الفرد المخوصص



عن الاستقلال الذاتي في السياسة


كتبها كريم معروف ،


كورنيليوس كاستورياديس المتوفى في 26 ديسمبر 1997 فيلسوف ومحلل . وقد كان أحد أقوى وجوه الحياة الثقافية الفرنسية . يوناني المولد ، حل بباريس سنة 1945 ، حيث قام بتسيير مجلة " اشتراكية أو توحش " ، نشر في سنة 1968 ، بمعية إدغار موران و كلود لوفور في ماي 68 " لابريش " . وفي نهاية السبعينات ساهم في مجلة " حرٌ " ، وإلى جانب عمله الرئيس " التأسيس المتخيل للمجتـــــمع " ( 1975 ) ، ألف كتبا أخرى أساسية تم تجميعها في سلسلة انطلقت سنة 1978 تحت عنوان : " مفترق طرق المتاهة " .




لا تكون الفلسفة فلسفة إذا لم تكن تعبيرا عن فكر مستقل ذاتيا . فماذا تعني : " مستقل ذاتيا " ؟ .. إنها تعني auto nomos " ما يمنح لذاته قانونها الخاص " . ومن الواضح في الفلسفة أن منح الذات قانونها الخاص يعني طرح السؤال وعدم قبول أية سلطة حتى ولو كانت سلطة الفكرة السابقة لذات الفيلسوف .


هاهنا ، إضافة لذلك ، تكون نقطة الضعف هذه محرجة قليلا ؛ وذلك لأن الفلاسفة تقريبا دوما ، ينحتون أنسقة فلسفية مغلقة كانغلاق البيضة على ذاتها ( أنظر اسبينوزا ، وانظر على الخصوص إلى هيجل ، بل حتى إلى أرسطو وإن كان بشكل أقل ) ، أو يظلون متشبثين ببعض الصيغ التي خلقوها ولم يستطيعوا وضعها موضع التساؤل .


الأمثلة المغايرة هنا قليلة ، أفلاطون أحدها ، وفرويد مثال آخر عنها في مجال التحليل النفسي ، ولو أنه لم يكن فيلسوفا .


الاستقلال الذاتي في مجال الفكر هو مساءلة للذات لا تنتهي و لا تتوقف عند أي حد ، بل توضع هي ذاتها موضع تساؤل . وليست هذه المساءلة للذات مساءلة فارغة ؛ إذ أنه لا معنى للمساءلة الفارغة . وللحصول على مساءلة ذات معنى ، يجب أن نكون قبلا قد وضعنا عددا معينا من الحدود (= العبارات ـ الألفاظ ) ، باعتبارها لا تقبل الشك مؤقتا ، وإلا لظلت المساءلة علامة استفهام ولم تكن مساءلة فلسفية . إن المساءلة الفلسفية متمفصلة ، تنفصل لتعود إلى الانسحاب على الحدود التي تمفصلت انطلاقا منها .


فما معنى الاستقلال الذاتي في السياسة ؟ .. كل المجتمعات تقريبا ممأسسة في إطارتبعية وخضوع لإرادة الغير l’hétérémonie ، بمعنى في غياب الاستقلال الذاتي . وهذا معناه أنه ولو أنها تصنع كلها مؤسساتها بذاتها ، فإنها تدمج ضمن ومن خلال هذه المؤسسات الفكرة غير المتنازع فيها بالنسبة لأعضاء المجتمع ، وهي أن هذه المؤسسات ليست عملا أو إنجازا إنسانيا ، ، وأنها لم تصنع من طرف البشر ، وفي كل الأحوال لم تصنع من طرف الآدميين الذين يوجدون هنا في هذه اللحظة . إنها صنعت من طرف الأرواح والأسلاف والأبطال والآلهة ، ولكنها ليست صنعا آدميا .


وقد عرف هذا البنذ ضمنيا وحتى بشكل غير ضمني امتيازا هائلا في الديانة العبرية : فمسألة منح القانون لموسى من طرف الرب مسألة مكتوبة وموضحة ؛ وهناك صفحات وصفحات في العهد القديم تصف بتفصيل التقنين الذي منحه الله لموسى . لا يتعلق الأمر بالوصايا العشر وحدها ، بل بكل تفاصيل القانون . وكل أحكامه لا يمكن أن تكون موضع شك : فالشك فيها سيعني إما الشك في وجود الله أو في الصدق الإلهي ، أو في خيريته وعدالته ، في حين أن هذه الصفات هي صفات جوهرية لله . نفس الشيء ينطبق على المجتمعات الأخرى التابعة والخاضعة . والمثال العبري هنا مذكور بفعل صفائه الكلاسيكي .


لكن ، ما هي القطيعة الكبرى التي أحدثتها الديمقراطية اليونانية على شكل صيغة أولى ، ثم أحدثتها على شكل صيغة أخرى أكثر رحابة وأكثر تعميما ثورات العصور الحديثة والحركات الديمقراطية الثورية التي تلتها ؟ .. إنها بكل تحديد متمثلة في الوعي الصريح بأننا نصنع قوانيننا ، وإذن ، بأننا قادرون على تغييرها .


كل القوانين اليونانية القديمة تبدأ بالبنذ التالي" édoxé té boulé kai to démo " " لقد بدا خيرا للمجلس وللشعب " . " لقد بدا خيرا " وليس " إنه خير " ؛ أي ما بدا في تلك اللحظة . ولدينا في دساتير العصور الحديثة فكرة سيادة الشعب . مثلا ، يقول بيان حقوق الإنسان الفرنسي في ديباجته : " السيادة في ملك الشعب ، يمارسها إما مباشرة وإما بتوسط ممثليه " . وقد اختفت " إما مباشرة " هاته بعد ذلك وبقينا مع " ممثليه " فقط وحدهم .


4 ملايين دولار لتصير منتخبا




هناك إذن استقلال ذاتي سياسي ؛ ويفترض هذا الاستقلال الذاتي السياسي معرفة أن الناس يصنعون مؤسساتهم الخاصة . وهذا يتطلب أن نحاول وضع هذه المؤسسات عن بصيرة في إطار الشفافية ، بعد مداولة جماعية . وهذا ما أسميه الاستقلال الذاتي الجماعي الذي يعتبر الاستقلال الذاتي الفردي نظيره غير القابل للإلغاء .


لا يمكن أن يتشكل مجتمع مستقل ذاتيا إلا من أفراد مستقلين ذاتيا . و لا يمكن أن يوجد حقيقة أفراد مستقلون ذاتيا إلا في مجتمع مستقل ذاتيا .


لماذا هذا هكذا ؟ .. إن من السهولة بمكان فهم ذلك ؛ فالفرد المستقل ذاتيا هو فرد لا يأتي فعلا ، كلما أمكن ذلك ، إلا بعد تفكير وتداول . وإذا لم يتصرف بهذا الشكل ، فإنه لا يستطيع أن يكون فردا ديمقراطيا ينتمي إلى مجتمع ديمقراطي .


بأي معنى يعتبر الفرد المستقل ذاتيا في المجتمع الذي أتيت على وصفه فردا حرا ؟ .. وبأي معنى نحن أحرار اليــــوم ؟ ..


إن لدينا عددا معينا من الحريات تم اكتسابها كنتاجات أو نتاجات فرعية لصراعات الماضي الثورية . وليست هذه الحريات حريات صورية فقط كما قال عن خطأ كارل ماركس ؛ فأن نملك القدرة على الاجتماع وقول ما نريد ليس بأي حال من الأحوال حرية صورية . لكنها جزئية ، ودفاعية ، وحتى يستقيم القول منفعلة وليست فاعلة .


كيف يمكنني أن أكون حرا إذا كنت أحيا في مجتمع مسير بواسطة قانون مفروض على الجميع ؟ .. إن هذا يبدو كتناقض لا يهضم ، وهذا ما قاد كثيرين كماكس اشتاينر (2) على سبيل المثال إلى القول بأن هذا لا يمكن أن يكون موجودا ، كما أن آخرين تلوه كالفوضويين سيدعون أن المجتمع الحر يعني الاختفاء المطلق لأية سلطة ولأي قانون ، مع معنى ضمني مؤداه أن هناك طبيعة إنسانية خيّرة ستبرز إذ ذاك ، وستستطيع الاستغناء عن أية قاعدة خارجية . وهذه في رأيي طوباوية متهافتة .


بمستطاعي القول إنني حر في مجتمع خاضع لقوانين إذا كانت لديّ الإمكانية الفعلية ( وليس على الورق فقط ) للمشاركة في مناقشة ومداولة وصياغة هذه القوانين ، وهذا يعني أنه يجب أن تكون السلطة التشريعية فعليا في ملك الجماعة ، أي في ملك الشــعب .


وأخيرا ، فإن هذا الفرد المستقل ذاتيا هو أيضا الهدف الجوهري لتحليل نفسي مرتبط به ضرورة . وهنا نجدنا أمام إشكالية مغايرة نسبيا ؛ وذلك لأن كائنا إنسانيا ما هو كائن واع ظاهريا ، لكن هذا الكائن الإنساني يتمثل في أعين محلل نفسي في لاوعيه لا في وعيه ، لا لأنه غبي ، وإنما لأن هناك حاجزا يمنعه من معرفته (= الجانب اللاواعي ) هو حاجز الكبث .


نحن نولد مثلا كجواهرنفسية فردة تحيا في خضم الطاقة الهائلة التي لا تعرف حدودا أو لا تعترف بحدود لإشباع رغباتهـا ، والتي يتوجب أمامها على كل عائق أن ينمحي . ونحن ننتهي بأن نصبح أفرادا نقبل بوجود الآخرين أكثر مما نقبل بهذا الوجود على مضض ، غالبا ما نتمنى موتهم ( وهو ما لا يتحقق غالبا ) ، وكل هذا يحدث بفعل الكبث الذي يحيل كل هذه النزوعات النفسية العميقة على اللاوعي ، ويحتفظ منها في جزئها الأعظم بإبداعات الخيال الراديكالي .


يستلزم التحليل النفسي أن الفرد يُقاد ، عبر وسائل وآليات التحليل النفسي ، إلى اختراق حاجز اللاوعي هذا وسبر أغواره ما أمكن ، وإلى تخفيف اندفاعاته ( نبضاته ) اللاواعية ، وإلى عدم التصرف دون تفكير أو روية . إن هذا الفرد المستقل ذاتيا هو غاية سيرورات التحليل النفسي ( بمعنى الهدف أو النقطة النهائية ) .


لكننا إذا ما ربطنا ذلك بالشأن السياسي ، فمن البديهي أيضا أننا في حاجة إلى فرد مثل هذا ، لكنه بديهي أيضا أننا لا نستطيع إخضاع مجموع أفراد المجتمع للتحليل النفسي . ومن هنا الدور الأعظم للتربية وضرورة إصلاح راديكالي لها ، لنجعل منها paidai أداة حقيقية للاستقلال الذاتي ؛ تربية من أجل الاستقلال الذاتي وموجهة نحو هذا الاستقلال الذاتي الذي يقود أولئك الذين تربوا ــ وليس الأطفال وحدهم ــ نحو التساؤل باستمرار لمعرفة ما إذا كانوا يتصرفون عن معرفة أم بالأحرى منساقين وراء أهوائهم وأحكامهم المسبقة .


ليس الأطفال وحدهم [المعنيون بالتربية] ؛ وذلك لأن تربية فرد ما ، بالمعنى الديمقراطي ، هي مقاولة تبتدئ مع ولادة هذا الفرد و لا تنتهي إلا بموته . وكل ما يحدث خلال حياة الفرد يستمر في تشكيله وتشويهه . إن التربية الجوهرية التي يوفرها المجتمع المعاصر لأفراده في المدارس والإعداديات والثانويات والجامعات هي تربية أداتية ، مشكلة أساسا من أجل شغل منصب وظيفي . وإلى جانب هذه التربية ، هناك تربية أخرى ألا وهي الحماريات (= البلادة والغباء ) التي يبثها التلفزيون .


حول مسألة التمثيل السياسي كان جان جاك روسو يقول إن الإنجليز اعتقدوا في القرن 18 أنهم أحرار لأنهم يختارون ممثليهم كل خمسة أعوام . بالفعل هم أحرار ، لكن يوما واحدا خلال خمس سنوات . وروسو بقوله ذاك قلل دون وجه حق من قيمة هذه الحال التي عرضها ؛ لأنه من البديهي أنهم لم يكونوا أحرارا حتى خلال هذا اليوم من خمس سنوات . لماذا ؟ .. لأنه تم التصويت على مرشحين مقدمين من طرف أحزاب سياسية ، و لم يكن ممكنا التصويت على أي كان . وقد تم التصويت انطلاقا من وضعية واقعية بكاملها مصنوعة من طرف البرلمان السابق الذي طرح المشاكل باستخذام حدود بداخلها أمكن أن تكون هذه المشاكل قابلة للنقاش ، والذي فرض بنفس الوسيلة حلولا ، أو على الأقل بدائل للحلول التي لا تتطابق و لا تتلاءم تقريبا أبدا مع المشاكل الحقيقية .


عموما فإن التمثيلية تعني سلب الممثَّلين سيادتهم ومنحها للممثلين . إن البرلمان غير مراقب .إنه مراقب خلال خمس سنوات من خلال عملية انتخاب ، لكن الجزء الأعظم من الشخصيات السياسية هو عمليا غير قابل للعزل . وهذه الحال هي في فرنسا أقل نسبيا ، وفي أمكنة أخرى أكثر من ذلك ؛ فالسيناتورات في الولايات المتحدة على سبيل المثال هم بالفعل سيناتورات مدى الحياة ، وهذا ما سيحدث بفرنسا أيضا . ولكي يتم انتخابك بالولايات المتحدة تلزمك تقريبا 4 ملاييـن دولار . من ذا الذي سيمنحك هذه الملايين الأربعة ؟ .. ليس العاطلون على كل حال ، إنها الشركات . ولماذا تتبرع الشركات بهذه المبالغ الكبيرة ؟ .. لكي تضمن بعد ذلك قبول ورضا السيناتور على اللوبي الذي تشكله هذه الشركات بواشنطن ومن أجل ضمان التصويت على القوانين التي تستفيد منها ، لا التصويت على القوانين التي تعارض هذه الاستفادة . وهنا نحن أمام المسار التي ستسلكه مجبرة كل المجتمعات المعاصرة .


هذا ما نشهد تشكله بفرنسا رغم كل الإجراءات المزعومة المتخذة لمحاصرة وضبط الفساد . لقد تحول الفساد لدى المسؤولين السياسيين في المجتمعات المعاصرة إلى سمة بنيوية نسقية ، وليس مُزحة أنه مندمج ومنضو في طريقة اشتغال النسق الذي لا يمكن أن يشتغل بشكل آخر مغاير .


ما هو مستقبل مشروع الاستقلال الذاتي هذا ؟ .. إن هذا المستقبل يتوقف على نشاط الغالبية العظمى من الكائنات الإنسانية ؛ فلم يعد بالإمكان الحديث عن طبقة محظوظة هي البروليتاريا الصناعية مثلا ، والتي تحولت منذ أمد بعيد إلى أقلية صغيرة بداخل المجتمع . ويمكن القول بالمقابل ، وهو ما أقوله ، أن مجموع الساكنة ، ما عدا % 3 من المحظوظين في القمة ، ستكون لها مصلحة شخصية في التغيير الراديكالي للمجتمع الذي تعيش في كنفه .


لكن ما نلاحظه منذ خمسين سنة هو انتصار الدلالة المتخيلة الرأسمالية ، أي انتصارا لتوسع لامحدود لتحكم مزعوم عقلاني زعما ، وضمورا وتلاشيا للدلالة المتخيلة الأخرى للأزمنة المعاصرة ، ونعني بذلك غيابا للاستقلال الذاتي .


هل ستتسم هذه الوضعية بالدوام ؟ .. أم ستكون عابرة ؟ .. لا أحد يمكنه أن يجيب عن هذا السؤال ؛ إذ ليس هنالك أنبياء بخصوص أمثال هذه الموضوعات . يقينا أن المجتمع الحالي ليس مجتمعا ميتا ، إننا لا نعيش في بيزنطة أو بروما القرن الخامس ( ق.م ) ، فهناك دائما حركية ، هناك أفكار تنبثق وتتداول ، هناك ردود أفعال . لكنها تظل ناذرة وعبارة عن شذرات بالعلاقة مع المهام العظمى التي تنتظرنا . لكن ما أعتبره يقينيا هو أن الإحراج أو الإشكال الذي صغناه باستخذام عبارات ليون تروتسكي وروزا لوكسمبورغ وكارل ماركس أيام " اشتراكية أو توحش " لا زال محتفظا بمصداقيته ومشروعيته ، بشرط بديهي واضح وهو أن لا يتم خلط الاشتراكية بأشكال الرعب التوتاليتارية التي حولت روسيا إلى حقل من الأطلال ، و لا ب " التنظيم " فاقد المعنى للاقتصاد ، و لا بالاستغلال الجامح للناس ، و لا بالاستعباد الكلي للحياة العقلية والثقافية الذي تحقق في هذا الإطار .


التصويت من أجل شرٍّ أقل




لماذا تعتبر الوضعية الحالية وضعية غير آكدة تماما ؟ .. لأننا نرى أكثر فأكثر في العالم الغربي تبلور شاكلة من الأفراد لم تعد أبدا على شاكلة أفراد مجتمع ديمقراطي ، أو مجتمع يمكن بداخله ممارسة الصراع من أجل مزيد من الحرية ، وإنما هم نوع من الأفراد المخوصصين المنكمشين بداخل وسطهم الشخصي الضيق ، والذين صاروا لامبالين بالمقارنة مع ما هو سياسي .


عندما يصوت الناس ، فإنهم يصوتون بشكل يتسم باللامبالاة ، إنهم لا يؤمنون بالبرنامج المقدم لهم ، لكنهم يعتبرون أن س أو ص أدنى شرا بالمقارنة مع ما كانه ع في المدة السابقة . عديد من الأشخاص سيصوتون لا محالة لصالح ليونيل جوسبان (3) في الانتخابات القادمة ، لا لأنهم يعشقونه أو لأنه دوخهم بأفكاره ، سيكون مذهلا لو حدث ذلك ، وإنما ببساطة لأنهم ملوا الوضعية الحالية . نفس الشيء هو ما حدث سنة 1995 عندما تقزز الأفراد وبرموا من جراء 14 سنة من الاشتراكية المزعومة التي تمثل إنجازها المركزي في تبني الرأسمالية الأكثر جموحا بفرنسا ، والشروع في تقويض وهدم ما كان قائما بوصفه فتوحات اجتماعية في الفترة السابقة .


إن كل مجتمع يتمفصل دائما ، من وجهة نظر التنظيم السياسي ، ضمنيا أو صراحة انطلاقا من ثلاثة أجزاء : 1 ) ما كان يسميه الإغريق oikos ، أي " المنزل " ، الأسرة ، الحياة الخاصة . 2 ) ال " أغورا Agora " : المكان العمومي ـ الخاص ، حيث يلتقي الأفراد ويتناقشون أو يمارسون عمليات تبادل ، وحيث يكوِّنون جمعيات أو شركات ، وحيث تجرى العروض المسرحية ، الخاصة أو الممولة لا يهم . إن هذا هو ما نسميه منذ القرن 18 بلفظ مهيأ للخلط ، المجتمع المدني ، خلط تعمق في الآونة الأخيرة . 3 ) ال ecclesia ، المكان العمومي ـ العام ، السلطة ، المكان الذي تمارس فيه ، أو تتواجد به ، أو حيث السلطة موضوعة.


لا يجب أن تكون العلاقة بين هذه المكونات الثلاث قائمة بشكل ثابث وصلب ، بل يجب أن تكون مرنة متمفصلة . ومن جانب آخر ، لا تقبل هذه المكونات الثلاثة أن تكون منفصلة عن بعضها كلية .


تزعم الليبرالية الحالية أنه بالإمكان فصل المجال العمومي كلية عن المجال الخاص ، في حين أن ذلك مستحيل ، وزعم القدرة على تحقيق ذلك إنما هو كذبة ديماغوجية ؛ فليست هنالك ميزانية لا تتدخل في الحياة الخاصة العمومية ، بل حتى في الحياة الخاصة . وهذا ليس إلا مثالا من ضمن أمثلة أخرى . كما أنه ليس هنالك من سلطة غير ملزمة بسن حد أدنى من القوانين الزجرية ، تقرر على سبيل المثال أن القتل محرم ، أو أنه يتوجب في المجتمع المعاصر تمويل مجالي الصحة العمومية والتعليم . يجب أن ينوجد في هذا المجال نوع من أنواع اللعب في ما بين السلطة العمومية و L’Agora ، أي الجماعـة .


لا يمكننا محاولة إيجاد تمفصل سليم بين هذه المكونات الثلاثة إلا في إطار نظام ديمقراطي حقيقة ، تمفصل يحمي بالحد الأقصى الحرية الخاصة ، ويحمي أيضا بالحد الأقصى حرية الـ Agora ( الجماعة ) ، أي المناشط العمومية المشتركة للأفراد ، ويجعل الجميع يشارك في السلطة العمومية . في حين أن هذه السلطة العمومية هي في ملك أوليغارشية نشاطها سري بالفعل ، ما دامت الفرارات الأساسية والمصيرية تتخذ دائما وراء الكواليس .











الفرد المخوصص


عن الاستقلال الذاتي في السياسة
كتبها كريم معروف ،
كورنيليوس كاستورياديس المتوفى في 26 ديسمبر 1997 فيلسوف ومحلل . وقد كان أحد أقوى وجوه الحياة الثقافية الفرنسية . يوناني المولد ، حل بباريس سنة 1945 ، حيث قام بتسيير مجلة " اشتراكية أو توحش " ، نشر في سنة 1968 ، بمعية إدغار موران و كلود لوفور في ماي 68 " لابريش " . وفي نهاية السبعينات ساهم في مجلة " حرٌ " ، وإلى جانب عمله الرئيس " التأسيس المتخيل للمجتـــــمع " ( 1975 ) ، ألف كتبا أخرى أساسية تم تجميعها في سلسلة انطلقت سنة 1978 تحت عنوان : " مفترق طرق المتاهة " .
لا تكون الفلسفة فلسفة إذا لم تكن تعبيرا عن فكر مستقل ذاتيا . فماذا تعني : " مستقل ذاتيا " ؟ .. إنها تعني auto nomos " ما يمنح لذاته قانونها الخاص " . ومن الواضح في الفلسفة أن منح الذات قانونها الخاص يعني طرح السؤال وعدم قبول أية سلطة حتى ولو كانت سلطة الفكرة السابقة لذات الفيلسوف .
هاهنا ، إضافة لذلك ، تكون نقطة الضعف هذه محرجة قليلا ؛ وذلك لأن الفلاسفة تقريبا دوما ، ينحتون أنسقة فلسفية مغلقة كانغلاق البيضة على ذاتها ( أنظر اسبينوزا ، وانظر على الخصوص إلى هيجل ، بل حتى إلى أرسطو وإن كان بشكل أقل ) ، أو يظلون متشبثين ببعض الصيغ التي خلقوها ولم يستطيعوا وضعها موضع التساؤل .
الأمثلة المغايرة هنا قليلة ، أفلاطون أحدها ، وفرويد مثال آخر عنها في مجال التحليل النفسي ، ولو أنه لم يكن فيلسوفا .
الاستقلال الذاتي في مجال الفكر هو مساءلة للذات لا تنتهي و لا تتوقف عند أي حد ، بل توضع هي ذاتها موضع تساؤل . وليست هذه المساءلة للذات مساءلة فارغة ؛ إذ أنه لا معنى للمساءلة الفارغة . وللحصول على مساءلة ذات معنى ، يجب أن نكون قبلا قد وضعنا عددا معينا من الحدود (= العبارات ـ الألفاظ ) ، باعتبارها لا تقبل الشك مؤقتا ، وإلا لظلت المساءلة علامة استفهام ولم تكن مساءلة فلسفية . إن المساءلة الفلسفية متمفصلة ، تنفصل لتعود إلى الانسحاب على الحدود التي تمفصلت انطلاقا منها .
فما معنى الاستقلال الذاتي في السياسة ؟ .. كل المجتمعات تقريبا ممأسسة في إطارتبعية وخضوع لإرادة الغير l’hétérémonie ، بمعنى في غياب الاستقلال الذاتي . وهذا معناه أنه ولو أنها تصنع كلها مؤسساتها بذاتها ، فإنها تدمج ضمن ومن خلال هذه المؤسسات الفكرة غير المتنازع فيها بالنسبة لأعضاء المجتمع ، وهي أن هذه المؤسسات ليست عملا أو إنجازا إنسانيا ، ، وأنها لم تصنع من طرف البشر ، وفي كل الأحوال لم تصنع من طرف الآدميين الذين يوجدون هنا في هذه اللحظة . إنها صنعت من طرف الأرواح والأسلاف والأبطال والآلهة ، ولكنها ليست صنعا آدميا .
وقد عرف هذا البنذ ضمنيا وحتى بشكل غير ضمني امتيازا هائلا في الديانة العبرية : فمسألة منح القانون لموسى من طرف الرب مسألة مكتوبة وموضحة ؛ وهناك صفحات وصفحات في العهد القديم تصف بتفصيل التقنين الذي منحه الله لموسى . لا يتعلق الأمر بالوصايا العشر وحدها ، بل بكل تفاصيل القانون . وكل أحكامه لا يمكن أن تكون موضع شك : فالشك فيها سيعني إما الشك في وجود الله أو في الصدق الإلهي ، أو في خيريته وعدالته ، في حين أن هذه الصفات هي صفات جوهرية لله . نفس الشيء ينطبق على المجتمعات الأخرى التابعة والخاضعة . والمثال العبري هنا مذكور بفعل صفائه الكلاسيكي .
لكن ، ما هي القطيعة الكبرى التي أحدثتها الديمقراطية اليونانية على شكل صيغة أولى ، ثم أحدثتها على شكل صيغة أخرى أكثر رحابة وأكثر تعميما ثورات العصور الحديثة والحركات الديمقراطية الثورية التي تلتها ؟ .. إنها بكل تحديد متمثلة في الوعي الصريح بأننا نصنع قوانيننا ، وإذن ، بأننا قادرون على تغييرها .
كل القوانين اليونانية القديمة تبدأ بالبنذ التالي" édoxé té boulé kai to démo " " لقد بدا خيرا للمجلس وللشعب " . " لقد بدا خيرا " وليس " إنه خير " ؛ أي ما بدا في تلك اللحظة . ولدينا في دساتير العصور الحديثة فكرة سيادة الشعب . مثلا ، يقول بيان حقوق الإنسان الفرنسي في ديباجته : " السيادة في ملك الشعب ، يمارسها إما مباشرة وإما بتوسط ممثليه " . وقد اختفت " إما مباشرة " هاته بعد ذلك وبقينا مع " ممثليه " فقط وحدهم .

4 ملايين دولار لتصير منتخبا


هناك إذن استقلال ذاتي سياسي ؛ ويفترض هذا الاستقلال الذاتي السياسي معرفة أن الناس يصنعون مؤسساتهم الخاصة . وهذا يتطلب أن نحاول وضع هذه المؤسسات عن بصيرة في إطار الشفافية ، بعد مداولة جماعية . وهذا ما أسميه الاستقلال الذاتي الجماعي الذي يعتبر الاستقلال الذاتي الفردي نظيره غير القابل للإلغاء .
لا يمكن أن يتشكل مجتمع مستقل ذاتيا إلا من أفراد مستقلين ذاتيا . و لا يمكن أن يوجد حقيقة أفراد مستقلون ذاتيا إلا في مجتمع مستقل ذاتيا .
لماذا هذا هكذا ؟ .. إن من السهولة بمكان فهم ذلك ؛ فالفرد المستقل ذاتيا هو فرد لا يأتي فعلا ، كلما أمكن ذلك ، إلا بعد تفكير وتداول . وإذا لم يتصرف بهذا الشكل ، فإنه لا يستطيع أن يكون فردا ديمقراطيا ينتمي إلى مجتمع ديمقراطي .
بأي معنى يعتبر الفرد المستقل ذاتيا في المجتمع الذي أتيت على وصفه فردا حرا ؟ .. وبأي معنى نحن أحرار اليــــوم ؟ ..
إن لدينا عددا معينا من الحريات تم اكتسابها كنتاجات أو نتاجات فرعية لصراعات الماضي الثورية . وليست هذه الحريات حريات صورية فقط كما قال عن خطأ كارل ماركس ؛ فأن نملك القدرة على الاجتماع وقول ما نريد ليس بأي حال من الأحوال حرية صورية . لكنها جزئية ، ودفاعية ، وحتى يستقيم القول منفعلة وليست فاعلة .
كيف يمكنني أن أكون حرا إذا كنت أحيا في مجتمع مسير بواسطة قانون مفروض على الجميع ؟ .. إن هذا يبدو كتناقض لا يهضم ، وهذا ما قاد كثيرين كماكس اشتاينر (2) على سبيل المثال إلى القول بأن هذا لا يمكن أن يكون موجودا ، كما أن آخرين تلوه كالفوضويين سيدعون أن المجتمع الحر يعني الاختفاء المطلق لأية سلطة ولأي قانون ، مع معنى ضمني مؤداه أن هناك طبيعة إنسانية خيّرة ستبرز إذ ذاك ، وستستطيع الاستغناء عن أية قاعدة خارجية . وهذه في رأيي طوباوية متهافتة .
بمستطاعي القول إنني حر في مجتمع خاضع لقوانين إذا كانت لديّ الإمكانية الفعلية ( وليس على الورق فقط ) للمشاركة في مناقشة ومداولة وصياغة هذه القوانين ، وهذا يعني أنه يجب أن تكون السلطة التشريعية فعليا في ملك الجماعة ، أي في ملك الشــعب .
وأخيرا ، فإن هذا الفرد المستقل ذاتيا هو أيضا الهدف الجوهري لتحليل نفسي مرتبط به ضرورة . وهنا نجدنا أمام إشكالية مغايرة نسبيا ؛ وذلك لأن كائنا إنسانيا ما هو كائن واع ظاهريا ، لكن هذا الكائن الإنساني يتمثل في أعين محلل نفسي في لاوعيه لا في وعيه ، لا لأنه غبي ، وإنما لأن هناك حاجزا يمنعه من معرفته (= الجانب اللاواعي ) هو حاجز الكبث .
نحن نولد مثلا كجواهرنفسية فردة تحيا في خضم الطاقة الهائلة التي لا تعرف حدودا أو لا تعترف بحدود لإشباع رغباتهـا ، والتي يتوجب أمامها على كل عائق أن ينمحي . ونحن ننتهي بأن نصبح أفرادا نقبل بوجود الآخرين أكثر مما نقبل بهذا الوجود على مضض ، غالبا ما نتمنى موتهم ( وهو ما لا يتحقق غالبا ) ، وكل هذا يحدث بفعل الكبث الذي يحيل كل هذه النزوعات النفسية العميقة على اللاوعي ، ويحتفظ منها في جزئها الأعظم بإبداعات الخيال الراديكالي .
يستلزم التحليل النفسي أن الفرد يُقاد ، عبر وسائل وآليات التحليل النفسي ، إلى اختراق حاجز اللاوعي هذا وسبر أغواره ما أمكن ، وإلى تخفيف اندفاعاته ( نبضاته ) اللاواعية ، وإلى عدم التصرف دون تفكير أو روية . إن هذا الفرد المستقل ذاتيا هو غاية سيرورات التحليل النفسي ( بمعنى الهدف أو النقطة النهائية ) .
لكننا إذا ما ربطنا ذلك بالشأن السياسي ، فمن البديهي أيضا أننا في حاجة إلى فرد مثل هذا ، لكنه بديهي أيضا أننا لا نستطيع إخضاع مجموع أفراد المجتمع للتحليل النفسي . ومن هنا الدور الأعظم للتربية وضرورة إصلاح راديكالي لها ، لنجعل منها paidai أداة حقيقية للاستقلال الذاتي ؛ تربية من أجل الاستقلال الذاتي وموجهة نحو هذا الاستقلال الذاتي الذي يقود أولئك الذين تربوا ــ وليس الأطفال وحدهم ــ نحو التساؤل باستمرار لمعرفة ما إذا كانوا يتصرفون عن معرفة أم بالأحرى منساقين وراء أهوائهم وأحكامهم المسبقة .
ليس الأطفال وحدهم [المعنيون بالتربية] ؛ وذلك لأن تربية فرد ما ، بالمعنى الديمقراطي ، هي مقاولة تبتدئ مع ولادة هذا الفرد و لا تنتهي إلا بموته . وكل ما يحدث خلال حياة الفرد يستمر في تشكيله وتشويهه . إن التربية الجوهرية التي يوفرها المجتمع المعاصر لأفراده في المدارس والإعداديات والثانويات والجامعات هي تربية أداتية ، مشكلة أساسا من أجل شغل منصب وظيفي . وإلى جانب هذه التربية ، هناك تربية أخرى ألا وهي الحماريات (= البلادة والغباء ) التي يبثها التلفزيون .
حول مسألة التمثيل السياسي كان جان جاك روسو يقول إن الإنجليز اعتقدوا في القرن 18 أنهم أحرار لأنهم يختارون ممثليهم كل خمسة أعوام . بالفعل هم أحرار ، لكن يوما واحدا خلال خمس سنوات . وروسو بقوله ذاك قلل دون وجه حق من قيمة هذه الحال التي عرضها ؛ لأنه من البديهي أنهم لم يكونوا أحرارا حتى خلال هذا اليوم من خمس سنوات . لماذا ؟ .. لأنه تم التصويت على مرشحين مقدمين من طرف أحزاب سياسية ، و لم يكن ممكنا التصويت على أي كان . وقد تم التصويت انطلاقا من وضعية واقعية بكاملها مصنوعة من طرف البرلمان السابق الذي طرح المشاكل باستخذام حدود بداخلها أمكن أن تكون هذه المشاكل قابلة للنقاش ، والذي فرض بنفس الوسيلة حلولا ، أو على الأقل بدائل للحلول التي لا تتطابق و لا تتلاءم تقريبا أبدا مع المشاكل الحقيقية .
عموما فإن التمثيلية تعني سلب الممثَّلين سيادتهم ومنحها للممثلين . إن البرلمان غير مراقب .إنه مراقب خلال خمس سنوات من خلال عملية انتخاب ، لكن الجزء الأعظم من الشخصيات السياسية هو عمليا غير قابل للعزل . وهذه الحال هي في فرنسا أقل نسبيا ، وفي أمكنة أخرى أكثر من ذلك ؛ فالسيناتورات في الولايات المتحدة على سبيل المثال هم بالفعل سيناتورات مدى الحياة ، وهذا ما سيحدث بفرنسا أيضا . ولكي يتم انتخابك بالولايات المتحدة تلزمك تقريبا 4 ملاييـن دولار . من ذا الذي سيمنحك هذه الملايين الأربعة ؟ .. ليس العاطلون على كل حال ، إنها الشركات . ولماذا تتبرع الشركات بهذه المبالغ الكبيرة ؟ .. لكي تضمن بعد ذلك قبول ورضا السيناتور على اللوبي الذي تشكله هذه الشركات بواشنطن ومن أجل ضمان التصويت على القوانين التي تستفيد منها ، لا التصويت على القوانين التي تعارض هذه الاستفادة . وهنا نحن أمام المسار التي ستسلكه مجبرة كل المجتمعات المعاصرة .
هذا ما نشهد تشكله بفرنسا رغم كل الإجراءات المزعومة المتخذة لمحاصرة وضبط الفساد . لقد تحول الفساد لدى المسؤولين السياسيين في المجتمعات المعاصرة إلى سمة بنيوية نسقية ، وليس مُزحة أنه مندمج ومنضو في طريقة اشتغال النسق الذي لا يمكن أن يشتغل بشكل آخر مغاير .
ما هو مستقبل مشروع الاستقلال الذاتي هذا ؟ .. إن هذا المستقبل يتوقف على نشاط الغالبية العظمى من الكائنات الإنسانية ؛ فلم يعد بالإمكان الحديث عن طبقة محظوظة هي البروليتاريا الصناعية مثلا ، والتي تحولت منذ أمد بعيد إلى أقلية صغيرة بداخل المجتمع . ويمكن القول بالمقابل ، وهو ما أقوله ، أن مجموع الساكنة ، ما عدا % 3 من المحظوظين في القمة ، ستكون لها مصلحة شخصية في التغيير الراديكالي للمجتمع الذي تعيش في كنفه .
لكن ما نلاحظه منذ خمسين سنة هو انتصار الدلالة المتخيلة الرأسمالية ، أي انتصارا لتوسع لامحدود لتحكم مزعوم عقلاني زعما ، وضمورا وتلاشيا للدلالة المتخيلة الأخرى للأزمنة المعاصرة ، ونعني بذلك غيابا للاستقلال الذاتي .
هل ستتسم هذه الوضعية بالدوام ؟ .. أم ستكون عابرة ؟ .. لا أحد يمكنه أن يجيب عن هذا السؤال ؛ إذ ليس هنالك أنبياء بخصوص أمثال هذه الموضوعات . يقينا أن المجتمع الحالي ليس مجتمعا ميتا ، إننا لا نعيش في بيزنطة أو بروما القرن الخامس ( ق.م ) ، فهناك دائما حركية ، هناك أفكار تنبثق وتتداول ، هناك ردود أفعال . لكنها تظل ناذرة وعبارة عن شذرات بالعلاقة مع المهام العظمى التي تنتظرنا . لكن ما أعتبره يقينيا هو أن الإحراج أو الإشكال الذي صغناه باستخذام عبارات ليون تروتسكي وروزا لوكسمبورغ وكارل ماركس أيام " اشتراكية أو توحش " لا زال محتفظا بمصداقيته ومشروعيته ، بشرط بديهي واضح وهو أن لا يتم خلط الاشتراكية بأشكال الرعب التوتاليتارية التي حولت روسيا إلى حقل من الأطلال ، و لا ب " التنظيم " فاقد المعنى للاقتصاد ، و لا بالاستغلال الجامح للناس ، و لا بالاستعباد الكلي للحياة العقلية والثقافية الذي تحقق في هذا الإطار .

التصويت من أجل شرٍّ أقل


لماذا تعتبر الوضعية الحالية وضعية غير آكدة تماما ؟ .. لأننا نرى أكثر فأكثر في العالم الغربي تبلور شاكلة من الأفراد لم تعد أبدا على شاكلة أفراد مجتمع ديمقراطي ، أو مجتمع يمكن بداخله ممارسة الصراع من أجل مزيد من الحرية ، وإنما هم نوع من الأفراد المخوصصين المنكمشين بداخل وسطهم الشخصي الضيق ، والذين صاروا لامبالين بالمقارنة مع ما هو سياسي .
عندما يصوت الناس ، فإنهم يصوتون بشكل يتسم باللامبالاة ، إنهم لا يؤمنون بالبرنامج المقدم لهم ، لكنهم يعتبرون أن س أو ص أدنى شرا بالمقارنة مع ما كانه ع في المدة السابقة . عديد من الأشخاص سيصوتون لا محالة لصالح ليونيل جوسبان (3) في الانتخابات القادمة ، لا لأنهم يعشقونه أو لأنه دوخهم بأفكاره ، سيكون مذهلا لو حدث ذلك ، وإنما ببساطة لأنهم ملوا الوضعية الحالية . نفس الشيء هو ما حدث سنة 1995 عندما تقزز الأفراد وبرموا من جراء 14 سنة من الاشتراكية المزعومة التي تمثل إنجازها المركزي في تبني الرأسمالية الأكثر جموحا بفرنسا ، والشروع في تقويض وهدم ما كان قائما بوصفه فتوحات اجتماعية في الفترة السابقة .
إن كل مجتمع يتمفصل دائما ، من وجهة نظر التنظيم السياسي ، ضمنيا أو صراحة انطلاقا من ثلاثة أجزاء : 1 ) ما كان يسميه الإغريق oikos ، أي " المنزل " ، الأسرة ، الحياة الخاصة . 2 ) ال " أغورا Agora " : المكان العمومي ـ الخاص ، حيث يلتقي الأفراد ويتناقشون أو يمارسون عمليات تبادل ، وحيث يكوِّنون جمعيات أو شركات ، وحيث تجرى العروض المسرحية ، الخاصة أو الممولة لا يهم . إن هذا هو ما نسميه منذ القرن 18 بلفظ مهيأ للخلط ، المجتمع المدني ، خلط تعمق في الآونة الأخيرة . 3 ) ال ecclesia ، المكان العمومي ـ العام ، السلطة ، المكان الذي تمارس فيه ، أو تتواجد به ، أو حيث السلطة موضوعة.
لا يجب أن تكون العلاقة بين هذه المكونات الثلاث قائمة بشكل ثابث وصلب ، بل يجب أن تكون مرنة متمفصلة . ومن جانب آخر ، لا تقبل هذه المكونات الثلاثة أن تكون منفصلة عن بعضها كلية .
تزعم الليبرالية الحالية أنه بالإمكان فصل المجال العمومي كلية عن المجال الخاص ، في حين أن ذلك مستحيل ، وزعم القدرة على تحقيق ذلك إنما هو كذبة ديماغوجية ؛ فليست هنالك ميزانية لا تتدخل في الحياة الخاصة العمومية ، بل حتى في الحياة الخاصة . وهذا ليس إلا مثالا من ضمن أمثلة أخرى . كما أنه ليس هنالك من سلطة غير ملزمة بسن حد أدنى من القوانين الزجرية ، تقرر على سبيل المثال أن القتل محرم ، أو أنه يتوجب في المجتمع المعاصر تمويل مجالي الصحة العمومية والتعليم . يجب أن ينوجد في هذا المجال نوع من أنواع اللعب في ما بين السلطة العمومية و L’Agora ، أي الجماعـة .
لا يمكننا محاولة إيجاد تمفصل سليم بين هذه المكونات الثلاثة إلا في إطار نظام ديمقراطي حقيقة ، تمفصل يحمي بالحد الأقصى الحرية الخاصة ، ويحمي أيضا بالحد الأقصى حرية الـ Agora ( الجماعة ) ، أي المناشط العمومية المشتركة للأفراد ، ويجعل الجميع يشارك في السلطة العمومية . في حين أن هذه السلطة العمومية هي في ملك أوليغارشية نشاطها سري بالفعل ، ما دامت الفرارات الأساسية والمصيرية تتخذ دائما وراء الكواليس .



المراجع

الفرد_المخوصص

التصانيف

فلسفة  فلسفة