كتب: د.علي بن عمر بادحدح
11 مارس, 2012 - 18 ربيع الثانى 1433هـ

الخطبة الأولى:

وصية الله سبحانه وتعالى لعباده المؤمنين تقواه في كل آن وحين: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } [آل عمران : 102].
سمعنا الشكوى من جيلنا الجديد وبعض أفراده من أنهم لا يعطون الكبير حقه من التوقير، وأنهم ربما لا يؤدون للأستاذ والمعلم ما يلزم له من الاحترام، بل نشكو أيضاً من بعض أبنائنا أنهم مقصرون في حق إجلال الآباء والأمهات وإعطائهم القدر والمكانة والتوقير اللازم لهم، لكنني أكاد أجزم أننا لم نسمع أن ابناً ينادي أباه باسمه مجرداً، أو أنه يقول له إني مثلك وندك، وأني أعاملك كأي إنسان مثلي أو في سني أو من أصحابي وأصدقائي، وإن وجدنا ذلك فهو نادر وقليل جدا.

ومن هذه الندرة التي نسأل الله عز وجل ألا يكون لها مثيل ولا نظير ما خرج عن تصورنا وربما أصابنا بصدمة غيّرت طريقة تفكيرنا ونظرنا للأمور، ربما يصعب أن أقول القول وأكرره لكنني مضطر لذلك في جملة قصيرة لا أذكر ما يتبعها أو ما هو مثيل لها.
ما الأمر؟ ما الخطب؟ كيف التصور؟ إذا سمعنا من يخاطب سيد الخلق صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم فيقول له إني لك ندٌ أعاملك معاملة الند بالند!! ليس هناك شيءٌ آخر، أعتقد أن مثل هذا لم يكن يخطر لنا ببال وكما تحدثنا من قبل في رحاب العظمة الإلهية، هذه وقفات موجزة في رحاب العظمة النبوية لنعيد إلى قلوبنا الإيمان بنبوة المصطفى صلى الله عليه وسلم ونسكب فيها فيضاً من المحبة والإجلال والتوقير والتعظيم اللازم لرسول الهدى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

يضيق المقام عن مثل هذا الحصر لهذه العظمة التي أجلى صورها وأعظم ما دلّ عليها آيات القرآن الكريم، وابتدأ بالأمر الصريح الواضح المباشر في كتاب الله عز وجل بلزوم تعزيره وتوقيره وتعظيمه صلى الله عليه وسلم: { فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [الأعراف : 157]، وفي الفتح: { لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ } [الفتح : 9]، والتعزير التعظيم والتوقير الشيء الثقيل الوزن فتقول وقّرته أي ذكرته بما يليق به من عظمة وإجلال، انظروا إلى الوجوه الكثيرة التي وردت في الآيات القرآنية في حق المصطفى صلى الله عليه وسلم، ليس في حق أتباعه والمؤمنين به بل وردت في حق إخوانه من صفوة الخلق رسل الله وأنبيائه في أخذ العهد عليهم جميعاً بأنه إذا بعث محمد صلى الله عليه وسلم في زمنهم أن يؤمنوا به وأن يتبعوه: { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ }[آل عمران : 81]، وقد جاء في القرآن العظيم أن النبي صلى الله عليه وسلم ذُكرت صفته في الكتب السابقة، ووردت البشارة به فيما أوحى الله به إلى أنبياءه وذلك من الإجلال والتعظيم وإظهار القدر والمكانة السامية لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

وسئل عبدالله بن عمر بن العاص وكان عالماً بالكتب السابقة: أورد ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة؟ فقال: "إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن: يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً وحرزاً للأميين أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل ليس بفظٍ ولا غليظٍ ولا سخاب في الأسواق ولا قوال للخنا أسرد له كل جميل وأهب له كل خلق كريم " ثم ذكر من أوصاف النبي صلى الله عليه وسلم الجليلة العظيمة ما هو مذكور في التوراة كما ورد في حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما.

ومن وجوه الإجلال والتعظيم قول الحق جل وعلا: { مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ } [الأحزاب : 40] ، نحن في كلامنا نقول ختامه مسك، كلنا يدرك أن خاتم كل شيء هو أكمله وأجلّه وأعظمه وكذلكم كانت إرادة الله سبحانه وتعالى واقتضت حكمته أن يكون محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل والأنبياء لتكتمل فيه كل صفات العظمة التي كانت فيهم، وليكتمل في كتابه كل الهدايات التي تفرقت في كتبهم، ولتكتمل في شريعته كل المنافع والمصالح الباقية إلى قيام الساعة.

وذلك أمر واضح ورد فيه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الشيخين من رواية أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن مثلي ومثل الأنبياء قبلي كمثل رجل بنى بيتاً فأحسنه وجمّله إلا موضع لبنة فيه فجعل الناس يطوفون به ويقولون ما أجمله إلا موطن هذه اللبنة فأنا اللبنة وأنا خاتم الأنبياء والمرسلين) صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
استمعوا إلى ترجمان الوحي ابن عباس رضي الله عنه في كلمات موجزة بليغة دالة على جليل القدر وعظيم المكانة والمنزلة التي لرسولنا صلى الله عليه وسلم فيما قاله ربنا، قال ابن عباس رضي الله عنه: "ما حلف الله بحياة أحد إلا بحياة محمد صلى الله عليه وسلم"، فقال جل وعلا: { لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ } [الحجر : 72]، وقسَم الله عز وجل لا يكون إلا للتعظيم والإجلال.

 سبحانك ربنا كيف جعلت في كتابك عظمة نبينا.
واستمع إلى آية قصيرة نقرأها ونرددها كثيراً في صلواتنا: { وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ } [الشرح : 4] ، قال القاضي عياض رحمه الله: "فلا يذكر الله عز وجل إلا ويذكر معه رسوله صلى الله عليه وسلم"، أين توحيدكم؟ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، أين أذانكم ونداؤكم؟ أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، رفع ذكره صلى الله عليه وسلم فيما جاء من الاقتران: { مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } [النساء : 80]، وذلك اقتران فيه إجلال وتوقير وفيه تعليم وتوجيه لطاعة المصطفى صلى الله عليه وسلم.

تكفل الله بحمايته فقال: { وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } [المائدة : 67]، بل جعله أماناً لأمته: { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } [الأنفال : 33]، سبحانه قد عظّمه في نداءه، نقرأ في القرآن: { يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ } [البقرة : 35]، نقرأ: { يَا إِبْرَاهِيمُ  قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا } [الصافات : 104 ، 105]، نقرأ: { يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ } [القصص : 31]، ولا نقرأ في القرآن يا محمد وإنما: { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ } [المائدة : 67]، { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ } [الأحزاب : 28]، ناداه نداءً فيه ذاك التوقير والإجلال واللفت لجليل قدره وعظيم مكانته عليه الصلاة السلام.

في قبس الرسل والأنبياء عندما يقول الكافرون بهم والمعاندون لهم مقولاتهم الباطلة يردون ويفندون: { يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ } [الأعراف : 61]، لكن لما جاءت الشبه ولما جاءت الافتراءات التي قصها القرآن على لسان من كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم جاء الرد بقول الحق سبحانه وتعالى فهو الذي رد عن رسوله عليه الصلاة والسلام: { وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ } [الحاقة : 41]، { وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ } [التكوير : 24]، { وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ } [التكوير : 22].

الله جل وعلا هو الذي يرد ويذبُّ عن رسوله صلى الله عليه وسلم، انظروا إلى الاقتران المتكرر في القرآن في أجلّ الأمور وهو الإيمان: { فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ } [الأعراف : 158]، { مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } [النساء : 80]، { إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ } [الفتح : 10]، أي قدر أعظم! أي مكانة أجل وأشرف من مثل هذه الدلالات الواضحة في هذه الآيات!
وانظر إلى ما هو متعلق بنا وبسائر أتباع الأنبياء في الأمم من قبلنا، تأملوا أيها الإخوة الكرام وجهاً من وجوه العظمة لا ينقضي العجب من تأمله، وتنبهر به القلوب المؤمنة وتعجب من عظمته وجلاله النفوس المسلمة عندما يخاطب الحق سبحانه وتعالى الخليل إبراهيم: { إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ }[آل عمران : 68] وهذا النبي هو أولى باتباع إبراهيم الخليل عليه السلام، وهو القائل صلى الله عليه وسلم: (أنا أولى بعيسى بن مريم في الدنيا والآخرة)، وهو القائل: (أنا أحق بموسى منهم)، والله جل وعلا خاطبنا نحن معاشر المسلمين المؤمنين برسول الله صلى الله عليه وسلم أتباع محمد عليه الصلاة والسلام، فقال: { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ } [الأحزاب : 6]، أولى بنا من أنفسنا، لماذا؟ لأن الله ببعثته هدانا، لأن الله بشريعته أصلح أحوالنا، لأن الله سبحانه وتعالى بما كرّمه وأجلّه وبما كان له من نصره غيّر أحوال كل هذه الدنيا وسائر هذه البشرية منذ بعثته وإلى أن تقوم الساعة، كل أحد في عنقه منّة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وفضلٌ عظيم جليل لرسول الهدى عليه الصلاة والسلام، ولذا نصلي عليه دائماً وأبدا؛ لأن تلك الصلاة بعض حقه الذي نذكر به جلال قدره والذي نوفي له بعض حقه علينا.

ومن هنا ندرك عظمة ذلك عندما نتأمل حديث النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: (ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة، اقرؤوا إن شئتم: { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ } [الأحزاب : 6]).
وتأملوا ذلك في آية واضحة صريحة الله جل وعلا امتن علينا وعلى البشرية كلها ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم: { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ }[آل عمران : 164]، تأمل! تفكّر! كيف حال البشرية كلها؟! كيف حالكم أنتم أيها المسلمون يا أتباع محمد صلى الله عليه وسلم لو لم يمنّ الله على البشرية بخاتم الأنبياء والمرسلين؟! بأبي هو وأمي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

سبحان الله كل هذه العظمة ربما لو وقفنا أمام مشهد آخر، ربما نرى أنه أجلّ وأعظم منها كلها؛ لأنه مشهد أكاد أجزم أن كل من يتأمل فيه سيداخله في قلبه عظمة وروعة وإجلال ورهبة وهيبة عظيمة يوم القيامة والناس في الحشر في الموقف الصعب في الهول العظيم في الكرب الذي ليس مثله كرب، يفزع البشر والخلائق إلى آدم يطلبون شفاعته عند ربه ليقضي بينهم ويفصل بين الخلق فيقول: (لست لها، لست لها) إلى إبراهيم إلى موسى إلى عيسى حتى تنتهي الخلائق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: (أنا لها، أنا لها)، ويسجد بين يدي العرش، فيفتح الله عليه محامد لم يفتحها على أحد من قبله، ثم يقول الحق جلا وعلا: (ارفع رأسك وسل تعطه، واشفع تشفع)، فيشفع في أهل الموقف كلهم أجمعين وفي الخلائق الأولين والآخرين، هل ثمة عظمة وجلال يمكن أن يصور أو أن نعرف عنه كما يكون في هذا الموقف العظيم الذي ندعو به لرسولنا صلى الله عليه وسلم في عقب كل أذان والذي ذكر في القرآن بالمقام المحمود للمصطفى النبي العدنان عليه الصلاة والسلام.
موقف لا أحسب أن أحداً يمكن أن يقول إن وصفاً أو إن مدحاً أو إن ثناءً أو إن مكانة يمكن أن تكون قريبة من ذلك أو مشابهة له بحال من الأحوال.

ولو أردنا أن نرى ما هو أعظم من ذلك كله من وجهة نظري على أقل تقدير، رغم كل جلال ما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طويت ذكره من أمور المعجزات من انشقاق القمر ومن تنبيهه بأخبار من أخبار الغيب في أحوال معينة ومن تفجر الماء بين يديه، فإن أعظم ما هو أعظم من ذلك دعوته صلى الله عليه وسلم، هدايته للخلق، جهده العظيم الذي لم يكن ولن يكون له مثيل، منذ: { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } [العلق : 1]، منذ التكليف الذي تنزل عليه: { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ } [المدثر: 1 ، 2] إلى: { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } [الحجر : 99]، فقام ولم يقعد، وتكلم ولم يسكت، وجاهد ولم يكسل، وبلّغ دعوة الله عز وجل بصورة فريدة صوّرها القرآن: { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا } [الكهف : 6]، أي لعلك يا محمد تهلك نفسك حسرة وحزناً على من كفر وعلى من ضل؛ لأنك تريد إيمانهم وهدايتهم.

وحسبنا في تصوير ذلك التصوير الأبلغ قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد ناراً فجعل الفراش والهوام يقعن فيها وجعل يذبهن عنها فأنا آخذ بحجزكم عن النار)، كأن الناس إلى النار ورسول الهدى والرحمة يأخذ بهم ويرجعهم ويمنعهم ويحفظهم؛ لأنه يريد الخير لهم: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } [الأنبياء : 107].
هذا غيض من فيضٍ ولكن المعجزة الحقيقية هي أولئك النفر الذين دعاهم فآمنوا، وعلّمهم فصاروا أئمة وربّاهم فصاروا قدوات،
هل تطلبون من المختار معجزة *** يكفيه شعب من الأجداث أحياه

أحيا عقولاً كانت ضلت فهداها الله به، ونفوساً كانت قد تكدّرت وأسنت فطهرها الله به، وأخلاقاً كانت فسدت وانحرفت فقوّمها الله به، وأمة كانت قد تحاربت وتصارعت فألّف الله بينها به: { وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ } [الأنفال : 63]، معجزة النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الكم الهائل من هديه الذي بين يدينا من أحاديثه التي لا تغادر صغيرة ولا كبيرة من أمور حياتنا إلا ونجد فيها له إرشادا وهدياً وتوجيهاً وسنة تتبع، ولذلك كما يقولون ولد رسول الهدى صلى الله عليه وسلم في رابعة النهار، نحن نعرف عنه أكثر مما نعرف عن أنفسنا، طويت صفحات طفولتنا وغابت من ذاكرتنا كثير من المواقف في حياتنا، وحياة نبينا صلى الله عليه وسلم نراها رأي العين في يقظته في منامه في حله في ترحاله في سلمه في حربه مع زوجه مع أبنائه مع أصدقائه في كل صغيرة وكبيرة، عظمة لا منتهى لها.

ولذا كانت هذه العظمة في حقيقة الأمر عظمة إيمان بنبوته وعظمة محبة قلبية لشخصيته وسيرته، وعظمة اتباع واقتفاء واقتداء بهديه وسنته، وعظمة إجلال وتوقير وتعظيم لذكره ومقامه ورفعته صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم اقذف في قلوبنا محبة نبيك صلى الله عليه وسلم، وأملأ نفوسنا بتعزيره وتوقيره وتعظيمه، وسخّر اللهم جوارحنا لإتباع سنته واقتفاء أثره واجعلنا من أتباعه في الدنيا ومِن مَن يشفع فيهم في الآخرة.
 

الخطبة الثانية:

أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله فإنها أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه.
وإن من أدل دلائل الإيمان وأعظم شواهد التقوى تعظيم وإجلال رسول الله صلى الله عليه وسلم! فلا يذكر إلا مع الصلاة والسلام عليه، ولا يذكر إلا مع استحضار عظمته وجلاله، ولا يذكر إلا بكل توقير واحترام، هذا هو الذي أمرنا الله به في القرآن: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} [الحجرات:1- 2]

بعض الناس أحياناً تتحدث معه في أمر فيقول إنه سنّة وكأن هذه السنة كونها ليست واجباً ليس لها قدر ولا احترام، كأنها شيء لأي إنسان من الناس، كأنها فعل ذكر عن أي أحد، إن السنة هي فعل سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، إنها الأمر الذي يؤجر فاعله وهو الذي يحقق صورة نموذجية من اتباعك لرسولك صلى الله عليه وسلم.

كيف تكون متبعاً له ولا تتخلق بأخلاقه ولا تتحلى بآدابه، ولا تقتفي آثاره، ولا تتمسك بسنته، اجتهد وما قصرت فيه فاستغفر، وما لم تستطعه: { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [التغابن : 16]، لكن احذر أن يكون في كلامك أو موقفك تهوين من شأن السنة بحال من الأحوال؛ لأن في ذلك والعياذ بالله تهوين في قدر ومقام صاحب السنة عليه الصلاة والسلام.
والقرآن خاطب الأعراب في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فقال: { لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا } [النور : 63]، لا تدعوه باسمه عليه الصلاة والسلام بل بالنبوة اللائقة وبالصلاة اللاحقة بمقامه وقدره عليه الصلاة والسلام.

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ } [الحجرات : 2]، ثابت بن قيس خطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت الآية اعتزل مجلس النبي عليه الصلاة والسلام، تفقّده النبي صلى الله عليه وسلم وسأل عنه، ذهبوا إليه مالك انقطعت؟ قال: "إني امرؤ جهوري الصوت أخشى أن أتكلم بين يدي رسول الله فيرتفع صوتي فوق صوته فأهلك"، هكذا كان يرون التعظيم والإجلال!

عبدالله بن عمرو بن العاص عجز أن يصف رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما كنت أملأ عيني من النظر إليه هيبة وإجلالا" ما كان يستطيع أن ينظر إليه نظراً هكذا مباشراً محدقاً لجلال قدره لهيبته في نفوس أصحابه، وعمر بن الخطاب لما اختصم اثنان في مسجد النبي عليه الصلاة والسلام فعلت أصواتهما فأراد أن يعاقبهما قال: "من أين أنتما؟" قالا: من الطائف، قال: "لو كنتما من المدينة لأوجعتكما ضرباً، أترفعون أصواتكما بجوار قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم"، كأن الآية مستمرة: { لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ } لأن القلوب التي آمنت برسول الله صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً وعظّمت قدره وجلاله تجعل هيبته ومكانته في كل الأزمان؛ لأن ذكره باقٍ في القرآن، لأن هدايته ظاهرة في حياة بني الإنسان، لأننا نحن معاشر المسلمين لا ننفك لحظة في حياتنا إلا ونحن نذكر رسولنا صلى الله عليه وسلم، إذا ركبنا دابتنا، إذا دخلنا بيوتنا، إذا دخلنا مساجدنا، كل ذلك فيه ذكر عن رسولنا صلى الله عليه وسلم، ولذلك نعجب من المواقف ويضيق المقام عن ذكرها.

واختم بحديث أنسٍ رضي الله عنه وهو خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كانت بيوت النبي صلى الله عليه وسلم تقرع بالأظافر"، إذا قرعوا يقرعون قرعاً خفيفاً هيناً ليناً ليست عندهم نوع من المعاملة العادية بل معاملة الاحترام والإجلال العظيم.
ويؤسفنا ما قد جرى من آحاد قليلين لكن الأمر ينبغي التنبه له وهو ما اختم به.

أين نحن من تلقين وتعليم توقير الرسول صلى الله عليه وسلم لأبنائنا في بيوتنا؟ أين هذه الآيات؟ أين هذه الأحاديث؟ أين مواقف الأصحاب وهي كثيرة كثيرة كثيرة لا يمكن أن نحصرها ولا أن نأتي بشيء منها في هذا المقام؟ أين نحن من هذا في مناهج تعليمنا؟ في وسائل إعلامنا؟ في أمور حياتنا وسائر تحركات وتفاعلات مجتمعنا؟ لو أننا عنينا بذلك لما وجدنا ولا حالة واحدة من مثل هذه الحالات التي يضيق لها الصدر ويغتم لها القلب وتحتاج منا إلى مزيد من العناية والرعاية بهذا المقام الأسمى والمكان الأعلى والرتبة المنيفة والمكانة الشريفة لرسولنا صلى الله عليه وسلم.

المراجع

موسوعة اسلاميات

التصانيف

خطابة  خطب