اليازجي (ناصيف ـ)
(1215ـ 1288هـ/1800ـ 1871م)
ناصيف بن عبد الله بن ناصيف بن جنبلاط بن سعد اليازجي اللبناني المولد الحمصيُّ الأصل نسبة إلى حمص في سورية، أديبٌ شاعرٌ من كبار أدباء عصره، ومصنِّف لغويٌّ بارعٌ، وُلِدَ في كفر شيما بلبنان.
هاجر جدُّه سعد من حمص سنة 1690م، فتوطَّن ساحل لبنان في الجهة المعروفة بالغرب، ينتمي إلى عشيرةٍ عظيمةٍ ذاتِ وجاهة ويسار.
تلقَّى القراءةَ والكتابة على راهبٍ في ناحيته يقال له: القس متَّى، وكان أبوه طبيباً مشهوراً وأديباً شاعراً مُقِلاًّ، فنشأ ناصيف على حبِّ الأدب، وأقبل على حفظ الشِّعر والمطالعة والدَّرس وتصفَّح كثيراً ممَّا وصل إلى يديه من كتب النَّحو واللُّغة والأدب ودواوين الشُّعراء، ونظم الشِّعر وهو ابن عشر سنين.
اتَّصل بالأمير بشير الشهابي، فقَّربه وجعله كاتب يده، فلبث في خدمته قرابة اثنتي عشرة سنة إلى سنة 1840م، ثمَّ انقطع بعدها للتَّأليف والتَّدريس في بعض مدارس بيروت، وبلغ من كل علم في العربيَّة لبابه، فوضع مصنَّفاتٍ مشهورةً بين مختصرٍ ومطوَّلٍ كانت عُمدةً في التَّدريس في أكثر المدارس السُّوريَّة والمصريَّة مدَّةً.
صرفَ ناصيف جلَّ اهتمامه إلى خدمة العربيَّة، فصنَّفَ المتونَ المبسَّطةَ لتعليم الناشئةِ اللُّغة العربيَّة نحوَها وصرفَها وفنونَ بلاغتها، وله في ذلك كتب جليلة منها: «فصل الخطاب في أصول لغة الإعراب» في قواعد اللُّغة العربيَّة و«الجوهر الفرد» في فنِّ الصَّـرف و« نار القِرى في شـرح جوفِ الفَرا» وهو في النَّحـو و«مختارات اللُّغة»، وله أرجوزتان مطوَّلتان في البيان هما «عقد الجمان» و«الطراز المعلم»، وله في العروض والقافية «نقطة الدَّائرة»؛ وهي ملحقٌ بكتاب «عقد الجمان»، وله «معجم القَطيفةِ في أسماء أعضاء الإنسان وما يتعلَّق بها والصِّفات الجارية عليه»، واهتمَّ بعلم الطِّبِّ، وأخذه عن أبيه، وله فيه أرجوزة سمَّاها «الحجر الكريم»، وشرع قبل وفاته بمدَّة في وضع شرح لديوان المتنبِّي «العُرف الطيِّب في شرح ديوان أبي الطيِّب»، لكنَّه لم يسـتوفه، ووضع في الأدب «مجموع الأدب في فنون العرب» و«فاكهة النُّدماء في مراسلات الأدباء»، وكلُّها مطبوعة.
حاكى الحريريَّ في مقاماته فصنَّف في هذا الفنِّ كتابَه «مجمع البحرين»، وهو في ستِّين مقامة تامَّة، بعضها على البلدان (المقامة الحجازيَّة، المقامة الشاميَّة، المقامة الصَّعيديَّة، المقامة اليمنيَّة، المقامة البغداديَّة، المقامة الحلبيَّة…)، وبعضها على الأمكنة (المقامة البحريَّة، المقامة البدويَّة، المقامة السَّاحليَّة، المقامة الفراتيَّة،…)، وبعضها على القبائل (المقامة العدنانيَّة، المقامة الطائيَّة، المقامة الحِميريَّة، المقامة المُضريَّة…)، وبعضها على الفنون والعلوم (المقامة الفلكيَّة، المقامة الطبيَّة، المقامة الأدبيَّة…)، وهذه المقامات في جملتها تقدِّم للقارئ المتعة والفائدة ولاسيَّما من حيث مخزونُها اللغويُّ الثَّري، وفيها كثيرٌ من شعر ناصيف اليازجي مما نظمه لتعليم العربيَّة وفنونها وآدابها.
وما نظمه ناصيف في مقاماته من شعر أغفلَ بعضُ النُّقاد فيه غرضَ التَّعليم، ولذلك عابوا عليه ذوقَه في النَّظم، وفي ذلك مبالغةٌ في إنكار فضله ونشاطه في تقديم العربيَّة للنَّاشئة في مطلع عصر النَّهضة العربيَّة بوصفه واحداً من رِجالاتها، وممَّا يُذكر مثالاً لهذا النَّهج اللُّغويِّ في مقاماته قوله في «المقامة الحِميريَّة»:
«قال: وهل تُبلِّغنا الوَطر من ترتيب المطر؟ قال: لبَّيك! فَخُذْ ما يُلقى إليك. وأنشد:
أوَّلُ قَطْرِ الغيثِ حينَ يُنْثَرُ
طَلٌّ، وبعدَهُ الرَّذاذُ يَقْطُرُ
وبعدَ ذاكَ النَّضْحُ ثمَّ الهَطْلُ
وبَعْدَهُنَّ الوابِلُ المُنْهَــلُّ».
ومنها في أسماء العَسْكَرِ في «المقامة الطائية»:
«قال: وهل تعرفُ ما يُذكر من ترتيب جماعاتِ العَسْكر؟ فروَّأ [تأمّل] ريثما تفكَّر، ثمَّ أنشد:
أقلُّ جَمْعِ العَسْكَرِ الجريدَةْ وبعـدَها السَّرِيَّةُ المَزِيْدَةْ
وفوقَها كَتيبـــةٌ تميسُ فالجيشُ فالفَيْلَقُ فالخَمِيْسُ
وكذلك نظمَ أسماءَ صِغارِ الحيوان وأسماءَ البروج و أسماءَ رجالِ العرب ممَّن ضُرِبَتْ بهم الأمثال وأيَّامَ العرب المشهورة وأسماءَ مساكن النَّاس ومساكن الحيوان، وغير ذلك كثيرٌ جليلُ الفائدة للنَّاشئة، وليس كلُّ الَّذي نظمه في «مجمع البحرين» يجري هذا المجرى، بل سلك في بعض نَظْمِهِ في مقاماته ما يشفُّ عن معانٍ جليلةٍ في الأخلاق والآداب، وهذا يجعل مقاماتِه باباً في التَّربية والتَّعليم رحباً، فمن ذلك قوله في علوِّ الهمَّة على لسان أحد شخوص مقاماته:
إنِّي خُلِقْــتُ لأحيــا حتَّى يشــاءَ القضاءُ
وليْ فـــؤادُ لبـيـبٍ يجولُ حيثُ يشـــاءُ
إنْ ضاقَتِ الأرضُ دوني فما تضيقُ السَّـــماءُ
وتشفُّ بعض مقامات ناصيف عن موافقته لأسلوبِ العصر الذي نظمَ المقامةَ عليه، فكأنَّما شعره الذي نظمه صورةٌ قُدَّتْ من ذلك العصر، وهذا يدلُّ على تَمَكُّنهِ من فنِّ الشِّعر.
له ثلاثةُ دواوينَ شعريَّةٍ أوَّلها «النُّبذة الأولى» والثَّاني «نفحة الرَّيحان» والأخير «ثالث القمرين»، وجُمِعَتْ ثلاثتها بعد ذلك في ديوانٍ واحدٍ، وجرى شعره فيه على أغراض الشِّعر في عصره، فنظمَ في المدح والرِّثاء والغزل، وله أشعار في وصف الزَّمان والشَّكوى، وبعض شعره في الفخر. اشتُهر بمدائحه للأمير بشير الشِّهابي، فمن مدائحه فيه قصيدته التي مطلعها:
كنْ أميناً منْ شرِّ كيدِ الحسودِ إذْ حَبــاكَ الإلــهُ بالتَّأييدِ
له شعرٌ دينيٌّ رائقٌ في (المناجاة) منه:
عليكَ كلُّ اعتِمادي أيُّها الصَّمَـدُ قدْ فازَ عبــدٌ على مَولاهُ يَعتَمِدُ
أَنتَ اللَّطيفُ الخبيرُ المُستغاثُ بهِ عندَ الخُطوبِ ومنك العَونُ والمَدَدُ
إذا التوَتْ نُوَبُ الأيَّـامِ وانعَقَدَتْ فعِندَ لُطفِكَ لا تَســـتَغلِقُ العُقَدُ
يا واحداً لم يكُنْ كُفــواً لهُ أَحَدٌ سِـواكَ في كلِّ أَمرٍ ليسَ لي أَحَدُ
إَنْ لم يَمُدَّ إليكَ المُســتَجيرُ يَداً فمَنْ تُمَدُّ إليـــهِ في الوُجودِ يَدُ؟
أَنتَ القديرُ الذي الأَفلاكُ في يَدِهِ تُطوى ومنهُ جِبـالُ الأرضِ تَرتَعِدُ
فَخَرَ في كثيرٍ من شعره بجودة قريحته.
كان ناصيف يجري القريضَ مطبوعاً، ولا يتعمَّل لأجله، وإنِ اتَّسع تصرُّفُهُ في الكلام فهذا نَتَجَ من ثقافته العربيَّة الأصيلة ومما حَفِظَهُ في صغره من دواوين العرب، ولذلك يُلحَظ في أشعاره قوَّةُ ملكته اللُّغوية وانطباعُ اللِّسان على الفصاحة.
عُرف بحبِّه النَّاسَ، فكان ودوداً مخلصاً رقيقَ القلب نقيَّ السَّريرة ذكيًّا حافظاً، حتَّى قيل: إنَّه كان يروي أيَّام العرب بتواريخها وأسماء أصحابها وأسماء أماكنها، وكان كثيرَ المحفوظِ من النَّوادر والطَّرائف.
لبث مقيماً في بيروت إلى أن أُصيبَ بمرضٍ عُضالٍ، فانفلجَ شطرُه الأيسرُ، ولبث في مرضه نحو سنتين حتَّى وافاه الأجلُ.
المراجع
الموسوعة العربية
التصانيف
أبحاث