التحكيم طريق قضائي استثنائي خاص أجازه المشرع للفصل في النزاعات المدنية والتجارية التي يحيلها المتعاقدون على أشخاص يسمون بالمحكمين arbitrators، للحصول منهم على حكم نهائي وملزم. ويعَّين المحكمون باتفاق الأطراف أو بقرار من المحكمة المختصة في قضايا التحكيم الوطني. أو من مؤسسة التحكيم الدائمة أو الجهة المسماة في اتفاق التحكيم في قضايا تحكيم التجارة الدولية.
ويتم الاتفاق على التحكيم بموجب بند في العقد الأصلي يسمى «بند التحكيم» أو «شرط التحكيم» بمقتضاه يتفق الخصوم على إحالة النزاعات التي تنشأ في المستقبل بين أطرافه، بصدد تنفيذ العقد القائم بينهم أو تفسيره، على المحكمين، أو بموجب عقد مستقل يسمى صك التحكيم أو اتفاق التحكيم يتفق فيه الخصوم على حل النزاع القائم بينهما أو على بعض منه بطريق التحكيم.
ويعرف التحكيم بأنه اختياري في القضايا التي يجوز اللجوء فيها إلى التحكيم، ما لم ينص على أنه إجباري في قضايا خاصة محددة. وهو تعاقدي، يتم باتفاق الخصوم، غير أنه يتوجب عليهم مباشرة إجراءات قضائية أمام المحكمين، لأن مهمة المحكم تماثل مهمة القاضي، ويخضع في ممارستها لإجراءات قضائية أو شبه قضائية، وعليه التقيد بأحكام القانون في إصدار أحكامه، وهذا ما يجعل التحكيم يتصف بطابع مزدوج تعاقدي ـ قضائي، إذ يبدأ بالاتفاق على التحكيم وينتهي بصدور حكم نهائي. ويعد هذا الحكم كالحكم القضائي في إنهائه النزاع بين الخصوم، ويكتسب حجيته من تاريخ صدوره، ولكنه لا يصير واجب التنفيذ بصورة جبرية إلا منْ تاريخ إكسائه صيغة التنفيذ بموجب إجراء يصدر عن المرجع القضائي المختص.
والتحكيم بهذا المعنى يتم بين الأشخاص الطبيعيين والاعتباريين على الصعيد الوطني (الداخلي) ويخضع للقانون الخاص أو القانون العام، وعلى الصعيد الدولي ويخضع للقواعد الناظمة للتحكيم التجاري الدولي. وهذا النوع من التحكيم يختلف عن التحكيم الذي يجري بين الدول ويخضع لأحكام القانون الدولي العام.
التحكيم التجاري الداخلي
وهو التحكيم الذي يتم بين أشخاص طبيعيين أو اعتباريين أو فيما بينهم على صعيد دولة معينة، أي إنه التحكيم الذي تنحصر عناصره وآثاره في هذه الدولة ولا تتصل بغيرها.
ينظم القانون الداخلي في كل دولة شروط صحة اتفاق التحكيم وعناصره وكيفية تعيين المحكمين، والأحكام الصادرة عنهم، وغيرها من المسائل المتصلة بسير عملية التحكيم.
1ـ شروط صحة اتفاق التحكيم وإثباته:
أـ يجب أن يتمتع المتعاقد على التحكيم بأهلية التعاقد وسلطة التصرف في حقوقه إذا كان شخصاً طبيعياً، أو بتفويض خاص لإبرام اتفاق التحكيم إذا كان شخصاً اعتبارياً خاصاً، أو بإجازة رسمية خاصة إذا كان من أشخاص القانون العام الإداري أو الاقتصادي. وتصدر هذه الإجازة عن الجهة الرسمية أو القضائية التي يحددها قانون ذلك الشخص، تحت طائلة عدم نفاذ الحكم الصادر بحق الشخص العام المعني بالأمر.
ب ـ يجب أن يكون موضوع النزاع مما يصح التحكيم فيه. فما يعد من الموضوعات قابلاً للتحكيم في دولة ما قد لا يعد كذلك في دولة أخرى. وعلى سبيل المثال يحظر القانون السوري إجراء التحكيم في المسائل التي تتعلق بالحالة الشخصية أو الجنسية أو المسائل التي لا تقبل الصلح لتعلقها بالنظام العام الوطني. ولكن لا يوجد ما يمنع من إجراء الصلح والتحكيم في المصالح المالية التي تترتب على الحالة الشخصية أو التي تنشأ عن ارتكاب إحدى الجرائم.
ج ـ يجب أن يكون اتفاق التحكيم مكتوباً وواضحاً، وأن يُظهر إرادة الطرفين باللجوء إلى التحكيم، ما لم يكن القانون الذي يحكم شروط الاتفاق وصحته يجيز لأشخاص معينين ـ كالتجار، مثلاً، الاتفاق على التحكيم بصورة شفوية في نزاعاتهم التجارية فقط وتتشدد بعض التشريعات والمحاكم في تطبيق هذا الشرط، فلا تعتدُّ ببند التحكيم، في حالات معينة، إذا ورد مطبوعاً بصورة مسبقة في وثيقة معينة، كما في نزاعات النقل البحري، وتستلزم للاعتراف بصحته أن يتم بموجب عقد مستقل عن مثل هذه الوثيقة.
ويتم إثبات اتفاق التحكيم، وفق ما هو مقرر في القوانين الوطنية بصورة عامة وفي الاتفاقيات الدولية المتعلقة بالتحكيم، عن طريق الكتابة، سواء بورقة رسمية أم عادية بما في ذلك الرسائل الخطية أو البرقيات أو رسائل التلكس المتبادلة وغيرها.
ويميل الفقه إلى جواز إثباته بالإقرار أو اليمين الحاسمة. أمّا القضاء في بعض الدول، كما هو الحال في سورية، فيرفض ذلك.
وخلافاً للنهج المتبع في معظم الدول يجيز قانون المرافعات في ألمانية (الاتحادية سابقاً) للتجار من دون غيرهم أن يتفقوا شفوياً على التحكيم لحل نزاعاتهم التجارية، ويسمح لهم من ثم إثبات اتفاقهم بالبيّنة الشخصية.
2ـ تعيين المحكمين: يسمى المحكمون بإحدى الطرق الآتية:
أ ـ باتفاق أطراف النزاع على تسميتهم أو على تحديد صفاتهم وعددهم، أو باتفاقهم على تحديد طريقة تعيينهم.
ب ـ أما إذا اختلفوا على التعيين، فإنه يتم تعيينهم بقرار من المحكمة المختصة في التحكيم الوطني، وبقرار من الجهة الدولية التحكيمية في التحكيم الدولي، وفقاً للعدد والطريقة المذكورين في الاتفاق، وإلا فوفقاً لنظام المؤسسة المشرفة على التحكيم.
وتنظر المحكمة المختصة أو مؤسسة التحكيم الدولية أو الجهة الدولية المسماة في الاتفاق لهذا الغرض، في الطلب في غرفة المذاكرة بناء على طلب الطرف الأكثر عجلة بحضور الخصم الآخر أو في غيبته بعد دعوته أصولاً إلى جلسة معينة. ويصدر قرار التعيين مبرماً. غير أن الاجتهاد القضائي الوطني أجاز الطعن في قرار المحكمة القاضي برفض التعيين مؤكداً إلزامية اتفاق التحكيم، وتأسيساً على أن النص الوطني لايمنع الطعن إلا في القرار الصادر بالتعيين.
لم تحدد نصوص التحكيم الوطنية والأجنبية عدد المحكمين الذين يعينون في كل قضية، إلا أنها أوجبت أن يكون عددهم وتراً. وطبقاً لهذه القاعدة يجوز للأطراف أن يعينوا محكماً واحداً أو ثلاثة محكمين أو خمسة. ويشترط فيمن يتولى التحكيم أن يكون متمتعاً بالأهلية القانونية الكاملة، فلا يجوز أن يكون قاصراً ولا محروماً من حقوقه المدنية ولا مجنوناً أو سفيهاً أو ذا غفلة، بعد توقيع الحجر عليهم، ولا مفلساً بعد إعلان إفلاسه. ومن الأمور المسلم بها أنه لا يجوز أن يكون محكماً من تكون له مصلحة في النزاع، وعلى الرغم من ذلك فإن التعامل أجاز تعيين هذا الشخص أو من تكون له علاقة بأحد الخصوم إذا كشف للأطراف عن علاقته وقبلوا به نتيجة الثقة الشخصية التي يتمتع بها من الأطراف فإذا لم يكشف لهم عن ذلك، يجوز لأحد الأطراف أن يطلب ردّه إذا أظهر تحيزاً للخصم.
تجيز نصوص التحكيم الوطنية والأجنبية للخصوم رد المحكمين. وفي العادة يستند طلب الرد إلى الأسباب والإجراءات نفسها التي يرد بها القاضي. ويُرفع الطلب إلى المحكمة المختصة بالنظر في النزاع، في التحكيم الوطني، أو إلى محكمة البلد الأجنبي الذي يجري فيه التحكيم الخاص الأجنبي أو إلى مكتب مؤسسة التحكيم الدولية التي تشرف على التحكيم الأجنبي وفق شروط القوانين واجبة التطبيق على إجراءات التحكيم وفي المواعيد التي تحددها. ومما يجدر ذكره في هذا الصدد أنه لا تطبق بعض الأسباب التي يرد بها القضاة على رد المحكمين، ومنها مثلاً صلة القرابة والمصاهرة بين المحكم وأحد الخصوم، وذلك لثقة الأطراف به وبسمعته، أما إذا كانوا يجهلون تلك الصلة ولم يكشف لهم المحكم عنها عند التعيين، فإنها تكون سبباً للرد.
3ـ حكم المحكمين:
أ ـ بيانات حكم المحكمين: تتفق جميع النصوص القانونية التحكيمية الوطنية والأجنبية على أن يصدر حكم المحكمين مكتوباً وموقعاً بإجماع الآراء أو أكثريتها، وبوجوب تضمين وثيقة الحكم عدداً من البيانات الأساسية، وهذه تختلف من قانون لآخر. ويمكن إجمال هذه البيانات بوجوب ذكر مضمون اتفاق التحكيم، وملخص أقوال الخصوم، ومستنداتهم، وأسباب الحكم، ومنطوقه، وتاريخ صدوره، ومكانه، وبيان مخالفة أحد المحكمين أو رفضه التوقيع على الحكم، ويعد الحكم صحيحاً إذا وقعته أغلبية المحكمين.
وتعدُّ هذه البيانات أساسية للاعتداد بصحة حكم المحكمين، وإعلان قابليته للتنفيذ، ولو كان المحكمون مُعفيْن من اتباع القانون أو مفوضين بالصلح.
ب ـ حجية الحكم وقوته التنفيذية: تقضي القاعدة العامة التحكيمية بأن الحكم الصادر يكتسب حجيته بين الأطراف بشأن النزاع موضوع التحكيم من تاريخ صدوره، ويعد صادراً منذ كتابته وتوقيعه. وتعد صيغة التنفيذ الممنوحة له إجراء قضائياً عادياً ـ وليست حكماً قضائياً ـ يهدف إلى التحقق من استيفاء الحكم لبياناته وشروطه من دون التدخل في موضوعية الحكم أو عدالته.
ويكتسب الحكم قوته التنفيذية بعد أن تمنحه المحكمة المختصة صيغة التنفيذ وتعلن أنه أصبح قابلاً للتنفيذ. أما إذا رفضت هذه المحكمة منحه صيغة التنفيذ، فلا يفقد الحكم حجيته، إذ يُجيزه الاجتهاد قرينة لإثبات موضوع النزاع أمام القضاء أو أمام تحكيم جديد.
ج ـ النطق بالحكم: لا تنص الأحكام القانونية التحكيمية على تحديد جلسة للنطق بالحكم وإفهام مضمونه لأطراف النزاع، لأن الأحكام تقضي بأن الحكم يعد صادراً بتاريخ كتابته وتوقيعه من المحكمين. لكن ينبغي على المحكمين في مثل هذه الحال تبليغه إلى أطراف النزاع بالطريقة التي يرونها ملائمة، وأفضلها تبليغه إليهم بطريق البريد مع إشعار بالاستلام، ويعد تاريخ الاستلام موعداً لسريان مهلة الطعن بحقهم في حال قبول الحكم للطعن فيه.
وعلى الرغم مما تقدم فإنه لا يوجد نص يمنع المحكمين من التقيد بالأسلوب القانوني أو المحدد في اتفاق التحكيم وتحديد جلسة لتفهيم الخصوم منطوق الحكم.
د ـ طرق الطعن في حكم المحكمين:يحدد قانون المرافعات الذي يصدر حكم المحكمين بموجبه طرق الطعن في هذا الحكم. والقاعدة العامة تجيز للأطراف أن يطعنوا في الحكم الصادر وفقاً للشروط والمواعيد التي تحددها أحكام قانون إصداره. والاستثناء من تلك القاعدة، أن يمنع الأطراف من الطعن في الحكم في الحالات الآتية:
ـ إذا كان المحكمون مفوضين بالصلح.
ـ إذا عين المحكمون في قضية ينظر فيها في الاستئناف ما لم يكن قانون إصداره يجيز الطعن فيه إلى محكمة أعلى.
ـ إذا تنازل الأطراف صراحة في اتفاق التحكيم عن حق الطعن فيه.
ـ إذا كان موضوع النزاع الجاري بشأنه التحكيم أو قيمته مما يفصل فيه بحكم لا يقبل الطعن فيه.
ومما يجدر ذكره أن بعض القوانين كالقانونين السوري والفرنسي تحدد طرق الطعن في حكم المحكمين بطريق الاستئناف أو بطريق إعادة المحاكمة وفقاً للحالات والشروط والمهل المقررة للطعن في الأحكام القضائية. في حين ألغت قوانين أخرى كالقانون المصري تلك الطرق وحددت أسلوب الطعن بطريق إلغاء الحكم وفق حالات وشروط ومهل معينة. وقد تبنى القانون الأجنبي المقارن ـ بما في ذلك اتفاقيات التحكيم الدولية ـ تطبيق دعوى الإلغاء وفقاً لشروط معينة.
هـ ـ إيداع الحكم: تختلف طرق تنفيذ أحكام المحكمين باختلاف صفتها، ويمكن التمييز بين ثلاثة أنواع منها: أحكام المحكمين الوطنية، وأحكام المحكمين الأجنبية، أحكام المحكمين الدولية.
ولابد من القول إن معايير التمييز بينها ليست متماثلة في قوانين الدول، ولتحديد صفة الحكم يُرجع إلى قوانين الدولة المطلوب إليها تنفيذ حكم المحكمين. ففي تنفيذ الأحكام الوطنية توجب القواعد العامة في التحكيم إيداع أصل الحكم وأصل اتفاق التحكيم ديوان المحكمة المختصة للنظر في أصل النزاع لتتولى منحه صيغة التنفيذ، سواء كانت محكمة الصلح أو البداية أو الاستئناف إذا كانت القضية مما ينظر فيه في المحكمة الأخيرة قبل إحالتها على التحكيم. ويتم تحديد ديوان المحكمة المختصة التي يودع فيه حكم المحكمين وفقاً لقواعد الاختصاص القضائي المحددة في قانون البلد الذي يصدر الحكم بموجبه.
ومما يجدر ذكره في هذا الصدد أن حكم المحكمين الأجنبي لا يحتاج إلى إيداع في ديوان محكمة البلد الذي يطلب فيه التنفيذ، كما أن إجراء الإيداع لا يخضع لميعاد معين، كما هو شأن الحكم القضائي، لعدم النص على ذلك في نصوص التحكيم، ولعدم الحاجة إلى تحديد جلسة للنطق به. ونتيجة لذلك، لا تتأثر صحة الحكم وقابليته للتنفيذ بعدم الإيداع، لأنه يعد صادراً ونافذاً أصولاً من تاريخ كتابته وتوقيعه من المحكمين. ولكن يشترط لتنفيذه ألا تكون قد مضت عليه مدة التقادم المحددة في قانون مكان تنفيذه.
و ـ المرجع المختص بتنفيذ حكم المحكمين: يحدد قانون مرافعات البلد الذي يطلب منه تنفيذ حكم المحكمين، المحكمة المختصة بتنفيذه، والطريقة التي ينفذ الحكم بها، وهل تكون بطريق الدعوى المستعجلة أم بطريق الدعوى العادية؟ وهل يقبل القرار الصادر بالتنفيذ الطعن فيه أمام محكمة أعلى أم لا؟ وبكلمة أوضح هل يعد الحكم الأجنبي كالحكم الوطني ويعامل معاملته، أم إنه يختلف عنه في طريقة المعاملة وطريقة التنفيذ؟ وهل تملك المحكمة المختصة بالتنفيذ اختصاصاً شاملاً لتنفيذ جميع أحكام المحكمين الصادرة في النزاعات الناشئة عن العقود المدنية والعقود الإدارية أم يعود ذلك إلى المحكمة المختصة بأصل النزاع؟ ويتوزع الاختصاص بهذا الشأن بين القضاء العادي والقضاء الإداري.
ومما لاشك فيه أن يتوزع الاختصاص الوظيفي لتنفيذ حكم المحكمين بين القضاءين العادي والإداري طبقاً لطبيعة النزاع موضوع التحكيم الذي ينشأ عن العقد المدني أو عن العقد الإداري سواء كان الحكم وطنياً أو أجنبياً. كما يتوزع اختصاص القضاء العادي بين قضاء مستعجل لتنفيذ الحكم الوطني، وقضاء عادي لتنفيذ الحكم الأجنبي الذي لا يخضع لاتفاقية تحكيم دولية وفقاً لشروط القانون الوطني. أما إذا كان الحكم لا يخضع لاتفاقية تحكيم دولية، فإن التعامل القضائي الدولي يميل إلى معاملته معاملة الحكم الوطني في التنفيذ.
وتنظم القواعد القانونية في قانون مرافعات البلد الذي يطلب منه تنفيذ الحكم طرق الطعن في القرار القضائي الذي يصدر بتنفيذ الحكم أو برفض تنفيذه.
ثانياً ـ التحكيم التجاري الدولي
إن التحكيم الذي تتصل جميع عناصره بدولة محددة، ويعد وطنياً في هذه الدولة يكون أجنبياً في دولة أخرى، ويعامل الحكم الصادر في هذا التحكيم معاملة أحكام المحكمين الأجنبية، إذا ما أريد تنفيذه أو التمسك بآثاره فيها.
والتحكيم الأجنبي في نظر دولة محددة يعد دولياً إذا كانت عناصره المختلفة تتصل بأكثر من دولة.
ولا تبرز أهمية التمييز بين التحكيم الأجنبي والتحكيم الدولي إلا في مرحلة تنفيذ حكم المحكمين وذلك لوجود قواعد اتفاقية دولية مشتركة بين الدول تطبق على تنفيذ أحكام المحكمين الدولية، وقواعد وطنية داخلية في كل دولة تحكم تنفيذ أحكام المحكمين الأجنبية التي لا تدخل في نطاق تطبيق القواعد الاتفاقية الدولية.
والتحكيم الدولي بمعناه المتقدم الذي يجري بين الأشخاص الطبيعيين أو الاعتباريين أو فيما بينهم، ويتصل بأكثر من دولة، يٌصادف غالباً في ميدان التجارة الدولية، ولهذا درج الشراح على تسمية هذا التحكيم بتحكيم التجارة الدولية.
فمن الملاحظ أن شبكة العلاقات التجارية الدولية سواء تلك التي تمس نشاط الأفراد أو المؤسسات أو الشركات أو الدول، قد نمت وتوسعت في الآونة الأخيرة بصورة سريعة جداً، وانعكس ذلك على دور قضاء التحكيم وتعزيز مكانته. فقد ازداد لجوء المشتغلين بالتجارة الدولية إلى التحكيم، وفضلوه على القضاء الوطني بحكم مزاياه التي هي السرية والسرعة والاقتصاد في الوقت والنفقات والحصول على حكم نهائي ملزم ينفذ طوعاً واختياراً، مما أدى إلى انتشار مؤسسات التحكيم ومراكزه النظامية في مختلف أنحاء العالم مثل غرفة التجارة الدولية في باريس والمركز الإقليمي للتحكيم التجاري الدولي في القاهرة، وإلى وضع أنظمة قانونية لا وطنية تساعد الخصوم والمحكمين على حل الخلافات حلاً حاسماً وسريعاً. مما يسمح بالقول بوجود قضاء تحكيم خاص بالتجارة الدولية.
وقد اتسع هذا التطور في شبكة العلاقات التجارية الدولية فلم يقتصر على نشاط الأفراد والمؤسسات والشركات بل شمل أيضاً علاقات الدول التجارية والاقتصادية فيما بينها أو مع الأفراد والمؤسسات والشركات الأجنبية عنها، ودخولها معها في عقود مختلفة الأنواع والطبيعة والأهمية مثل العقود البترولية (عقود التنقيب والخدمة وغيرها) وعقود نقل التكنولوجية وغير ذلك. ونجم عن ذلك قيام منازعات بشأن تنفيذها. ومن الملاحظ أن الدول لم تتردد في قبول اللجوء إلى التحكيم أمام أشخاص أو هيئات حيادية معتمدة دولياً والخضوع أيضاً إلى أنظمة تحكيمية بغية تسوية هذه المنازعات متنازلة بذلك عن حصانتها القضائية وعن حقوق السيادة والامتيازات المتعلقة بها.
والأمثلة على ذلك كثيرة ومنها مثلاً القانون السوري الذي أجاز للهيئات العامة الإدارية والهيئات العامة الاقتصادية، إبرام العقود الخارجية واللجوء إلى التحكيم الوطني الخارجي، وفقاً للقواعد المحددة في نظام عقود هذه الهيئات.
ولأهمية التحكيم في نظر الدول بوصفه وسيلة لحل المنازعات التجارية الدولية، لجأت دول كثيرة إلى تعديل قوانينها أو إصدار قوانين حديثة نظمت بموجبها قواعد اللجوء إلى التحكيم بما يكفل تسهيل اللجوء إليه وتعزيز مكانته بما يتلاءم وتطور احتياجات التجارة الدولية. كما أبرمت اتفاقيات دولية وإقليمية جماعية وثنائية وحدت بموجبها قواعد التحكيم وإجراءاته وطرق تنفيذ أحكامه مما يؤدي إلى مساعدة الدول وهيئاتها العامة الإدارية والاقتصادية على حل المنازعات الناشئة عن نشاطها التجاري الخارجي عن طريق التحكيم.
ومن هذه الاتفاقيات، اتفاقية نيويورك لعام 1958، واتفاقية جنيف لعام 1961، واتفاقية واشنطن لعام 1965، واتفاقية الكوميكون لعام 1972، واتفاقية الاستثمار العربية لعام 1974، واتفاقية الرياض القضائية لعام 1983، واتفاقية التحكيم العربية الصادرة في عّمان لعام 1987 التي لم تدخل حيّز التنفيذ بعد.
وقد عدت هذه الاتفاقيات حكم المحكمين، نهائياً وملزماً، وكأنه حكم وطني، وأخضعت تنفيذه لشروط الاتفاقية التي يخضع لها، وقد شجعت الاتفاقيات المذكورة الدول المنضمة إليها على تنفيذ الحكم طوعاً واختياراً، وإلا فإنه ينفذ بصورة إجبارية عن طريق المحكمة المختصة طبقاً لقواعد تنفيذ الحكم الوطني. أما إذا لم يكن الحكم يخضع لاتفاقية تحكيمية، فإنه يعد كالحكم القضائي الأجنبي، وينفذ وفقاً لشروط القانون الوطني طبقاً لقاعدتي المعاملة بالمثل ورفع الدعوى العادية لمنحه صيغة التنفيذ مالم ينص القانون على غير ذلك.
1ـ إجراءات التحكيم: تعتمد إجراءات التحكيم التجاري الدولي على تحقق مبدأين:
الأول: أن يكون لإرادة الخصوم شأن في اختيار المحكمين، ولو كان التحكيم إجبارياً.
الثاني: المساواة بين أطراف النزاع في اختيار المحكمين، فلا تكون لأحدهم ميزة على الآخر سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو قانونية.
إلا أن المشكلة التي تبرز في هذا الصدد هي أنه لا يوجد قانون دولي موحد يطبق على موضوع النزاع أو على اتفاق التحكيم أو على إجراءاته، مما يؤدي إلى نشوء خلاف أساسي حول اختيار القانون واجب التطبيق على المسائل الآنفة الذكر وعلى طريقة اختياره.
ومع ذلك فإنه يمكن التغلب على هذه لمشكلة بإعطاء الأطراف حرية اختيار القانون الذي يرغبون في تطبيقه على إحدى تلك المسائل. أما إذا لم يتفقوا على اختيار القانون واجب التطبيق. فإن الاتجاه يميل إلى تفويض المحكمين بتطبيق قواعد التنازع القانونية الملائمة لاختيار القانون الذي يكون أكثر ارتباطاً بموضوع النزاع. ومن جهة أخرى، إذا لم يتفق الأطراف على اختيار قانون مرافعات لتطبيقه على إجراءات التحكيم، أو على إجراءات معينة، فإن الاتجاه يميل إلى تفويض المحكمين بتطبيق قانون مكان التحكيم.
وتبدأ إجراءات التحكيم ـ كما في الدعاوى القضائية ـ بدعوة الجهة المختصة إلى تأليف هيئة المحكمين بحضور الخصوم، وفي حال امتناع أحدهم عن الحضور تتولى تلك الجهة تعيين جميع المحكين بمن فيهم محكم الطرف الذي امتنع عن الحضور أو عن التعيين.
ويباشر المحكمون أعمالهم بعد أن يتسلموا طلباً من الخصوم مربوطاً به جميع الوثائق المؤيدة، وبعد أن تدفع نفقات التحكيم. ويلتزم المحكمون ضمان حق الدفاع لجميع الأطراف وتحقيق المساواة بينهم، وتطبيق القوانين على موضوع النزاع، وصحة اتفاق التحكيم، وإجراءات التحكيم التي يختارها الأطراف أو المحكمين. ويجوز تفويض المحكمين بالصلح أو إجازتهم بالحكم وفقاً للعادات والأعراف التجارية الدولية أو وفقاً لشروط العقد بمعزل عن أي نظام قانوني.
ويحق للمحكمين إجراء الخبرة الفنية ومعاينة البضائع، وسماع الشهود، وإثبات الدفوع، وقبول جميع الوثائق التي تعزز قناعاتهم في كيفية حل النزاع، واتخاذ التدابير المستعجلة مثل الموافقة على بيع البضائع القابلة للتلف، ويصدرون حكمهم في النزاع في المدة المحددة لهم في اتفاق التحكيم أو في محاضر جلسات المحاكمة مالم يوافق الأطراف على تمديدها صراحة أو ضمناً، أو مالم يكن نظام مؤسسة التحكيم الدولية التي تشرف على التحكيم يجيز للمحكمين أو لأعلى سلطة إدارية فيها تمديد هذه المدة لإنجاز أعمال التحكيم.
2ـ تنفيذ أحكام المحكمين الأجنبية:القاعدة أنه يجري تنفيذ أحكام المحكمين طوعاً واختياراً، وهو مبدأ شائع في التجارة الدولية، وإلا فإنها تنفذ جبراً عن طريق المحكمة المختصة.
ويجري تنفيذ الأحكام وفقاً لشروط الاتفاقية الدولية المبرمة بين دول أطراف الحكم إذا كان مشمولاً بأحكامها، أما إذا كان لا يخضع لأي اتفاقية دولية، فإنه ينفذ وفقاً لشروط القانون الوطني في بلد التنفيذ وعلى أساس شرط المعاملة بالمثل.
والمشكلة في هذا الصدد هي: كيف يعامل في التنفيذ «حكم الاتفاقية»، أي الحكم الذي يخضع تنفيذه لشروط اتفاقية تحكيم دولية أو إقليمية؟ وهل يعد كالحكم الوطني أم كالحكم الأجنبي في التنفيذ.
انطلقت معظم المحاكم في العالم إلى تبسيط إجراءات تنفيذ «حكم الاتفاقية» وتسهيلها ومعاملته كالحكم الوطني. وإخضاع تنفيذه إلى الإجراءات المستعجلة. في حين اتجهت بعض المحاكم داخل الدولة الواحدة ـ كما في سورية ـ إلى الانقسام على نفسها في معرض البحث في هذه المسألة. فبعض المحاكم العادية وعلى رأسها محكمة النقض تميل إلى تنفيذ «حكم الاتفاقية» بطريق الدعوى العادية وكأنه حكم أجنبي، في حين يتجه القضاء الإداري لدى مجلس الدولة السوري إلى مساواته بالحكم الوطني في التنفيذ.
أحمد الشيخ قاسم
المراجع
الموسوعة العربية
التصانيف
الأبحاث