hifati.yoo7.com/t4895-topic موسوعة الفلسفة والفلاسفة

التصانيف

فلسفة