الأثر الفني artistic work تأليف حسي يضيف إلى الواقع شيئاً جديداً جميلاً يتجسد فيه حدس الفنان. وهو على أنواع تجمع بينها عناصر مشتركة ويأخذ تصنيفها أكثر من شكل.
ويذكر أن تنوع الآثار الفنية يقوم على الاختلاف في طبيعتها: فالأثر الفني إما أن يرتبط بالحجم فيكون نحتاً أو عمارة، أو يرتبط باللون فيكون تصويراً، أو يرتبط بالضوء فيكون السينما والفديو والتصوير الضوئي للصور الثابتة والمتحركة. ويذكر كذلك أن تنوع الآثار الفنية يمكن أن يقوم على ما تنطوي عليه من مادة، أي على المادة التي صنعت منها: فمادة الشعر والأدب هي اللغة، ومادة الرقص هي الحركة، ومادة الموسيقى والغناء هي الصوت. والواقع أن هذين التصنيفين لايشملان كل ما يقع في حدود مصطلح الأثر الفني، إذ إن هناك جوانب أخرى يمكن أن تدخل في بنائه، كالكهرباء والإلكترون وغيرهما من المواد المبتكرة التي تزداد باستمرار وآخره التصوير الرقمي. ولهذا يمكن القول إن هناك أنواعاً أخرى من الآثار الفنية يجب أن تجد لها محلاً في تصنيفات جديدة. ومهما يكن من أمر تصنيف هذه الآثار، فإن المهم في تحديد الأثر، على اختلاف طبيعته ومادته، الإلحاح على أنه لايرقى إلى مستوى الأثر الفني إلا إذا توافرت فيه قيم جمالية وإبداعية. وفي جملة ما يعنيه هذا التحديد القول إن الآثار الشعبية والتقليدية والتزيينية يمكن أن تكون آثاراً فنية إذا توافرت فيها الشروط الجمالية والإبداعية الخاصة بالأثر الفني، وإن مما يدعم مكانتها آثاراً فنية التصاقها الشديد بالحياة وقدرتها على الشيوع والانتشار.
إن التعريف الذي ذكر للأثر الفني يمكن أن يبرز الخصائص التي تميزه والتي تلخص بما يلي:
إن الأثر الفني شيء حسي موجود في المكان والزمان، أكان تمثالاً أو قطعة موسيقية أو زخرفة أو قصيدة من الشعر. إلا أن قيمته الفنية ليست في المادة الأساسية التي صنع منها بل هي أولاً فيما أنجزه الفنان بعد أن «ذابت» المادة الأساسية بين يديه وأصبحت شيئاً جديداً محسوساً يسمى الأثر الفني. إن هذا الأثر محصلة لعملية إبداع جاءت من الصانع وقد تدخلت فيها تجربته الخاصة التي امتدت عدة أعوام، ورؤيته الخاصة المشحونة بالكثير من الأحكام المنطقية والهواجس والأحلام والآمال مما يقع في القاعدة من «الحدس» المبدع الذي ينعكس في الأثر الفني الذي يبدعه الفنان. ثم إن الأصل في الأثر الفني أنه من صنع الإنسان وليس من صنع الآلة أو الحيوان: ذلك أن الإنسان هو القادر على اتخاذ موقف جمالي محدد من واقع الطبيعة والحياة والعالم والفكر. والأثر الفني الذي يُخرجه ليس نسخة عن الواقع، بل هو شيء جديد له صلة وثيقة بالواقع ولكن فيه تعبيراً عن رؤية الفنان لذلك الواقع. فإذا توافرت في أثر فني ما قيم جمالية وإبداعية وفنية خاصة تجعله متميزاً، فإنه يسمى عندئذ «رائعة» masterpiece.
الأثر الفني والجمال
ينطوي كل أثر فني على عنصرين متداخلين هما الشكل والمضمون، ويصدق ذلك على الآثار الفنية «التجريدية» أو «اللامعقولة». والجمال في الأثر الفني كامن فيه بعنصريه، وهو يتألف من جمال المضمون الذي يحمل طابع «التسامي» وجمال الشكل الذي يظهر بما في الأثر من تناسق وتناغم وتكامل.
إن الطبيعة هي مهد الجمال ومصدره الأول. غير أن الجمال في الأثر الفني يختلف عن الجمال في الطبيعة. إن جمال الطبيعة أزلي، وهو جمال بذاته، وهو جمال مطلق، ولكنه جمال شكلي غالباً. أما الجمال في الأثر الفني فيقوم على الصيغة الإبداعية المتغيرة باستمرار: إنه جمال نسبي لايخضع لقانون رياضي، إنه يجمع بين جمال الشكل والمضمون، وهو لذلك يختلف في ماهيته عن جمال الطبيعة، لذلك فإن قوانين الجمال الطبيعي لايمكن أن تطبق على الجمال الفني. لقد حاول بعض فلاسفة علم الجمال استخلاص قواعد من الجمال الطبيعي، وقام بعض الفنانين بتطبيق هذه القواعد في عملهم الفني إلا أن ذلك دفع بهم إلى الخروج عن معنى الفن الإبداعي إلى الفن التطبيقي.
إن ثمة عاملاً أساسياً في تحديد الجمال في الأثر الفني هو وحدة العمل الفني ضمن نطاق التنوّع، ويتم تحقيق هذه الوحدة بترابط الأجزاء وتماسكها. فإذا جرى تحليل هذا الترابط فإن في جملة ما يُرى فيه عندئذ التناسب والتوازن والتدرج والترجيح.
الأثر الفني والقدم والديمومة
الأثر الفني إما أن يكون مكانياً كالعمارة والنحت، أو يكون زمنياً كالموسيقى والرقص. وفي كلا الحالين يرتبط الأثر الفني بالتاريخ ارتباطاً عضوياً، إنه يبدأ إنتاجاً حضارياً لمراحل معينة من التاريخ ثم يستمر في المراحل المتتالية آخذاً محلاً معيناً إلى جانب غيره من الآثار المستجدة من دون أن يفقد شيئاً من أهميته أو روعته. بل على العكس فإنه يستمر نموذجاً يعبر عن أرقى مظاهر الإبداع الفني وشاهداً حضارياً مهماً له وجوده في الحاضر وفي المستقبل. إن وثيقة مهمة ذات قيمة تاريخية تساعد على تتبع تطور الفن والفنان، وتطور الحضارات الإنسانية المختلفة.
ويمثل الأثر الفني القديم النموذج الاتباعي. فأعمال الواسطي وجامع قرطبة، تبقى أوابد صالحة لكل عصر، وتستمر مرشداً للأصالة وملاذاً للانتماء. ويحقق الأثر الفني تواصلاً زمنياً، ففي كل أثر فني قديم نفحةٌ من الماضي الذي يصبح ماثلاً في الحاضر في هذا الأثر.
وهكذا يبقى الأثر الفني القديم سائغاً ورائعاً في جميع مراحل المستقبل، مما يمنحه صفة الاستمرار في الجدارة على الرغم من تبدل الأذواق والمذاهب الفنية.
وما يسمى الفنون الشعبية والتراثية يبقى موضع اهتمام وتقدير مع تطور الفن الحديث وتطرفه، بل إن نزعة تكريم التراث إنما انبثقت عن الشعور بروعة الأثر الفني الأصيل. وهناك من ينادي بالعودة إلى القديم مهما كان بسيطاً، إيماناً بأن ما قدم في الماضي إنما قدم على أروع ما قدمه الإنسان، كما يقول هيغل Hegel. على أن تكريم التراث لايعني في الواقع الرجوع إليه وإعادة تطبيقه ونسخه، إذ يقضى بذلك على الفن بالجمود. ولكن التراث يبقى منارة تساعد في عملية تأصيل الأثر الفني عملاً إبداعياً متجهاً نحو المستقبل وليس نحو الماضي.
على أن الأثر الفني كثيراً ما يجتاز مع الزمن دورة تاريخية جدلية (ديالكتيكية) تبدأ من الرمزية إلى الاتباعية ثم إلى الإبداعية ثم تعود بأثواب جديدة.
الأثر الفني والعالمية:
إن لغة الجمال هي لغة عالمية يدركها ويفهمها جميع الشعوب على اختلاف أنماطها الثقافية ولغاتها القومية. ويتمتع الأثر الفني بقدرة على التواصل لاتستطيعها اللغات الأدبية التي تبقى محدودة الانتشار في حين يجتاز الأثر الفني الحدود بسهولة لكي يستقر عالمياً في أوسع دوائر التقدير والإعجاب وأبعدها، دونما تحفظ قومي أو لغوي.
لقد أفسحت وسائل الاتصال الحديثة مجالاً أوسع لتعميم الأثر الفني ونشره، وكثرت المهرجانات والمعارض الدولية التي دعمت تلاقي الآثار الفنية وتعايشها، وبدت عالمية الفن بمقدرة الأثر الفني على الانتشار والتواصل، لابتوحيده وإلغاء الذاتيات الوطنية والتقليدية. وقد تزايد التذوق العالمي المتبادل للآثار الفنية المختلفة بفعل اللغة الجمالية المشتركة، وأصبح الناس على اختلاف أذواقهم وتقاليدهم الفنية يُقبلون على الأعمال الفنية الوافدة ويتفاعلون معها وقد يتأثرون بها. وهكذا أصبح الأثر الفني وسيلة تواصل وتوحيد على نطاق واسع.
وثمة دعوة إلى ربط الأثر الفني بالعالمية متخلياً عن ميزاته القومية، لكن الدعوة لم تكلل بالنجاح لأن الأثر الفني شديد الصلة بصاحبه وحضارة مجتمعه. ولاينفي ذلك أن يسهم هذا الأثر في إغناء الثروة الفنية العالمية. وفي الاتفاقيات الثقافية بين الدول برامج وخطط ترمي إلى زيادة التعريف بالهوية القومية في الأثر الفني، مع تشجيع التواصل والتبادل والتعايش الثقافي والفني.
الأثر الفني والفائدة:
إن ثمة حاجة معينة تدفع إلى الإقبال على الأثر الفني وإلى اقتنائه مهما ارتفعت قيمته، وإلى تقديره وحفظه وحمايته من العابثين. وهذه الحاجة عميقة ومتعددة البواعث، وإن كانت تبدو ظاهرياً أنها الحاجة إلى الجمال والتمتع به. ولقد تحدث فلاسفة الفن عن وظائف كثيرة للأثر الفني تعبّر عن فوائد له بينها وظائف قومية، وتاريخية، وإبداعية، ونفعية.
الوظيفة القومية: تتجلى الوظيفة القومية في استيعاب التقاليد الإبداعية، وفي تمثل أهداف الحياة الثقافية والاجتماعية في أمة من الأمم. إن هذا الأثر الفني هو لبنة أساسية في بناء الشخصية القومية المتمثلة بمجموعة الآثار الحضارية المتعاقبة في التاريخ.
إن قوة الآثار الفنية الأصيلة تسهم في تحديد مستوى الحضارة القومية، وبقدر ما تكون هنالك من آثار أصلية، فإن هذا يسهم في استمرار التقدم الإنساني على أوسع نطاق من دون أن يتعارض هذا الأمر مع الانتماء القومي.
فالقومية ليست قضية عنصرية، بل هي مشاركة جماعية مسؤولة لبناء عالم أكثر إنسانية، وأكثر تفاهماً وتعاوناً، ثم إن الانتشار العالمي لايعني عدم الانتماء والالتزام، بل إن تواصل الفنون القومية في العالم يعني الذاتية الفنية.
والحفاظ على الشخصية الثقافية وعلى الطابع القومي في الأثر الفني أصبح هدفاً تنظمه وترعاه المنظمة العالمية للتربية والعلوم والثقافة UNESCO التي تقاوم جميع عمليات المسخ والتشويه التي تتعرض لها الفنون القومية لأي سبب من الأسباب، ثم إن في مقدمة الأهداف الأساسية للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم الحفاظ على الشخصية الثقافية العربية، وتأكيد الوظيفة القومية في العمل الفني.
ولكن الابتعاد عن الذاتية الثقافية والطابع القومي قد يصدر عن الفنان نفسه عندما يربط أثره الفني بخصائص مستوردة أو وافدة، أو يقلد النزعات الغربية الطارئة، عندها يفقد الأثر الفني هويته ويتخلى عن ذاتيته.
الوظيفة التاريخية التسجيلية: إن الأثر الفني قادر على التعبير عن مادة معينة تتضمن موضوعاً له أبعاد فكرية أو أخلاقية أو تاريخية. مهما كان نوعه: أكان حركياً أم تشكيلياً أم جمالياً. يذهب أصحاب «النزعة التقريرية» إلى النظر للأثر الفني على أنه وثيقة تاريخية أو صيغة تسجيلية لواقع معين. والأصح القول إنه أولاً وثيقة فنية جمالية يقدم مضمونها حدثاً ثقافياً حضارياً. ولذلك فإن موضوع التاريخ الحضاري هو الآثار الفنية في التاريخ، وليس موضوعه الأحداث التاريخية التي تبقى من اختصاص التاريخ السياسي.
ومع ذلك فإن الأثر الفني بصيغته التعبيرية لايمكنه أن يبقى خارج حدود التاريخ السياسي الذي يؤلف الخلفية الاجتماعية له. ولكن ليس من شأنه أن يكون ناقلاً حرفياً لأحداث التاريخ وإن كان يمثل جوهر التاريخ. فعندما يستمع الإنسان إلى موسيقى شهرزاد لريمسكي كورساكوف R.Korsakov ويرى لوحة الغرنيكا Guernica لبيكاسو Picasso، فإنه لايقف أمام تفاصيل تاريخية بل يقف أمام مجمل تاريخي اجتماعي. ولقد قدم الأثر الفني القديم في هذا المجال خدمات أساسية للمؤرخ الذي استقرأ الأحداث وربط بعضها ببعض من دراسته واستقرائه للآثار القديمة. وليس من مهمة عالم الآثار كشف الأحداث بقدر ما يهمه الكشف عن تطور حضارة الإنسان في آثاره الفنية التي أنجزها في تاريخه الطويل.
الوظيفة الإبداعية: إن أهم ميزات الأثر الفني ما يقدمه من صيغ جمالية لم يكن لها وجود سابق، فهو يبدع شكلاً طريفاً وينشئ موضوعاً مبتكراً لم يسبقه إليه فنان آخر، ولكنه لايقدم شيئاً من العدم. إن الإبداع الفني هو رؤية جديدة للواقع، والواقع متغير باستمرار، والتقاط لحظاته والتعمق فيها حدسياً يكوّن عند الفنان تصوراً مستقراً وجديداً يتمثل بتعبير يتحقق في أثر فني، وذلك هو «الإبداع الفني». إن الوظيفة الإبداعية مهمة ضرورية، ولولاها لانقلب العمل الفني إلى عمل عادي. فالإبداع الفني يزيد الثروة الجمالية والثقافية، ويثير الاعتزاز بالقدرة الابتكارية، ويفتح آفاقاً لتعرّف صيغ تضاف إلى الصيغ الواقعية المألوفة، ويقدم آيات جديدة من الجمال فوق الواقعي تسد الحاجة المتزايدة إلى متعة ثقافية في عالم يعيش تحت وطأة المنجزات المدمرة التي تغذي التشاؤم وتسبب الرعب واليأس.
الوظيفة النفعية: يتحاشى علماء الجمال الربط بين الأثر الفني والمنفعة، بل إن كثيراً منهم يعتقد أن الفن يتنافى مع المنفعة. فإذا انطلق المرء من المعنى الواسع والعميق لمفهوم المنفعة فإنه لايستطيع أن يتصور أثراً فنياً لانفع يأتي منه، حتى لو اقتصرت هذه المنفعة على تذوق الجمال. وفي رأي دوي Dewey أن هذا التذوق ذاته هو إدراك حسي متسام يعادل أي لذة تأتي من التمتع بالأشياء التي نستعملها.
يرى هنري دولاكروا H.Delacroix أن الفن لايبدأ إلا في اللحظة التي يتمكن فيها الفنان من أن ينصرف عن الطابع النفعي للحياة العملية. وهو، ومعه أصحاب هذه النزعة، يجدون أن العمل الفني يجب أن يهدف إلى المتعة الفنية الخالصة التي لاتشوبها شائبة من مصلحة أو غرض نفعي مادي. والمعنى ذاته يصادف عند المفكر الألماني لانج Lange حين يذكر أن الفن هو مقدرة الإنسان على إمداد نفسه وغيره بلذة قائمة على الوهم من دون أن يكون له أي غرض يرمي إليه سوى هذه المتعة المباشرة.
ولكن هناك من المفكرين المحدثين من لايجد حرجاً في الاعتقاد بان الوظيفة النفعية للعمل الفني لاتكاد تنفصل عن وظيفته الجمالية التعبيرية، وأنه قد يوجد جمال ما في أثرٍ وجد أصلاً لمنفعة مادية أو اجتماعية. بيد أن هناك تياراً آخر في الفن الحديث شغلته أفكار «العدمية» nihilism عن القول بتوظيف الفن لأي غرض حتى لو كان جمالياً محضاً.وبالمقابل فإن تياراً آخر يرى أن الأثر الفني الذي لايحقق فائدة مباشرة هو عبث.
ذهب تولستوي Tolstoi في كتابه «ما هو الفن؟» إلى وجوب النظر إلى الفن على أنه مظهر من مظاهر الحياة البشرية. والعمل الفني الحقيقي، في نظر تولستوي، هو ذلك الإنتاج الصادق الذي يمحو كل فاصل بين صاحبه من جهة، والإنسان الذي يوجَّه إليه، من جهة أخرى. من هذه الزاوية يكون للفن منفعة إنسانية اجتماعية.
وأخيراً إذا قيل إن التمتع بالجمال في الفن يمكن فهمه على أنه منفعة، فإن هذه المنفعة قد تبدو واضحة كذلك، حين يوسع معنى الأثر الفني ليشمل تلك الأشياء التي يستعملها الإنسان، والتي تكتسب، من المعالجة الفنية للشكل فيها، طابعاً حراً يدنو بها من الفنون الجميلة.
المراجع
الموسوعة العربية
التصانيف
العمارة و الفنون التشكيلية والزخرفية التربية والفنون الفنون