" التَّواضُــع "

التَّرغيب في التَّواضُع :

أولًا: في القرآن الكريم :

- قال الله تعالى : " وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا " [الفرقان: 63] قال ابن القيِّم : (أي : سكينة ووقارًا، متواضعين غير أشرين ولا مَرِحين ولا متكبِّرين، قال الحسن : علماء حلماء. وقال محمَّد بن الحنفيَّة : أصحاب وقار وعفَّة، لا يسفِّهون، وإن سُفِه عليهم حلموا. والهَوْن -بالفتح- في اللُّغة: الرِّفق واللِّين، والهُون - بالضَّم - : الهَوَان فالمفتوح منه : صفة أهل الإيمان، والمضموم صفة أهل الكُفْران، وجزاؤهم مِن الله النِّيران) [مدارج السالكين] .
(وقال تعالى مخاطبًا رسوله، ممتنًّا عليه وعلى المؤمنين فيما أَلان به قلبه على أمَّته المتَّبعين لأمره، التَّاركين لزجره، وأطاب لهم لفظه، " فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ " [آل عمران: 159]) [تفسير القرآن العظيم] .
- كما أمره الله سبحانه وتعالى أن يلين جانبه للمؤمنين، وأن يتواضع لهم، فقال : " وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ " [الحجر: 88] .
قال القرطبيُّ في تفسير هذه الآية : (أي : أَلِن جانبك لمن آمن بك، وتواضعْ لهم) [الجامع لأحكام القرآن]

ثانيًا : في السُّنَّة النبوية :

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((ما نقصت صدقة مِن مال، وما زاد الله عبدًا بعفوٍ إلَّا عزًّا، وما تواضع أحد لله إلَّا رفعه الله)) [رواه مسلم] .
قال القاضي عياض في قوله صلى الله عليه وسلم ((وما تواضع أحد لله إلَّا رفعه الله)) : (فيه وجهان : أحدهما : أنَّ الله تعالى يمنحه ذلك في الدُّنْيا جزاءً على تواضعه له، وأنَّ تواضعه يُثْبِتُ له في القلوب محبَّةً ومكانةً وعزَّةً.
والثَّاني : أن يكون ذلك ثوابه في الآخرة على تواضعه) [إكمال المعلم شرح صحيح مسلم] .
- وعن عياض بن حمار رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((إنَّ الله أوحى إليَّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحدٌ على أحد، ولا يبغي أحدٌ على أحدٍ)) [رواه مسلم] .
(يعني : أن يتواضع كلُّ واحد للآخر، ولا يترفَّع عليه، بل يجعله مثله أو يكرمه أكثر، وكان مِن عادة السَّلف رحمهم الله : أنَّ الإنسان منهم يجعل مَن هو أصغر منه مثل ابنه، ومَن هو أكبر مثل أبيه، ومَن هو مثله مثل أخيه، فينظر إلى ما هو أكبر منه نظرة إكرام وإجلال، وإلى مَن هو دونه نظرة إشفاق ورحمة، وإلى مَن هو مثله نظرة مساواة، فلا يبغي أحدٌ على أحد، وهذا مِن الأمور التي يجب على الإنسان أن يتَّصف بها، أي بالتَّواضُع لله عزَّ وجلَّ ولإخوانه مِن المسلمين) [شرح رياض الصالحين] .

أقوال السَّلف والعلماء في التَّواضُع :

- قال معاذ بن جبل رضي الله عنه : (لا يبلغ عبدٌ ذُرَى الإيمان حتى يكون التَّواضُع أحبَّ إليه مِن الشَّرف، وما قلَّ مِن الدُّنْيا أحبَّ إليه ممَّا كَثُر، ويكون مَن أحبَّ وأبغض في الحقِّ سواء، يحكم للنَّاس كما يحكم لنفسه وأهل بيته) [رواه ابن المبارك فى الزهد] .
- و(سُئِل الفضيل بن عياض عن التَّواضُع، فقال : يخضع للحقِّ، وينقاد له، ويقبله ممَّن قاله) [مدارج السالكين] .
- وقال ابن المبارك : (رأس التَّواضُع أن تضع نفسك عند مَن هو دونك في نعمة الدُّنْيا حتى تُعْلِمه أن ليس لك بدنياك عليه فضل، وأن ترفع نفسك عمَّن هو فوقك في نعمة الدُّنْيا، حتى تُعْلِمه أنَّه ليس له بدنياه عليك فضل) [التواضع والخمول ،لابن أبى الدنيا] .
- وعن إبراهيم بن أبي عبلة قال : (رأيت أمَّ الدَّرداء مع نساء المساكين جالسة ببيت المقدس) [التواضع والخمول ،لابن أبى الدنيا] .
- وقال قتادة : (مَن أُعْطِي مالًا أو جمالًا وثيابًا وعلمًا، ثمَّ لم يتواضع، كان عليه وبالًا يوم القيامة) [التواضع والخمول ،لابن أبى الدنيا] .
- وقال يحيى بن الحكم بن أبي العاص لعبد الملك : (أيُّ الرِّجال أفضل؟ قال: مَن تواضع عن رفعة، وزهد على قُدْرَة، وترك النُّصرة على قومه) [التواضع والخمول ،لابن أبى الدنيا] .
- وقال إبراهيم بن شيبان : (الشَّرف في التَّواضُع، والعزُّ في التَّقوى، والحرِّية في القناعة) [دارج السالكين] .

من فوائد التَّواضُع  :
1- أنَّ التَّواضُع يرفع المرء قدرًا ويُعْظِم له خطرًا ويزيده نبلًا [روضة العقلاء] .
2- التَّواضُع يؤدِّي إلى الخضوع للحقِّ والانقياد له [الأخلاق الإسلامية ،لحسن المرسى-بتصرف] .
3- التَّواضُع هو عين العزِّ؛ لأنَّه طاعة لله ورجوع إلى الصَّواب [الأخلاق الإسلامية ،لحسن المرسى] .
4- يكفي المتواضع محبَّة عباد الله له، ورفع الله إيَّاه [الأخلاق الإسلامية ،لحسن المرسى] .
5- التَّواضُع فيه مصلحة الدِّين والدُّنْيا، ويزيل الشَّحناء بين النَّاس، ويريح مِن تعب المباهاة والمفاخرة [فتح البارى , بتصرف] .

أقسام التَّواضُع :

(التَّواضُع نوعان : أحدهما محمود، والآخر مذموم ، والتَّواضُع المحمود : ترك التَّطاول على عباد الله والإزراء بهم . والتَّواضُع المذموم : هو تواضع المرء لذي الدُّنْيا رغبةً في دنياه، فالعاقل يلزم مفارقة التَّواضُع المذموم على الأحوال كلِّها، ولا يفارق التَّواضُع المحمود على الجهات كلِّها) [روضة العقلاء] .

ذكر أبو إسماعيل الهرويُّ للتواضع ثلاث درجات، فقال :
(الدَّرجة الأولى : التَّواضُع للدِّين، وهو أن لا يعارِض بمعقولٍ منقولًا، ولا يتَّهم للدِّين دليلًا، ولا يرى إلى الخلاف سبيلًا) [مدارج السالكين]) .

من صور التَّواضُع :

- تواضع الإنسان في نفسه :
ويكون ذلك بألَّا يظنَّ أنَّه أعلم مِن غيره، أو أتقى مِن غيره، أو أكثر ورعًا مِن غيره، أو أكثر خشية لله مِن غيره، أو يظنُّ أنَّ هناك مَن هو شرٌّ منه، ولا يظنُّ أنَّه قد أخذ صكًّا بالغفران !! وآخر بدخول الجنَّة !! لأنَّ القلوب بين إصبعين مِن أصابع الرَّحمن، يقلِّبها كيف يشاء، يقول الله تعالى : " وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ " [الأنفال: 24] .
وقال أبو زيد : ما دام العبد يظنُّ أنَّ في الخَلْق مَن هو شرٌّ منه فهو متكبِّر، فقيل له: فمتى يكون متواضعًا ؟ قال : إذا لم ير لنفسه مقامًا ولا حالًا .
ومِن التَّواضُع ألَّا يَعْظُم في عينك عملك، إن عملت خيرًا، أو تقرَّبت إلى الله تعالى بطاعة، فإنَّ العمل قد لا يُقْبَل، " إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ " [المائدة: 27] ولهذا قال بعض السَّلف : لو أعلم أنَّ الله قبل منِّي تسبيحة لتمنَّيت أن أموت الآن !
ومِن ذلك : التَّواضُع عندما تسمع نصيحة، فإنَّ الشَّيطان يدعوك إلى ردِّها، وسوء الظَّنِّ بالنَّاصح؛ لأنَّ معنى النَّصيحة أنَّ أخاك يقول لك : إنَّ فيك مِن العيوب كيت وكيت .

أمَّا مَن عصمه الله تعالى فإنَّه إذا وجد مَن ينصحه ويدلُّه على عيوبه، قهر نفسه وقبل منه، ودعا له وشكره، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم، في تعريف الكِبْر : ((الكِبْر : بَطَر الحقِّ، وغمط النَّاس)) [رواه مسلم] .
يعني : ردُّ الحقِّ، وبخس النَّاس أشياءهم، فالمستكبر صاحب نفسيَّة متعاظمة لا يكاد يمدح أحدًا أو يذكره بخير، وإن احتاج إلى ذلك شفعه بذكر بعض عيوبه .
أمَّا إن سمع مَن يذكره ببعض عيوبه فهيهات أن ينصاع أو يلين، وما ذاك إلَّا لمركَّب النَّقص في نفسه، ولهذا كان مِن كمال الإنسان أن يقبل النَّقد والملاحظة بدون حساسيَّة أو انزعاج أو شعور بالخَجَل والضَّعف، وها هو أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه يحمل الرَّاية، ويرفع الشِّعار : رحم الله امرءًا أهدى إلينا عيوبنا [رواه الدارمى] .
- التَّواضُع مع النَّاس :
فالمسلم يخالط النَّاس ويدعوهم إلى الخير، وإلى الأخلاق الإسلاميَّة، ومِن طبيعة النَّاس أنَّهم لا يقبلون قول مَن يعظِّم نفسه ويحقرهم، ويرفع نفسه ويضعهم، وإن كان ما يقوله حقًّا، بل عليه أن يعرف أنَّ جميع ما عنده هو فضلٌ مِن الله، فالمسلم المتواضع هو الذي لا يعطي لنفسه حظًّا في كلامه مع الآخرين، ومِن تواضع المسلم مع النَّاس: أن يجالس كلَّ طبقات المجتمع، ويكلِّم كلًّا بما يفهمه، ويجالس الفقراء والأغنياء .
قال تعالى : " وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا " [الكهف: 28] .

- تواضع الإنسان مع مَن هو دونه :
مِن التَّواضُع : التواضع مع من هو أقل منك، بل لا يُتصوَّر التواضع إلا مع من هو دونك، سواء في العلم أو الفهم أو المال أو الجاه ومن هو أصغر منك سنا وغير ذلك، بل إذا رأيت من وقع في معصية فلا تتعالى عليه وتعجب بنفسك وعملك، فربما كانت معصيته سببًا في توبة وإنابة، وذل وانكسار، وربما كان إعجاب الإنسان بعمله سببًا في حبوط عمله .
عن جندب رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حدَّث : ((أنَّ رجلًا قال : والله لا يغفر الله لفلان ، وأنَّ الله تعالى قال : مَن ذا الذي يتألَّى عليَّ أن لا أغفر لفلان ؟! فإنِّي قد غفرت لفلان وأحبطت عملك)) [رواه مسلم] .

من الأسباب التي تعين على التَّواضُع :

1- تقوى الله :
وهذا مِن أوَّل الأمور والأسباب التي تعين المرء على التَّواضُع، وتردعه عن أخلاق أهل السَّفه والكِبْر؛ لأنَّ التَّقوى وقاية مِن كلِّ ما يغضب الله تعالى، وفعل جميع الطَّاعات التي أمر الله تعالى بها، فالكِبْر كبيرة مِن الكبائر، ولا يتَّصف بها أهل التَّقوى، والتَّواضُع مِن محاسن الأخلاق، ولابدَّ أنَّه يكون في أهل التَّقوى .
وهذا شيء يجب أن يكون مركوزًا في فطرة كلِّ إنسان، وخاصَّة إذا كان بالمرء تيه وعجب، عليه أن يعلم أنَّ الأيَّام دُوَل، يوم لك ويوم عليك، فلا ينبغي للعاقل أن يفرح بدنيا أقبلت عليه، ومِن ثَمَّ يشمخ بها، ويتعالى بنعم الله على عباد الله، والله يقول : " وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ " [آل عمران:140] فمَن تذكَّر دائمًا هذه السُّنَّة الكونيَّة خضع لإخوانه ولعامَّة النَّاس، وخفض جناحه لهم، لأنَّه ربَّما تقلَّبت به الدُّنْيا، فيذلُّ بعد أن كان عزيزًا، ويفتقر بعد أن كان غنيًّا، ويعلو عنه مَن كان يترفَّع عليه، فلِمَ الكِبْر والتِّيه والعجب ؟!
قال تعالى : " تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ " [القصص: 83] .
2- عامل النَّاس بما تحبُّ أن يعاملوك به :
ممَّا لا شكَّ فيه أنَّ المرء يحبُّ أن يتواضع له النَّاس، ويخفضوا جناحهم له، ويعاملوه برفق ولين، ويبغض -مِن ناحيةٍ أخرى- مَن يُغْلِظ له، ومَن يتكبَّر عليه بأي صورة مِن الصُّور .
ولو كان المرء جرابًا حُشِي كِبْرًا لتألَّم وتأفَّف -أيضًا- ممَّن يتكبَّر عليه، فلِمَ الكيل بمكيالين ؟!!
3- التَّفكُّر في أصل الإنسان [التواضع فى ضوء القرآن والسنة الصحيحة،لسليم الهلالى] :
إذا عرف الإنسان نفسه، علم أنَّه أذلُّ مِن كلِّ ذليل، ويكفيه نظرة في أصل وجوده بعد العدم مِن تراب، ثمَّ مِن نطفة خرجت مِن مخرج البول، ثمَّ مِن علقة، ثمَّ مِن مضغة، فقد صار شيئًا مذكورًا، بعد أن كان لا يسمع ولا يبصر، ولا يغني شيئًا، فقد ابتدأ بموته قبل حياته، وبضعفه قبل قوَّته، وبفقره قبل غناه .
وقد أشار الله سبحانه وتعالى إلى هذا بقوله :
" مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ " [عبس: 18-19] .
ثمَّ امتنَّ عليه بقوله : " ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ " [عبس: 20] .
وبقوله : "فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا "[الإنسان: 2] .
لقد أحياه الله بعد موت، وأحسن تصويره، وأخرجه إلى الدُّنْيا، فأشبعه وأرواه، وكساه وهداه، وقوَّاه .
فمِن هذا بدايته، فأي وجه لتكبُّره وفخره وخيلائه ؟!
قال ابن حبَّان :
(وكيف لا يتواضع مَن خُلِق مِن نطفة مَذِرَة، وآخره يعود إلى جيفة قذرة، وهو بينهما يحمل العذرة؟) . اهـ . [روضة العقلاء] .

نماذج مِن تواضع النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم :

ان رسول الله صلى الله عليه وسلم جمَّ التَّواضُع، لا يعتريه كِبرٌ ولا بَطَرٌ على رِفْعَة قَدْرِه وعلوِّ منزلته، يخفض جناحه للمؤمنين ولا يتعاظم عليهم، ويجلس بينهم كواحد منهم، ولا يُعْرَف مجلسه مِن مجلس أصحابه؛ لأنَّه كان يجلس حيث ينتهي به المجلس، ويجلس بين ظهرانيهم فيجيء الغريب فلا يدري أيُّهم هو حتى يسأل عنه، روى أبو داود في سننه عن أبي ذرٍّ وأبي هريرة رضي الله عنهما قالا : ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس بين ظهري أصحابه فيجيء الغريب فلا يدري أيُّهم هو حتى يسأل، فطلبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نجعل له مجلسًا يعرفه الغريب إذا أتاه...)) [صححه الألبانى فى صحيح أبى داود] .
وقال له رجل : يا محمَّد، أيا سيِّدنا وابن سيِّدنا، وخيرنا وابن خيرنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((يا أيُّها النَّاس، عليكم بتقواكم، ولا يستهوينَّكم الشَّيطان، أنا محمَّد بن عبد الله، أنا عبد الله ورسوله، ما أحبُّ أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلنيها الله)) [صحح إسناده أحمد شاكر فى عمدة التفسير] .
- وكان صلى الله عليه وسلم مِن تواضعه، يتفقَّد أحوال أصحابه ويقوم بزيارتهم، فقد روى البخاريُّ في صحيحه عن عبد الله بن عمرو قال : ((إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذُكِر له صومي، فدخل علي فألقيت له وسادة مِن أَدَم حشوها ليف فجلس على الأرض، وصارت الوسادة بيني وبينه، فقال أما يكفيك مِن كلِّ شهرٍ ثلاثة أيَّام ، قال : قلت : يا رسول الله ! قال : خمسًا ، قلت : يا رسول الله ! قال : سبعًا ، قلت : يا رسول الله ! قال : تسعًا ، قلت : يا رسول الله ! قال : إحدى عشرة ، ثمَّ قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم : لا صوم فوق صوم داود -عليه السَّلام - شطر الدَّهر ، : صم يومًا وأفطر يومًا) [رواه البخارى ومسلم] .

نماذج مِن تواضع الصَّحابة رضوان الله عليهم :

تواضع الصِّدِّيق رضي الله عنه :
- (لما استُخلف أبو بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه أصبح غاديًا إلى السُّوق، وكان يحلب للحي أغنامهم قبل الخلافة، فلمَّا بُويَع قالت جارية مِن الحي : الآن لا يحلب لنا، فقال : بلى لأحلبنَّها لكم، وإنِّي لأرجو ألَّا يغيِّرني ما دخلت فيه) [التبصرة لابن الجوزى] .
- وكان يقول : (وددت أنِّي شعرة في جنب عبد مؤمن) [رواه أحمد فى الزهد] .
قال هذا وهو مِن المبشَّرين بالجنَّة، وهو الصِّدِّيق العظيم صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخليفته مِن بعده !!
تواضع عمر رضي الله عنه :
- عن طارق بن شهاب، قال : (خرج عمر بن الخطَّاب إلى الشَّام ومعنا أبو عبيدة بن الجرَّاح، فأَتَوا على مخاضة وعمر على ناقة له، فنزل عنها وخلع خفَّيه فوضعهما على عاتقه، وأخذ بزمام ناقته فخاض بها المخاضة، فقال أبو عبيدة : يا أمير المؤمنين ! أنت تفعل هذا، تخلع خفَّيك وتضعهما على عاتقك، وتأخذ بزمام ناقتك، وتخوض بها المخاضة ؟! ما يسرُّني أنَّ أهل البلد استشرفوك، فقال عمر : أوَّه، لم يقل ذا غيرك أبا عبيدة جعلته نكالًا لأمَّة محمَّد صلى الله عليه وسلم إنَّا كنَّا أذلَّ قوم، فأعزَّنا الله بالإسلام، فمهما نطلب العزَّة بغير ما أعزَّنا الله به أذلَّنا الله) [صححه الألبانى فى صحيح الترغيب] .
- عن أبي محذورة قال : (كنت جالسًا عند عمر رضي الله عنه، إذ جاء صفوان بن أميَّة بجَفْنَة (6) يحملها نفرٌ في عباءة، فوضعوها بين يدي عمر، فدعا عمر ناسًا مساكين وأرقَّاء مِن أرقَّاء النَّاس حوله، فأكلوا معه، ثمَّ قال عند ذلك: فعل الله بقوم، أو قال : لحى الله قومًا يرغبون عن أرقَّائهم أن يأكلوا معهم !! فقال صفوان:  أما والله، ما نرغب عنهم، ولكنَّا نستأثر عليهم، لا نجد والله مِن الطَّعام الطَّيِّب ما نأكل ونطعمهم) [صحح اللبانى فى صحيح الأدب المفرد] .

تواضع عثمان رضي الله عنه :
قال الحسن : (رأيت عثمان بن عفان يقيل في المسجد وهو يومئذ خليفة، ويقوم وأثر الحصى بجنبه، فنقول : هذا أمير المؤمنين، هذا أمير المؤمنين) [التبصرة لابن الجوزى] .
عن ميمون بن مهران قال : (أخبرني الهمدانيُّ أنَّه رأى عثمان بن عفان رضي الله عنه على بغلة، وخلفه عليها غلامه نائل وهو خليفة) [الزهد ،لأحمد] .
تواضع علي رضي الله عنه :
- عن عمرو بن قيس الملائي عن رجل منهم قال : (رُئِي على علي بن أبي طالب إزارٌ مرقوعٌ، فقيل له : تلبس المرقوع ؟! فقال : يقتدي به المؤمن ويخشع به القلب) [الزهد ،لهناد بن السرى] .
- (وأنَّه رضي الله عنه قد اشترى لحمًا بدرهم، فحمله في ملحفته، فقيل له: نحمل عنك يا أمير المؤمنين. فقال: لا، أبو العيال أحقُّ أن يحمل) ( [إحياء علوم الدين] .

نماذج مِن تواضع السَّلف :

تواضع عمر بن عبد العزيز :
- (كان عند عمر بن عبد العزيز قوم ذات ليلة في بعض ما يحتاج إليه، فغشي سراجه، فقام إليه فأصلحه، فقيل له:
يا أمير المؤمنين! ألا نكفيك؟ قال: وما ضرَّني؟ قمت وأنا عمر بن عبد العزيز، ورجعت وأنا عمر بن عبد العزيز) [سيرة عمر بن عبد العزيز ،لابن عبد الحكم] .
- (ونادى رجلٌ أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: يا خليفة الله في الأرض! فقال له عمر: مه، إنِّي لما وُلِدت اختار لي أهلي اسمًا، فسمَّوْني عمر، فلو ناديتني : يا عمر، أجبتك. فلمَّا كَبِرْتُ اخترت لنفسي الكُنَى، فكُنِّيت بأبي حفص، فلو ناديتني : يا أبا حفص، أجبتك. فلمَّا ولَّيتموني أموركم سمَّيتموني أمير المؤمنين، فلو ناديتني : يا أمير المؤمنين؛ أجبتك. وأمَّا خليفة الله في الأرض، فلست كذلك، ولكن خلفاء الله في الأرض داود النَّبيُّ عليه السَّلام وشبهه، قال الله تبارك وتعالى : " يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ "[ص: 26]) [سيرة عمر بن عبد العزيز ،لابن عبد الحكم] .
تواضع الإمام أحمد بن حنبل :
قال المروزيُّ : (لم أر الفقير في مجلس أعزَّ منه في مجلس أبي عبد الله؛ كان مائلًا إليهم مُقْصِرًا عن أهل الدُّنْيا، وكان فيه حِلْمٌ، ولم يكن بالعجول، وكان كثير التَّواضُع، تعلوه السَّكينة والوَقَار، إذا جلس في مجلسه بعد العصر للفتيا لا يتكلَّم حتى يُسْأَل، وإذا خرج إلى مسجده لم يتصدَّر) [سير أعلام النبلاء] .

وقال يحيى بن معين : (ما رأيت مثل أحمد بن حنبل!! صحبناه خمسين سنة ما افتخر علينا بشيء ممَّا كان فيه مِن الخير) [سير أعلام النبلاء] .

نماذج مِن تواضع العلماء المتقدِّمين :

تواضع ابن تيمية :
قال البزَّار - وهو يذكر تواضع ابن تيمية - : (وأمَّا تواضعه : فما رأيت ولا سمعت بأحدٍ مِن أهل عصره مثله في ذلك، كان يتواضع للكبير والصَّغير والجليل والحقير والغني الصَّالح والفقير، وكان يدني الفقير الصَّالح ويكرمه ويؤنسه ويباسطه بحديثه المستحلى زيادة على مثله مِن الأغنياء، حتى أنَّه ربَّما خدمه بنفسه وأعانه بحمل حاجته جبرًا لقلبه وتقرُّبًا بذلك إلى ربِّه .
 وكان لا يسأم ممَّن يستفتيه أو يسأله، بل يقبل عليه ببشاشة وجه، ولين عَرِيكة(الطبيعة) ويقف معه حتى يكون هو الذي يفارقه: كبيًرا كان أو صغيرًا، رجلًا أو امرأةً، حرًّا أو عبدًا، عالـمًا أو عامِّيًّا، حاضرًا أو باديًا، ولا يجبهه ولا يحرجه ولا ينفِّره بكلام يوحشه، بل يجيبه ويفهمه ويعرِّفه الخطأ مِن الصَّواب بلطف وانبساط، وكان يلزم التَّواضُع في حضوره مِن النَّاس، ومغيبه عنهم في قيامه وقعوده، ومشيه ومجلسه ومجلس غيره .


المراجع

kalemtayeb.com

التصانيف

عقيدة إسلامية  عقيدة  مسائل اجتماعية