أنطون سيمنوفيتش مكارينكو Anton Semenovitch Makarenko تربوي من مدينة بيلوبوليه Belopol ye في جمهورية أوكرانيا، وُلِد لأسرة فقيرة تميّزت بالترابط والتمسك بالقيم الأخلاقية، وتأثّر كثيراً بشخصيّة والده الذي كان محبّاً للعمل وإنسانياً، فتمتّع منذ طفولته بالنزاهة في العمل والإحساس بالواجب. كان والده سيمون غريغوريفيتش Semon Gregorevitch صقّالاً ماهراً، يعمل في «ورشات» السكك الحديدية أمّا والدته تاتيانا ميخائيلوفنا ديرغاتشوفا Tatiana Dergatchova، فقد كانت ربّة أسرة، رقيقة ومحبّة وتتمتّع بعقل منفتح. وكان سلوك الوالدين مثالاً لتعزيز الصفات الإيجابية في نمو الأبناء.
 
في عام 1904، أنهى مكارينكو تعليمه المدرسي بنتيجة ممتازة، انتسب بعدها إلى دورة تربوية مدة سنة، أصبح بعدها معلّماً في مدرسة ابتدائية. ودمج بين نشاطه الاجتماعي المتنوّع وبين عمله الهادف، من أجل تطوير ذاته واكتمال معارفه ومهاراته وخبراته التربوية، فكان شديداً وحازماً مع تلاميذه في مطالبه التربوية، في حين كان يمارس الأسلوب ذاته تجاه نفسه.
 
انتسب مكارينكو في عام 1914 إلى معهد المدرّسين في مدينة بولتافا، ولكنّه قطع دراسته ليلتحق بالخدمة العسكرية ما بين أيلول/ سبتمبر 1916 - آذار/ مارس 1917، ثم عاد بعدها لينهي دراسته في المعهد بنجاح باهر نال عنه الميدالية الذهبية.
 
كان مكارينكو متحمّساً للعمل التربوي ومتميّزاً فيه، وقد آمن بأنّ أي عمل هو عمل إبداعي متجدّد، فقد عمل في مؤسّستين معاً هما: إصلاحية غوركي Gorky وكومونة دزرجنسكي Dzerzhinsky Commune، ولكنّه ترك الإصلاحية في عام 1928 وتفرّغ للعمل في الكومونة، وكتب بعد ذلك يقول: «لقد حققّت في الكومونة الشيء الذي يدور حول أنّ الجماعة هنا، أصبحت قوّة خلاّقة وحازمة ودقيقة، متمتّعة بمعارف متنوّعة». وفي عام 1934، قُبِل مكارينكو عضواً في اتحاد الكتّاب السوڤييت، حتى وافته المنيّة وهو في أوج العطاء التربوي والاجتماعي.
 

 المبادىء التربوية عند مكارينكو 

 
عمل مكارينكو على الدمج بين التعليم التربوي وطرائق التربية الأخرى: العمل، المشاركة الجماعية، النشاط المدرسي. وقد طبّق مبدأ ربط التعليم بالحياة والعمل، في (الكومونة والإصلاحية)، وصوّر ذلك في رواية «قصيدة تربوية» و»رايات فوق الأبراج». وحرص على الحياة الجماعية لأن الجماعة هي ذلك التنظيم للحياة الطفلية الذي يمتلىء بالحيوية والسعادة، ويلبّي حاجات الطفل الحياتية إلى أقصى حدّ. ولذلك كانت المهمّة المركزية للمربّي، هي تنظيم الجماعات الطفلية وحياتها، لأنّ الجماعة التربوية هي التنظيم العملي/ العلمي للعملية التربوية. وقد ركّز على المبادىء الآتية:
 
1- التربية البدنية: تخللّت التربية البدنية حياة الأفراد في الكومونة، فقد كانت منظّمة صحيّاً وعملياً في حياة الجماعة، ابتداء من نظافة الأماكن وإلى الالتزام بالقواعد الصحيّة والأمن الصناعي في أماكن الإنتاج، وانتهاء بالقيام بأعمال رياضية متميّزة، فقد ضبط العمل الرياضي بوصفه عملاً يتعلّق بالصحّة البدنية ونمو الجسد. وفي ذلك يقول مكارينكو: « لقد أولينا العمل الرياضي اهتماماً كبيراً، وأخذناه على محمل الجديّة الكاملة».
 
2- العمل: احتلّ العمل الإنتاجي المكانة المركزية المهمة في نشاط الجماعة الطفلية، والذي يجب أن يؤدّي دوراً موحّداً مع العناصر التربوية الأخرى، في منظومة الجماعة التربوية. وهنا يقول مكارينكو: «إنّ العمل بوصفه وسيلة تربوية، ممكن كجزء من المنظومة العامة، ولكن ما لم يكن إلى جانب التعليم، وإلى جانب التربية السياسية والاجتماعية، فسيكون بلا فائدة تربوية».
 
3- اللعب: أولى مكارينكو الاهتمام الكافي للنشاط اللعبي، لأنه يؤدّي دوراً مهماً في التربية، ليس للأطفال فحسب، وإنّما أيضاً للمراهقين والشباب. فاللعب - حسب رأيه - يجب أن يتخلّل مجمل حياة الجماعة الطفلية، لأنّه يقدّم للأطفال الرومانسية الضرورية والتسلية والفائدة الجسدية. ويربط مكارينكو بين اللعب والعمل، فيرى أنّ اللعب بالنسبة إلى الطفل كالعمل بالنسبة إلى الكبير، إذ يكتسب الطفل كثيراً من الخبرات والمهارات التي ترافقه مدى حياته.
 
4-النظام: يرى مكارينكو، أنّ النظام هو الشكل الخارجي لتنظيم الجماعة، وهو متنوّع ومفيد تربوياً، بحيث تكون ضوابطه مفيدة لكلّ أعضاء الجماعة. فالنظام مثله مثل أي شكل من أشكال أنشطة الأطفال، يهدف إلى خدمة مصالح الجماعة ويلبّي حاجات الأطفال، ويخلق لديهم -في الوقت ذاته- كثيراً من العادات المفيدة، ويجعل مهارات السلوك آلية / اعتيادية. كما أنّه ينظّم أنشطتهم في المجال التعليمي والعمل والراحة وغيرها. وعلى المربّي أن ينظّم حياة الجماعة الطفلية.
 
5-القيادة: إنّ القيادة - كما يرى مكارينكو - ضرورية للنظام المدرسي، لأنّ مجمل الحياة المدرسية لا يمكن أن تتمّم ولا يمكن أن تحلّ مشكلاتها، ما لم تتوافر لها القيادة التي تتولّى الرقابة والملاحظة والتقويم. ولذلك ينبغي على مدير المدرسة أن يكون مربّياً وموجّهاً لمجمل العملية التربوية / التعليمية. ولكنّ الهدف من القيادة الواحدة لا يكمن في السلطوية الفردية، بل في خلق جماعة إبداعية وهادفة، من خلال العمل الجماعي، ومبادرات الأفراد، والمسؤولية المتبادلة.
 
6-الأسرة: أعطى مكارينكو أهمية كبيرة للتربية الأسرية، ولا سيّما في السنوات الأولى من عمر الطفل، ودعا إلى البدء بعملية التربية الأسرية في الفترة المبكرة من حياة الطفل، فهي النظام المعقول والمناسب في حياة الطفل من خلال علاقته بوالديه. ولذلك خاطب الوالدين بقوله: «عليكم قبل أي شيء معرفة ما يعيشه الطفل وما يهتمّ به، وماذا يحبّ ويكره ويرفض..! عليكم معرفة مع من يلعب ومن يصادق، وما هي لعبته المفضّلة. وماذا يقرأ وكيف يفهم ما يقرأ..!» ويركّز مكارينكو على أهمية الوالدين في التربية الأسرية، إذ لا يمكن للمربّي أن يزاول التربية من دون الهيبة. وتفهم الهيبة كجدارة الكبير غير المشكوك فيها، وقوّته وقيمته كما تراها عين الطفل البريئة. ولذلك يجب على الوالدين أن يحوزوا هذه الهيبة من خلال عيون أطفالهم.
 

 أهم أعمال مكارينكو وإنجازاته التربوية

 
 أعمال مكارينكو كثيرة ومتنوعة ومن أهمها:
 
- مسرحية «ماجور» أي المفتاح الكبير في الموسيقى (1933).
 
- «قصيدة تربوية»، (1935)، يصف فيها حياة إصلاحية غوركي، ويوضح كيف يمكن إعادة تربية الإنسان لكي يصبح مواطناً شريفاً، ويصف الأساليب التربوية التي يتبعها مع الأحداث في الكومونة. 
 
- «كتاب للأولياء» (ج1 1937)، بالاشتراك مع زوجته غالينا، وهو رواية حوت مجموعة من الموضوعات القصصية، تتناول تركيب الأسرة ودورها التربوي والعوامل التي يؤثّر فيها، وفي الجزء الثاني يعالج مسائل تربية الإرادة والشخصيّة والقيم. ولمّ يتمّم الجزأين: الثالث والرابع بسبب وفاته.
 
- «رايات فوق الأبراج» (1938)، صوّر فيها حياة كومونة دزرجنسكي، وعالج مسائل التربية ومشكلاتها النظرية. طبعت عام 1939، بعد وفاته.
 
وقد صدرت بعض أعماله مترجمة إلى اللغة العربية، وهي قليلة، شملت: «قصيدة تربوية»، «رايات فوق الأبراج»، «كتاب للأولياء»، و«مكارينكو والجماعة». 
 
عيسى الشماس

المراجع

الموسوعة العربية

التصانيف

الأبحاث