لن أتحدث هنا عن اليهود وقد وصفهم الله بقسوة القلب: “ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً…” (البقرة، الآية 74)، ولا عن المشركين أو أي صنف آخر؛ وإنما أتحدث عن القسوة التي تصاب بها بعض قلوب المسلمين، في بعض تصرفاتهم، نتيجة للبعد الحقيقي عن الدين وجوهره وقيمه.
قرأت قبل أيام عن بنت أودعها أهلها أحد مراكز الرعاية التابعة لوزارة التنمية الاجتماعية منذ صغرها، وبقيت هناك إلى أن توفاها الله تعالى وعمرها ست عشرة سنة. وقامت إدارة المركز الذي رعاها بإبلاغ ذويها بوفاتها، وكانوا قد تغيبوا عن زيارتها أكثر من أربع سنين، وذلك من أجل السير في إجراءات الدفن. لكن فوجئت إدارة المركز برد الأهل، إذ كان: “الله يجعلها بشرى خير”، هكذا بهذا اللفظ، وبهذه القسوة! وأضافوا إلى قسوتهم أن ردوا على المركز حين طلب منهم الحضور لأخذها ودفنها بقولهم: “إحنا مش فاضيين.. ادفنوها أنتم”. وواصل المركز الاتصال إلى أن تطوع أحد أقارب الفتاة، وقام بدفنها، برفقة بعض من موظفي الوزارة.
أي عالم هذا؟ وأي أخلاق وقيم؟ وأي تربية وانتماء لدين الأصل فيه أنه رحمة؟ أي فجوة هذه التي تحول بين الإنسان وأبسط متطلبات الإنسانية؟ فالإنسان بفطرته السليمة يحسن إلى الإنسان العادي، بل إلى الحيوان والبيئة، ومن باب أوْلى أن يحسن إلى الإنسان المبتَلى المريض، فهذا بحاجة إلى أهله وعطفهم وحنانهم. والرجاء بالله منعقد لا يجوز أن يفارق العبد أبدا. ومع هذا، حصل ما حصل. وأظنها مسألة بحاجة إلى توجيه، بغض النظر عن انتشارها وكونها ظاهرة أم لا، فبين التهويل والتهوين لا أريد أن يضيع التعليق على الحادثة. إذ إن المعلومات الواردة من دور الرعاية للمسنين والمرضى واللقطاء والأيتام في غالبيتها العظمى صادمة، ترعاهم مؤسسات رسمية وخاصة، ولكن العبء الحقيقي على الأسرة وأفرادها أن يفهموا واجباتهم، ويتذكروا مبدأ البر والرحمة، ويفهموا سنة الابتلاء، ويفهموا أنه كما تدين تدان.
نعم، هي سنة الابتلاء؛ يبتلي الله من يشاء بما يشاء، فهي حكمته وإرادته، يختبر الناس، من يصبر فيؤجر، ومن يجزع ويسخط فيأثم. والابتلاء عام، في السراء ليشكر الناسُ، وفي الضراء ليصبروا، وهكذا الحياة بين سراء وضراء. والبيوت أسرار، ولو دخلنا على أصحاب قصور لوجدنا أنواعا من الابتلاء لا نتوقعها، فكيف بمن هم في حالات أخرى؟ والمطلوب هو حسن الظن بالله تعالى، واللجوء إليه، والصبر، وحسن إدارة الأمور.
هذا الذي يترفع عن إبقاء والديه أو أحدهما في بيته بسبب كبر سنهما وعجزهما، ألا يعلم أنهما كنز من الحسنات إن برّهما؟ ألا يتذكر قول الله تعالى: “وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا” (الإسراء، الآيتان 23 و24)؟ وهل علم أحدنا أن الله تعالى لم يقرن باسمه أحدا إلا الرسول صلى الله عليه وسلم والوالدين، كما في هذه الآية، وكما في قوله: “… أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ…” (لقمان، الآية 14)؟ ولو افترضنا أن هناك ضرورة ملحة لوضعهما أو أحدهما في دار رعاية، أفلا يكون الإحسان على الأقل بالزيارة والاطمئنان والتواصل؟
والأمر نفسه يقال بشأن هؤلاء الأطفال. قد نفهم مشكلة اللقطاء أنه لا أهل حقيقيين لهم، ولكن ماذا عن الأيتام؟ والمرضى كحال قصتنا هذه؟ ما ذنبهم؟ ألا يحتاجون إلى من يحن عليهم؟ أين المبادئ الإنسانية والقبلية فضلا، عن المبادئ الإسلامية التي كلها رحمة ورأفة وإحسان؟!
هناك انحراف مجتمعي حقيقي، وآن الأوان لتحمل المجتمع ومؤسساته كلها مسؤولياتها، بدءا بالبيت ومرورا بالإعلام والمسجد والمدرسة والجامعة. هناك أمراض كثيرة تفتك بالمجتمع؛ المخدرات والمسكرات والفواحش وضرب الأبوين وانتهاك الحرمات من دماء وأموال وأعراض، وهناك الخيانات والطلاق وما يتبعه من ضياع للأطفال وتراكم العقد النفسية عليهم، وهذا كله بسبب الانحراف الأخلاقي وغياب المبادئ والقيم، وهناك عادات جاهلية ما أنزل الله بها من سلطان، حيث الثأر والقتل العشوائي وتشريد العائلات.
أي بشرى خير هذه التي تلقاها أهل المتوفاة حين أُخبِروا بوفاتها؟ هل أراحتهم من زيارتها والإنفاق عليها، وهم لم يزوروها منذ أربع سنين؟ وأي قسوة هذه التي تمنعهم من دفنها؟ وأتخيل منظرها فقد كانت طفلة، وهي اليوم فتاة بالغة، ربما ابتليت بمرض كان بإمكان أهلها نيل الحسنات الكثيرة بالإحسان إليها والصبر عليها، لكنهم آثروا القسوة وتبعاتها. وقد يُحرمون الجنة وينالون العذاب الأليم بسببها، فقد دخلت امرأة النار في قطة حبستها، فلا أطعمتها ولا تركتها تأكل من حشاش الأرض، ودخلت امرأة بغيّ الجنة في إحسانها إلى كلب أسقته الماء، كما أخبر رسولنا صلى الله عليه وسلم، هذا مع الحيوان، فكيف مع الإنسان عموما؟ وكيف مع ابننا أو ابنتنا؟! إنها قسوة القلوب.
كما تدين تدان، حقيقة يحكي الناس قصصها الواقعية في الدنيا قبل الآخرة. كان أحدهم يضرب أباه، فجاء من ينجد الأب فبكى وقال: اتركوه، أنا هنا في المكان نفسه كنت أضرب أبي. ووسائل الإدانة كثيرة، ولله فيها حكم وتدبير، ونسأله اللطف سبحانه، فمن نحن حتى نتجرأ بهذه القسوة، أين فرعون وأين قارون؟ وأين الظلمة على مر التاريخ؟ حتى لو أفلتوا من عذاب الدنيا فهناك عذاب الآخرة، وهناك الصيت السيئ الذي سجله التاريخ لهم، وفي النهاية نرجع إليه ويحاسبنا، ويكون الندم.
لنتذكر قول ربنا سبحانه: “وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء” (إبراهيم، الآيتان 42 و43). ولنفهم أن قسوة القلب تمنع الإيمان من أن يدخل القلب أو ينفعه، وأننا راجعون إلى الله ومحاسبنا على كل صغيرة وكبيرة، فأين المفر؟