بسم الله الرحمن الرحيم

 

هبَّ أهل الإيمان على بريد التوفيق مجيبين بلال العزم في سحر الأيام، فأما قلوبهم فمطمئنة بذكر ربهم، وأما ألسنتهم ففي زجل بمدح ربهم، وأما عيونهم فجارية بماء الحب، باعوا دماءهم من الله، فهم ينتظرون الذبح في سبيله، وأرخصوا أنفسهم في خدمته، فكل تعب في مرضاته راحة، وكل سهر في عبادته أنس، وكل جوع لأجله غنيمة.

إذا رأيت خدام الدنيا يلوحون بالدنانير الملس، ويتهافتون كالذئاب العلس، فراجع نفسك.

وإذا دعاك الناكثون في السهرات، الغافلون في الخلوات، المتثاقلون عن الطاعات، المتفلتون عن صلاة الجماعة، فراجع نفسك. !

 

إذا سمعت نغمة الوتر، وصولة أهل البطر، وجموح المترفين، واستفزاز المرجفين فالتوبةَ التوبةَ.

عندنا خير مما عندهم، حياتنا جد، وحياتهم هزل، ولايتهم في اضطراب، وولايتنا لا تقبل العزل، كلما كدنا نرضخ، صاح النذير: توبوا إلى الله.

 

أيها الأحبة، هل شممتم مسكاً أزكى من أنفاس التائبين؟ هل سمعتم بماء أعذب من دموع النادمين؟ هل رأيتم لباساً أجمل من لباس المحرومين؟ هل رأيتم زحفاً أقدس من زحف الطائفين؟

 

يا ساري البرق خذ بالله من خلدي ... دمـع المحبـة مجتـازاً إلى أضمِ

فالعين ساكبـة والطرف مكـتمل ... من السهاد وذو الأشواق لم ينم

 

يا مسلماً هل من ركعتين ودمعتين؟ فالحياة بلا ركوع دمار، والعمر بلا دموع خسار.

الحق الركب.. أدرك القافلة.. اركب معنا في سفينة النجاة..، حث الخطى، أسرع في السير علَّك أن تنجو من الهلاك.

 

منذ أن تستيقظ من النوم وأنت في مصارعة مع الشيطان، ومطاردة مع قرناء السوء من الدنيا، والهوى، والأمل الكاذب، والخيال المجنح.

 

افتح دفترك بعد الفجر، ونظم ساعات يومك الزم الصف الأول فهو رمز العهد والميثاق احفظ آية من القرآن أو آيتين أو ثلاث أو أكثر فذلك دليل الحب والرغبة، جدد التوبة والاستغفار فهما بريد القبول والدخول، واطلب علماً نافعاً تهتدي به إلى عمل صالح فذلك علامة الحظ السعيد، وصدقةُ لمسكينٍ,، وركعتان في السحر، وركعتان في الضحى زلفى إلى علام الغيوب، والزهد في الحطام الفاني، وطلب الباقي، شاهد على علو الهمة (أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب)

 

إشارات على الجسور

ما أحوجنا إلى جسور محبة تصل قلوب بعضنا ببعض، لنكون أمة واحدة، صادقة التوجه، قوية الإرادة، عالية الهمة، ولعلني أذكر إشارات على هذه الجسور:

1-اعتصامنا جميعا بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وأن يكون مقصد الجميع نصرة الدين وحماية الملة.

2-التسامح والعفو والغفران عن كل زلة ندت من أخ أو حصلت من صديق، كما قال بعض السلف لأخيه: غدا نتعاتب، فقال أخوه: بل غدا نتسامح.

3-احترام القدرات والتخصصات والمواهب، وعدم مصادرة جهود الآخرين والتهوين من شأنهم (قد علم كل أناس مشربهم).

4-توحيد عداوتنا وخصومتنا ضد أعداء الإسلام وقتلة الأنبياء، ومغتصبي المقدسات، ومن والاهم.

5-النظر إلى المسائل بربانية وعالمية، وإلغاء النظرة الضيقة المحدودة والاهتمام الصغير والهم التافه

6-العمل لله وليس للنفس والذات والأسرة والعشيرة والقبيلة،فلا يثيب ولايعاقب إلا الواحد الأحد (كل شيء هالك إلا وجهه).

7-النظر إلى الجانب المشرق في الفرد والجماعة، والتغاضي عن الزلات:

ليس الغبي بسيد في قومه... لكن سيد قومه المتغابي

8-التحاكم إلى الشرع عند الخلاف، وتحكيم الدليل عند التنازع، ونبذ الهوى والجور والانتصار للنفس.

9-الحذر من البغي الذي وقع فيه أهل الكتاب قبلناº فقد بغى بعضهم على بعض، وحسد بعضهم بعضا، فأهلكهم - عز وجل -.

10-إهمال من قصده برده التشفي لنفسه الأمارة، وهواه المطاع، وشيطانه المريد، وليس قصده الحق، فمثله يغفل ويتجاهل ويهمل.

 

أستغفر الله :

طلب الله من المكلَّفين أن يستغفروه بعد كل عمل صالح، فقال للرسول صلى الله عليه وسلم في آخر عمره: (إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً) [النصر: 1-3].

وقال - سبحانه وتعالى - للحجيج بعد أن قضوا مناسكهم وانتهوا من أعمال حجهم: (ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم) [البقرة: 199]. فواجبك، أخي المسلم: أن تعود إلى الملك العلاَّم، وأن تختم هذه الساعات القريبة الوجيزة التي بقيت من عمرك بالاستغفار والتوبة، لعل الله أن يقبلك فيمن قبل، وأن يعفو عنك فيمن عفا عنه، وأن يردَّك - سبحانه وتعالى - إليه. فإن الأنبياء، - عليهم السلام -، سلفاً وخلفاً، استغفروا الله - عز وجل - على حسناتهم وبرّهم وعلى صلاحهم.

قال - تعالى -على لسان نوح - عليه السلام - أنه قال لقومه: (فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً)[نوح: 10-12].

وقال آدم وزوجه لما أذنبا: (ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين) [الأعراف: 23].

وقال هود - عليه السلام - لقومه: (وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعاً حسناً إلى أجلٍ, مسمىً ويؤتِ كل ذي فضلٍ, فضله) [هود: 3].

وقال سليمان - عليه السلام -، وقد رأى ملكه، وجيشه: (رب اغفر لي وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحدٍ, من بعدي) [ص: 35].

وقال إبراهيم - عليه السلام -، في آخر عمره: (والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين) [الشعراء: 82].

والله - عز وجل - وعد المستغفرين، أن لا يأخذهم بنقمته في الدنيا إذا استغفروا الله فقال: (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون) [الأنفال: 33].

و نادى الله الناس جميعاً فقال: (قل يا عبادي الذي أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم) [الزمر: 53].

وقال مادحاً - سبحانه وتعالى - من استغفر يوم يذنب، ومن تاب يوم يسيء، ومن راجع حسابه من الحي القيوم فقال: (والذين إذا فعلوا فاحشةً أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين) [آل عمران: 135-136].

ومن صفات الله - عز وجل - الحسنى أنه (تواب رحيم ) [الحجرات: 12]، (وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفوا عن السيئات ويعلم ما تفعلون) [الشورى: 25].

وقال لبني إسرائيل: ( أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم ) [المائدة: 74].

وقال - سبحانه وتعالى - مخبراً أن من اجتنب الكبائر، غفر الله له الصغائر فقال: (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلاً كريماً)[النساء: 31].

وقال جلَّ ذكره: (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيماً) [النساء: 64].

وقال - سبحانه وتعالى -: (ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً) [النساء: 110].

فسبحان من بسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، وسبحان من بسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها.

والله يقول في الحديث القدسي: \"يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم\".

 

متى يتوب من لا يتوب الآن؟

ومتى يعود إلى الرحمن من لا يعود الآن؟

ومتى يراجع حسابه مع الواحد الديَّان من لا يراجع حسابه الآن؟ ينسلخ الشهر تلو الشهر، ولا يُنسى الذنب، ولا تسارع في فكاك رقبتك من النار. أليس من الحسرة والندامة أن يعفو الله عن مئات الألوف، ثم لا تكون منهم؟

فسارع، أخي، بفكاك رقبتك من النار، واغتنم كثرة الصلاة على المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، وكثرة التوبة والاستغفار، وبادر بالحسنات.

إذا عُلم ذلك، عباد الله، فأوصي نفسي، وإياكم بالتوبة النصوص وكثرة الاستغفار ورفع يد الضراعة إلى الحي القيوم، لعلَّ الله أن يغفر.

فوالله، ليس لنا من الأعمال ما نتقدَّم به إلى الله، فكل أعمالنا خطيئة وذنب، وكلنا فقر ومسكنة، وكلنا عجز وتقصير.

فنحن نخشى من أعمالنا أن يشوبها الرياء والسمعة فيبطلها الله. إن فعلنا من الحسنات فقد قابلها، - سبحانه وتعالى -، بنِعمٍ, مدرارة غزيرة لا نقوم بشكرها أبداً.

يظن بعضنا يوم يصلي ساعة، أو يقرأ ساعة، أو يذكر الله ساعة أنه فعل شيئاً عظيماً.

فأين ساعات النعيم؟ وأين ساعات الأكل والشرب؟ وأين ساعات اللهو واللعب؟

وأين ساعات الفرح، والمرح، والذهاب، والمجيء؟ فيا من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - نبيّاً.. الله، الله، في استغلال الأوقات بما ينفع عند علاّم الغيوب، لعل الله أن يختم لك بخير. فسبحان من بسط ميزان العدل للعادلين، وسبحان من نشر القبول للمقبولين، وسبحان من فتح باب التوبة للتائبين. فمن مُقبل ومُدبر، ومن سعيد وشقي، ومن تائب وخائب. فنسأل الذي بيده مفاتيح القلوب أن يفتح على قلوبنا وقلوبكم، وأن يعتق رقابنا ورقابكم من النار، وأن ينقذنا من عذاب جهنم، وأن يجعلنا ممن قَبِل صلاته، وصيامه، وقيامه، وذكره، وتلاوته.

ربَّنا وتقبَّل منَّا أحسن ما عملنا وتجاوز عن سيئاتنا في أصحاب الجنة، وعد الصدق الذي كانوا يوعدون.

والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.


المراجع

midad.com

التصانيف

فنون  أدب  أدب إسلامي  مجتمع