كتب: د. علي بن عمر بادحدح
20 يوليو, 2009 - 28 رجب 1430هـ
 

الخطبة الأولى

 
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون :
مكر وكيد الكافرين الظالمين صورة أخرى نقف معها ؛ لنتبصر في ضوء القرآن والسنة الواقع الذي نعيشه بعد أن وقفنا في الجمعة الماضية مع صورة البغي والعدوان والظلم والطغيان ورأينا وصفهما في القرآن ورأينا مآلهما في آيات ربنا الرحمن ، وفي سيرة المصطفى العدنان - صلى الله عليه وسلم – رأينا إن البغاة الطغاة الذين اعتزوا بقوتهم واغتروا بما لديهم من كثرة عدد وعدة ووسائل أعلنوا غطرستهم ، وأظهروا هيمنتهم ، وداسوا - كما أشرنا - على القوانين ، وتجاوزوا كل المبادئ والأعراف الدولية أو البشرية أو الإنسانية !
 
إلا أنهم مع ذلك لهم مكر خفي ، وكيد عالمي ، يمكرون به ويكيدون للإسلام وأهله ، وكثيراً ما يروج هذا الكيد ، ويمر هذا المكر بغفلة وسذاجة من كثير من أهل الإسلام ، بل ربما تروج الحيل حتى يتبناها من بني جلدتنا والناطقين بألسنتنا من يروجون لها ، ومن يرون فيها حقاً وصواباً ، بل من يندفعون إليها متحمسين غير مدركين لتلك الألاعيب والحيل التي تسيّرها وتروّجها آلة إعلامية ضخمة ، تغير الحقائق ، وتجعل البريء - ليس متهماً - بل مدانا مجرماً ، وتجعل الباطل - ليس بريئاً ولا نزيهاً - بل هو الحق الناصع ، والعدل التام !!
 
وكذلك يستخدمون في المكر والكيد أساليب التجسس والاستخبارات ، وجمع المعلومات ، ورصد الصور ، وتسجيل الأصوات فيما يتتبعون به الأنفاس ويلاحقون به الناس شرقاً وغرباً ، ويذل لهم من يذل ، ويتوافق معهم من يتوافق ، ويغترّ بهم من يغترّ ؛ ليمضي الله أمره ، ويجري قدره ، ويظن القوم أنهم قد أحاطوا بكل شيء علماً ، وأنهم قد أحكموا لكل شيءٍ تدبيراً : { وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } [ الأنفال: من الآية30].
 
لننظر إلى المكر والكيد - ونحن نعلم أنه يحيق بنا ويحيط بنا من سائر جوانب حياتنا ، وفي كل مجتمعاتنا ، وفي سائر ديارنا ، وفي جميع مجالات حياتنا حتى أراد ولا يزال يريد ويسعى أن يتلصص على الكتب التي يقرؤها أبناؤنا في المدارس ، بل يريد أن يدخل إلى عقر بيوتنا ليرى ما نتحدث به مع أبنائنا .. إنه مكر عظيم كبير .. إنه كيد خطير وجليل ، فهل يرعبنا ذلك معاشر المؤمنين ؟ وهل يفتّ في عضدنا معاشر المسلمين ؟ وهل يجعلنا في حيرة من أمرنا وفي شك من ديننا ؟ وهل يفعنا إلى أن نلتمس الخلاص منه في شرق أو غرب أو استعانة بهذا أو ذاك ؟ أو لين وذلّ لا يتفق مع الإسلام لأجل مداراة أو مداهنة ؟
 
انظر إلى هذه الحقائق نستجليها في الضوء الساطع المبين في كتابنا القرآن المبين ..
 
المكر هو : الخديعة والاحتيال ، وكما عرّفه بعض علمائنا في صورتين اثنتين نراهما بأم أعيننا في سائر هذه الأحوال ، إيصال المكره إلى الإنسان من حيث لا يشعر صورة من صور الكيد .
 
والصورة الأخرى : صرف الغير عما يقصده بحيلة .. نقصد كثيرا من الخير فيأتي الكيد ليرينا إياه على غير صورته ؛ فننصرف عنه إلى غيره ، ونظن أننا نحسن صنعاً ، وأننا نتقن عملاً !
 
وكثيرا ما يكون ذلك عن غير ما ينبغي أن يكون عليه المؤمن ؛ فإن المؤمن كيّس فطن ، ولا يلدغ المؤمن من جحر مرتين ، ورحم الله الفاروق عندما قال: " لست بالخب ولا الخب يخدعني " كم مرة دار هذا الكيد على أمة الإسلام ؟ وكم مرة تزخرفت ألوان المكر وتلونت وفي كل مرة يظهر لنا بصورة ويخرج علينا باسم ؟ ما أنكرناه بالأمس من هذا الطريق يجيئنا من طريق آخر فنرحب به ونقبله ولا نتعظ ولا نعتبر ، ولا ندرك الحقائق كما كشفتها آيات القرآن الكريم ، والذي أحب أن ننتبه له أن كل هذا المكر والكيد لا يغني عن أهله شيئاً ، ولا يضر أهل الإيمان إن صدقوا إيمانهم وأخلصوا إسلامهم شيئاً .
 
هذه صورة قرآنية لأولئك الكفرة الفجرة الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون ، ويعيثون فيها فساداً وإن زعموا غير ذلك : { اسْتِكْبَاراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً } [ فاطر:43 ].
 
صورة قرآنية واضحة المعالم للمستكبرين في الأرض الطاغين المعتدين الظالمين : {اسْتِكْبَاراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ } [ فاطر: من الآية43].
 
قال أهل التفسير ،كما ذكر السعدي في تفسيره: " المكر الذي مقصوده سيئ ومآله ومرامه سيئ " ، هذا المكر السيئ عاقبته كما أخبر الله - سبحانه وتعالى - أنه لا يحيق إلا بأهله ، والإحاقة : " الإحاطة المتعذرة عن الامتناع " ، ستكون العاقبة أن المكر يعود عليهم ، وأن الكيد يحيط بهم ، وأن من حفر حفرة لأخيه أو لعدوه أو لمن كان فإنه يقع فيها .
 
ومن كلام محمد بن كعب القرظي رحمه الله - من التابعين - قال : " ثلاث من فعلهن لم ينجح حتى ينزل به : من مكر أو بغى أو نكث " وتصديق ذلك في كتاب الله عز وجل: { وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ } [ فاطر: من الآية43] .
 
وقوله: { إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ } [ يونس: من الآية23].
 
وقوله: { فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ } [ الفتح: من الآية10].
 
فهل نحن في شكٍ من قرآننا ؟ ينبغي أن نوقن بذلك لكن أن نعرف واجبنا ومهمتنا ، هل نبقى في لهونا ولعبنا وغفلتنا ؟ هل نستمر في غينا وضلالنا وفسادنا وإفسادنا ؟ هل نبقى نظن أو نحسن الظن بمن كادنا مرارا وتكراراً ؟ ومن ظهر على فلتات ألسنتهم معاقد ما في قلوبهم ، وخفايا ما في نفوسهم ؟ أليسوا قد أعلنوها في فلتة لسان تلتها اعتذارات بأنها حروب صليبية ؟ أليست صدرت التقارير والدراسات التي أعلنت بأن هذه الديار هي أساس الشر ومنبع الضر في العالم كله ، وينبغي أن تحارب وأن تكون العدو الأول ؟ ثم تنصل هذا وقال : " ذاك لا نعنيه " ، وقال : " ذاك يعبر عن رأي صاحبه " !!
 
إنها القضايا التي لا تروج ولا تمر إلا على المغفلين والحمقى الذين لا ينبغي أن يكون المسلم واحداً منهم .. استمع إلى هذا التفسير وإلى هذا البيان في قوله : {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ } [ فاطر: من الآية43].
 
فبَانَ خزيهم ، وظهرت فضيحتهم ، وتبينَ قصدهم السيئ ، فعاد مكرهم في نحورهم ، وردّ الله كيدهم في نحورهم ، فلم يبق لهم إلا الانتظار لما يحل بهم من العذاب ، الذي هو سنة الله في الأولين التي لا تبدل ولا تغير : أن كل من سار في الظلم والعناد والاستكبار على العباد أن تحلّ به نقمته ، وأن تسلب منه نعمته ، فليترقب هؤلاء ما فعل بأولئك ! سنة الله ماضية لا تتخلف ..
 
وتأمل هذا الربط : { وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً } [ فاطر: من الآية43].
 
فهل بعد هذا التأكيد من تأكيد ؟ وهل بعد هذا البيان من بيان ؟ أم أن العقول لا تعي ؟ وأن القلوب لا تفقه ؟ وأن النفوس قد أصابها من المرض والضعف ما يشبه أن تكون به مواتاً لا حياة فيها ؟! إنها آيات القرآن التي ينبغي أن نقرأها وأن نعقلها ، وأن نحيي بها قلوبنا ونفوسنا ، وأن نعرف بها كيف نواجه أعداءنا .. لا أن نكون أغراراً وسذجاً .. لا أن تكون وسائل إعلامنا أبواقاً تردد ما نسمعه في النهار بالليل وما نسمعه بالليل في النهار .. إنها قضايا قرآنية عظمى تكشفها لنا الآيات وتبينها .. { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ } [ فاطر:10].
 
وتأمل أيضا هذه الآية والآيات كثيرة والقرآن كله أنوار تضيء الطريق ، وحقائق تكشف الباطل والزيغ والشبهات : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً } [ فاطر: من الآية10].
 
أقوال كثيرة لأهل التفسير منها كما قال القرطبي في تفسيره : " يريد سبحانه أن ينبه ذوي الأقدار والهمم من أين تنال العزة ومن أين تستحق؛ فتكون الألف واللام للاستغراق، وهو المفهوم من آيات هذه السورة. فمن طلب العزة من الله وصدقه في طلبها بافتقار وذل، وسكون وخضوع، وجدها عنده إن شاء الله غير ممنوعة ولا محجوبة عنه؛ قال صلى الله عليه وسلم : (من تواضع لله رفعه الله). ومن طلبها من غيره وكله إلى من طلبها عنده. " .
 
ولذلك أيضا قال الشاعر في هذا المعنى :
 
وإذا تذللت الرقاب تواضعا **** منا إليك فعزها في ذلها
 
وهو مطلب يأتينا ليرسم لنا الطريق الصحيح الذي نستطيع به أن نكون مؤهلين لمواجهة الكيد والمكر :{ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً } [ فاطر: من الآية10].
 
علّق القلب بالله ، واربط المقصد بالله ، ولا تذل لغير الله ، ولا تطلب عزةً ولا نصرة إلا من الله ، وذلك قول قد نقوله ، وكلام قد نردده .. فأين تصديقه في الواقع ؟
 
استمع للآية وهي تربط المعاني ربطاً محكماً معجزاً : { وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } [ فاطر: من الآية10].
 
ذلك المعنى الذي يربط بين القول والعمل ، الذي يجعلنا ندرك أن الطريق الصحيح هو أن نترجم أقوالنا إلى أعمال ؛ سيما في القضايا الكبرى المصيرية ، وفي الحقائق التي ينبغي أن نكشفها في مواجهة أعدائنا .. في المزالق والكيد الذي يخفى على كثير من أبنائنا ينبغي أن ننتبه إلى ذلك .
 
{ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ }[فاطر: من الآية10].
 
مما ذكره أهل التفسير : أن العمل الصالح يرفع الكلم الطيب إذا صدقه الكلم الطيب ، إن كان من نوع الوعد والجزم بالفعل ، ثم لم يتبعه الفعل لا يكون ارتفاع له ، بل ربما يكون القول حجة لك لا عليك ، كما قال ابن العربي رحمه الله في هذا المعنى : " الكلم الطب بمعنى الذكر ، والقول الحسن يؤجر عليه صاحبه ؛ فإن عمل سيئا أثم من جهة ، وكان الوزن للصلاح والعمل ، أما القول الذي يرتبط بالعمل ؛ فإنه إن صدقه العمل ورفع وزكي عند الله - عز وجل - وإن كان غير ذلك كان وبالاً على صاحبه " .
 
فكم من قول وكم من راية نرفعها ؟ وكم من شعار نعليه أين حقيقته في واقع أمتنا وفي مجتمعاتنا ودولنا ؟ وأين حقيقته في أفرادنا في أنفسنا ؟ ألسنا نقول : إننا أهل إيمان وإسلام ؟ ألسنا نقول : إننا أهل ولاء وبراء ؟ ألسنا نقول إننا أهل دعوة ورسالة؟ ألسنا نقول : إننا أهل غاية في هذه الحياة الدنيا لإعلاء كلمة الله .. فأين تصديق ذلك ونحن نجعل أنفسنا مطية يرتحلها كل ظالم وباغ ليصل إلى مراده بكثير من غفلتنا وكثير من سذاجتنا ؟ أليسوا ينتجون ونستقبل ،ويبثون ونشاهد ، ويروجون ونتقبل ، ويصنعون ونشتري ، دون أن يكون عندنا شيء من وعي أو انتباه لما يحيق بنا من مكر ، وما يقرر لنا من كيد في كل هذه الأمور التي نتعامل معها ؟
 
ليس المر قطيعة ومقاطعة ليس لها فقه ولا وعي ؛ وإنما هو إدراك ينبغي أن نعيه ، وأن ندركه ، وأن نتبع أقوالنا بأعمالنا ، وأن نعمم وعينا في سائر دوائر أمتنا وأوساطنا ، في كل المجالات التي ينبغي أن نوصل فيها مثل هذه المعاني القرآنية إلى كل مسلم ينبغي أن ينتبه لها وأن يعيها :{ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ} [الأنعام: من الآية124].
 
آيات قاطعة في معانيها - والسين للاستقبال - سيكون ذلك حتماً لازماً ، وقدراً واقعاً أن المجرمين الماكرين الكائدين سيصيبهم هذا الذل والصغار عند الله سبحانه وتعالى ، قال ابن كثير في تفسيره - في بيان ذكر العذاب الشديد مقترنا بالمكر ، والمكر خفي غير ظاهر ، والعذاب الشديد معلنا على رؤوس الأشهاد - قال : " لما كان المكر غالباً إنما يكون خفياً وهو التلطف في التحيل والخديعة قوبلوا بالعذاب الشديد من اللّه يوم القيامة جزاء وفاقاً {ولا يظلم ربك أحداً}، كما قال تعالى: {يوم تبلى السرائر} أي تظهر المستترات والمكنونات والضمائر " .
 
ولذلك استشهد هنا ابن كثير بحديث النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح: ( ينصب لكل لواء غادر لواء عند استه يوم القيامة فيقال هذه غدرة فلان بن فلان) ، والغدر كيد مخفي ، ولذلك جاءت عقوبته معلنة يوم تبلى السرائر أي: تكشف وتعلن ، ومن رحمته وحكمته سبحانه وتعالى أنه يعجّل من ذلك ما يثبت به أهل الإيمان ويبصرهم به ، ويزيدهم يقينا ، بما في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .. وكل ما جاء في القرآن من شأن المكر والكيد الكافر الظالم الباغي الموجه لأهل الخير والحق والعدل ، كله مآله إلى الذوبان وإلى الدمار والهلاك حتى كيد الشيطان { إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً }[النساء: من الآية76 ].
 
متى يكون ضعيفا ؟ يوم يكون في القلب إيمان ، يوم يكون في العقل إدراك ، يوم يكون في السلوك إسلام ، يوم يكون في الصفوف وحدة ، يوم لا نسمح أن تتسلل شياطين الإنس والجن من بين أظهرنا ، وتكون من وراء ظهورنا في صفوفنا ، يوم نمنع تلك الوساوس التي تخالط العقول ، وتخامر القلوب ، وتشكك في حقائق إيمانية مهمة في شأن حقائق الأعداء ، وحقائق الأولياء ، وما ينبغي أن يكون عليه المسلم من ثبات في إيمانه ، ويقين في معتقده .. والأمر في هذا واضح تحكيه لنا الآيات وترويه لنا مواقف السنة.
 
{ إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئا }[ آل عمران: من الآية120].
 
سبحان الله ما أوجز هذه الآيات ! وما أعمق وأوسع معانيها ! أليست تصور واقعنا اليوم {إن تمسسكم حسنة تسؤهم} ؟ أليس غيظ قلوبهم في ثروات المسلمين ؟ أليس سوؤهم في استقامة أبناء المسلمين ؟ أليس غيظهم في تكاثر المسلمين في المساجد ، وفي المصاحف التي تقرأ آناء الليل والنهار ؟ أي شيء يضيرهم في ذلك ؟ أي إرهاب في هذا ؟ أي عنف أو ظلم كما يدعون ؟
 
{ إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا }[ آل عمران: من الآية120].
 
ما أفرحهم بما يروج على أبنائنا ويتقبلونه من كيدهم ومكرهم ! ما أسعدهم بمن يوافقهم رأيهم ! ما أسعدهم وأفرحهم بمن يسير في ركابهم ويعينهم على أبناء الإسلام من إخوانهم وبني جلدتهم والناطقين بألسنتهم !
 
{ وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئا }[ آل عمران: من الآية120].
 
صبرٌ زاده تقوى الله .. صبر منبعه ومنبع قوته الاستمداد من الله عز وجل ، ماذا يصنع أهل الأرض ؟ ماذا يصنع أهل البغي ؟ ماذا يستطيع أهل الباطل ؟ ماذا تستطيع قوى الأرض كلها {لا يضركم كيدهم شيئا}.
 
وكما قال تعالى في موضع آخر :{ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ }[ الأنفال: من الآية18].
 
لكنه لا يكون ذلك إلا بتحقيقكم - معاشر المؤمنين - لإيمانكم وإسلامكم ، فاعلموا أن التقصير إنما هو منا ، وأن البلاء إنما هو بذنوبنا ، وأن تسلّط أعدائنا إنما هو بحبال ، وليس بحبل واحد منا ، فلنرجع إلى كتاب ربنا ، ولنتدبر ما كان من أحداث سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم ؛ لندرك هذه الحقائق ، ولنعلم يقينا ما جاء في كتاب ربنا.. { وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ } [غافر: من الآية25].
 
{ إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً * وَأَكِيدُ كَيْداً * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً } [ الطارق:15،16،17 ].
 
ذلك وعد الله الذي لا نشك فيه.
 
 

الخطبة الثانية

 
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون :
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله ؛ فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه .
 
وإن من أعظم تقوى الله أن نواجه أعداء الله عز وجل باعتصامنا بكتاب ربنا ، وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم ، وائتلاف قلوبنا على الحق والهدى ، واجتماع صفوفنا في نصرة الإسلام وأهله بكل ما يستطاع بإذن الله عز وجل.
 
{ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّه }[ الأنفال: من الآية30 ].
 
فمكر الله وكيده مما ثبت من صفاته سبحانه وتعالى إلا أنها صفات كمال له - جل وعلا - لا تلتبس بما يكون من أبالسة الجن والإنس الماكرين الكائدين ، فهو - أي المكر - من الخلْق الحِيلة السيئة ، ومن الله سبحانه وتعالى التدبير بالحق مجازاة على أعمال الخلق ، وكما قال ابن القيم رحمه الله: " مجازاته للماكرين بأوليائه ورسله فيقابل مكرهم السيئ بمكره الحسن ، فيكون المكر منهم أقبح شيء ومنه سبحانه وتعالى أحسن شيء ؛ لأنه مجازاة على مكرهم ".
 
{ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } [الأنفال:30].
 
نعرف تلك الصفحة من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ، يوم اجتمع كفار قريش يأتمرون به ويتآمرون عليه ، ويدبرون كيدهم ، ويحكمون مكرهم ، ويتشاورون فيما بينهم ، ويتزعمهم طاغيتهم أبو جهل .. ضربوا الآراء أخماسا بأسداس ، وانتهوا إلى رأي أملاه عليهم إبليس ، فائتمروا وصنعوا وفعلوا كل شيء .. فهل كان صلى الله عليه وسلم غافلا ؟ وهل كان عن مثل هذا غائبا ؟ لقد أخذ للأمر عدته وأسبابه التي بيده ، وجاءت قدرة الله عز وجل ورعايته وعنايته ، التي جسدها عندما كان في الغار مع أبي بكر بعد هذا الحدث فقال: يا رسول الله لو نظر أحدهم إلى موضع قدمه لرآنا ؟ فقال عليه الصلاة والسلام بلسان اليقين : ( يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما ) .
 
خرج من بين أظهرهم وحفا بالتراب فوق رؤوسهم .. أذلهم إذلالاً مادياً واضحاً ملموساً ليبدي لهم أن ما يمكرونه وما يكيدونه ، ثم ما هو أعظم منه وأجلّ وهو مكر الله وكيده المبطل لكل كيد يحاق بأهل الإيمان والإخلاص عاجلا أو آجلا - بل في الدنيا قبل الآخرة - كما هي وعود الله عز وجل .
 
وكما نرى في سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم أنه كان دائما يتتبع أحوال أعدائه ويترصدهم ، ويعرف ما يدبروه ، ويتتبع ما يمكرون .. وكم هي الغزوات التي كانت أسبابها علمه عليه الصلاة والسلام بما جمع من الأخبار أنهم يعدون له ، أو أنهم يتهيئون لحربه ، فيبدأهم قبل أن يبدؤوه ، ويفاجئهم قبل أن يفاجئوه .. وذلك دليل اليقظة التامة ، والحذر الشديد ، والمعرفة اليقينية .
 
ولسنا - معاشر المسلمين - أهل قتل وأهل بغي وعدوان أبداً ، ولكننا أهل حق ورسالة وعدالة وإنسانية ، فإذا جاء البغاة والطغاة والظلمة ليفسدوا البشرية كلها ، وليعمموا هذا الظلم والجور على الخلق ويسيطروا عليهم ، ويقبضوا على رقابهم ، ويحنوا ظهورهم ، ويتصرفوا في شؤونهم ، وينهبوا ثرواتهم .. أفليس من العدل والحق والإنصاف أن يرد ذلك عليهم ، وأن يمنعوا من هذا الفساد والإفساد ؟
 
وانظر إلى هذا المكر الذي يكيدونه إنهم اليوم يذهبون بنا شرقا ، ويسلطون الضوء على قضية يصمون بها آذاننا صباح مساء ؛ لتنصرف الأنظار عن أرض فلسطين .. عن مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم .. عن ما يحلّ هناك في المسجد الأقصى ؛ لتنصرف الأفكار عن ما يجري في كشمير ؛ لينصرف الأمر كله عن ما يدبر في مناهج المسلمين هنا وهناك ؛ ولينصرف - أيضا - الأمر عن كيدهم وظلمهم في بلاد المسلمين ، وما دمروا فيها وأفسدوا ، وما تحكموا في مقاليد أمورها ..
 
والسعيد من وعظ بغيره ، والعاقل من أدرك حكمة العرب في قولهم : " أكلت يوم أكل الثور الأبيض " كم داهنا أو وافقنا أو ظننا أن في ذلك خيراً ولم نفقه حيل أعدائنا ومكرهم أنهم يتوصلون من أول الطريق ليكون طريقهم إلى ثانية أو إلى ثالثة أو إلى رابعة !
 
وكثيراً ما يكون ذلك كذلك في سائر الأحوال ، والقضية الكبرى التي يراد لها أن تكون في ضمن هذا المكر والكيد هي إقرار هذا البغي والعدوان ، والتصرف في شؤون الأمم والدول ، والاستيلاء على ثرواتها ، والتمهيد والتمكين لأعدائها - وخاصة من اليهود في أرض فلسطين على وجه الخصوص وفي بلاد الإسلام والمسلمين على وجه العموم - وذلك أمر لا يستطيع أن يغفله أحد ، وهي قضايا يتلاعبون بها ، وربما يأتوننا بقضية رجل واحد أو حادثة صغيرة فيضخمونها ويروجون عليها ويبهرجونها بالإعلام ، وننسى ما هو أعظم وأجلّ وأكبر ، وهذا جزء من الكيد والمكر فلا نغفل عن حقيقة إيماننا ، وعن حقيقة إسلامنا ، وعن حقيقة ما تكشفه لنا الآيات والأحاديث ، وهدي النبي صلى الله عليه وسلم والأمر في ذلك واضح بين.

المراجع

موسوعة اسلاميات

التصانيف

عقيدة