كتبها
كريم معروف
يمكن مقاربة الشخصية إما من زاوية فلسفية تحصرها في ماهية الشخص وكيفية عمله كنظام باعتباره ذاتا مفكرة مريدة وحرة ومسؤولة أخلاقيا وقانونيا ، تمثل غاية وقيمة في ذاتها تستوجب الكرامة والاحترام وتعبر عن إنسانية الإنسان كطبيعة عاقلة وإرادة تسن قوانين وتشريعات وقيما كونية، وإما انطلاقا من وجهة نظر العلوم الإنسانية التي تعتبر الشخصية بناء تجريديا ونموذجا نظريا لفهم سلوك وسيرة الشخص من خلال أنظمة نفسية واجتماعية، وضمنها من خلال نظريات تختلف باختلاف الأوليات التي تنطلق منها.
نظام الشخص :
“>
NP_Video_AutoStart = “0″;
NP_AfficheLeCours(183);
.
كيف يتأتى للإنسان إدراك شخصيته انطلاقا مما يميز ماهيته كشخص؟ .. وكيف يتحدد الشخص كنظام في ضوء ذلك ؟ ..
يح
يل مفهوم الشخصية لدى كل من ديكارت وابن سينا وكانط على مفهوم الشخص باعتباره ذاتا عارفة تعي وجودها وإنيتها وقيمتها الأخلاقية.
فالوعي لدى ديكارت وابن سينا يتم بإدراك الإنسان لماهيته كشخص عبر إدراكه لما هو ثابت وقار خلف الحالات التي يمر منها وكل التغيرات التي لا يتوقف بدنه عن معرفتها. إن وحدة الشخص لدى هذين الفيلسوفين ليست متمثلة في المعطى البيولوجي الصرف الذي يجسده البدن ، وإنما هي قيمة سامية لخصها ديكارت في العقل أو مفهوم الذات المفكرة ، في حين لخصها ابن سينا في مفهوم النفس أو الإنية.
ينطلق ديكارت في نص : الذات المفكرة من السؤال : ما الإنسان أو ما الأنا ؟ .. وانطلاقا من منهجيته القائمة على الشك من أجل بلوغ اليقين الذي لا شك فيه شك في كل الأفكار التي كانت لديه عن نفسه محاولا إيجاد الجواب اليقيني عن السؤال : من أنا ؟ .. حدد ديكارت للجسم مجموعة من الخصائص ، ووجد أن هذه الخصائص لا تعلق لأي منها بالنفس ؛ فخاصية النفس الأساسية هي التفكير ، في حين أن خاصية الجسم هي الامتداد ، فاستنتج من ذلك أن الأنا شيء مفكر ؛ أي ذهن أو روح أو فكر أو عقل ، والتفكير دليل الوجود ، ومن هنا الكوجيطو القائل : أنا أفكر ، إذن أنا موجود ، والشيء المفكر هو شيء يشك ويفهم ويتصور ، يثبت وينفي ويريد ويتخيل ، إلا أن تعدد هذه العمليات الفكرية لا يعتبر تعددا للأنا.
و لا يختلف ابن سينا عن ديكارت عندما يرى بدوره أن وحدة الشخص تتمثل في النفس أساسا وليس في البدن ؛ فلا يمكن للإنسان أن يغفل عن وجوده وإثبات هذا الوجود المسمى إنية حتى لو افترضنا إنسانا معلقا في الهواء برهان الرجل الطائر لا يبصر أجزاءه و لا تتلامس أعضاؤه ، فإنه مع ذلك لن يغفل عن إثبات إنيته ، بل حتى النائم في نومه والسكران في سكره لا يمكنه أن يغفل عن إنيته ، تلك الإنية التي لا يتم إدراكها وإثبات وجودها عن طريق المدركات الحسية أو عن طريق الفعل والحركة ، وإنما عن طريق العقل وقوة أخرى غير المشاعر وبدون وسيط.
إن هذا الوعي المعلق لدى كل من ديكارت وابن سينا ، والذي يبدو كما لو أن لا علاقة له بالوجود وبالعالم الخارجي ، لأنه مكتف بذاته ، لم يسلم من وجود معارضين منتقدين رأوا في هذا النوع من الوعي وعيا ميتافيزيقيا ، إذ أن هوسرل انطلاقا من مفهوم القصدية الذي يعني افتاح الذات واندفاعها نحو العالم والآخرين ، يرى أن الوعي هو دائما وعي بشيء ما ، ووعينا بذواتنا إنما يمر عبر العالم والأشياء والآخرين ، وليس هناك وعي مجرد أو مفصول عن العالم .
كما أن سارتر يرى أن وعينا لذواتنا يتوقف أساسا على وجود الآخر الذي يلعب دورا أساسيا في إماطة اللثام عن حقيقة الذات خلف ما تتبدى به لنفسها أو ما تتوهمه كواقعها.
إن الإنسان لدى كانط، كظاهرة من ظواهر الطبيعة وكحيوان عاقل يسعى لتحقيق غايات نفعية، لا يكتسب بذلك إلا قيمة نفعية خارجية ، وبذلك يمكن الحديث عن قيم الناس في هذا المستوى كما لو كنا أمام تجارة للبشر . لكن الإنسان باعتباره ذاتا لعقل عملي أخلاقي ( الشيء الذي يدخل ضمن مفهوم الفضيلة ) يمتلك قيمة كبرى ومطلقة ( كغاية في ذاته ) تتمثل في امتلاك الكرامة واحترام الذات ، وهنا يتساوى الناس فيما بينهم ، ومن هنا أيضا ضرورة الوعي بالخاصية السامية لتكوين الإنسان الأخلاقي ، وعلى الإنسان أن يسعى نحو غاياته النفعية ، لكن بشكل لا يؤدي إلى الحط من قيمته الأخلاقية .
النظام النفسي:
إذا كانت الشخصية من المنظور الفلسفي تتماهى مع نظام الشخص على مستوى الوعي وعلى مستوى البعد الأخلاقي، فإن العلوم الإنسانية ، وبكيفية خاصة علمي النفس والاجتماع، قد أسست تصورها للشخصية انطلاقا من اعتبارها نموذجا نظريا لفهم وتفسير سلوك وسيرة الشخص .
اختلفت مدارس علم النفس بخصوص ما يشكل حقيقة الحياة النفسية : فالمدرسة الشعورية مع وليم جيمس رأت أن هذه الحقيقة تتمثل في المستوى الشعوري الذي نحسه ونشعر به ، والذي يمكننا اكتشافه والتعرف عليه من خلال آلية أساسية سماها أقطاب هذه المدرسة الإستبطان Introspection الذي يمكننا من معرفة الحالات النفسية المختلفة وتكوين معرفة علمية بصددها .
أما المدرسة السلوكية ( واطسن ـ بافلوف ) ، أخدا بالتقليد العلمي في ميدان العلوم الحقة وبخاصة منهجها التجريبي القائم على الملاحظة والتجربة ، فقد رأت أن هذه الحقيقة تتمثل في المظاهر الخارجية للسلوك التي يمكن رصدها ملاحظة ( اصفرار الوجه ـ توثر العضلات للهجوم أو للهرب ـ وقوف شعر الرأس ـ جحوظ العينين ـ إفراز مادة الأدرينالين في الدم ـ تقلص المعدة ـ تصبب العرق . . . الخ ) . ويمكن ، كما يرى ذلك واطسن ، رد مجموع سلوكات الشخصية إلى مجموعة من المنبهات والاستجابات ، باعتبار أن كل السلوكات الإنسانية هي أفعال منعكسة شرطية ( تجربة بافلوف ) تم تلقيها عن طريق التربية ، بالشكل الذي يمكِّننا من التنبؤ بالاستجابة متى ما عرفنا المنبه ، والعكس صحيح أيضا ، ومعنى هذا أنه يمكن رد كل السلوكات الإنسانية إلى قانون عام هو ( منبه = استجابة ) . لقد كان واطسن يقول : أعطني عددا معينا من الأطفال ، وأنا أصنع لك منهم الأستاذ والمحامي والطبيب والنجار والقاتل و . . . الخ .
لقد نظرت هذه المدرسة إلى الإنسان كما لو كان حلقة مفرغة من الشعور عندما أهملت البطانة الوجدانية المصاحبة للمظاهر الخارجية للسلوك ، في الوقت الذي أهملت فيه المدرسة الشعورية هذه المظاهر عندما اعتبرت حقيقة الحياة النفسية متمثلة بالأساس في الشعور الداخلي فقط .
أما المدرسة الثالثة وهي المدرسة اللاشعورية بزعامة سيجموند فرويد فترى أن حقيقة الحياة النفسية لا تتمثل لا في المستوى الشعوري و لا في مستوى السلوك الظاهري لأنها توجد في مستوى آخر خفي ومحدِّد بشكل أساسي للشخصية كما هو المحرك الأساسي لكل السلوكات الصادرة عن الشخصية ، إنه المستوى اللاشعوري الذي اكتشفه فرويد من خلال ملاحظاته المتعددة وهو يدرس في باريس في مستشفى الدكتور برويير المختص في علاج الأمراض العصبية لدى النساء خاصة ؛ لقد لاحظ فرويد أن عديدا من المريضات يتحدثن أثناء تنويمهن المغناطيسي عن أحداث لا يتذكرنها في حالة اليقظة ، فاستنتج من ذلك وجود مستوى لاواعي من الحياة النفسية سماه اللاشعــور ، كما وقف على مدى تأثير هذا المستوى ومدى أهمية التعرف على مكوناته لضرورتها في معالجة الأمراض النفسية والعصبية .
ثم ستتوالى بعد ذلك فتوحات التحليل النفسي الذي اقترن تأسيه وبلورته بالبحث في خبايا اللاشعور وبالخصوص الخبايا المسببة للمرض النفسي بأنواعه وأشكاله المختلفة . وبالنسبة للتحليل النفسي ، يلعب التطور الجنسي ـ النفسي للطاقة الحيوية الدافعة للغرائز الجنسية ( الليبيدو ) لدى الطفل الدور المركزي في تكوين شخصيته ، وبذلك تعطي الصدارة للجنس كمكون أساسي في حين تفرد أهمية ثانوية للعوامل الأخرى . وتلعب عقدة أوديب دورا أساسيا في النمو الجنسي ـ النفسي المذكور لدى الطفل : فالليبيدو لديه يتخد أحد الأبوين كموضوع لاختياراته الغرامية الأولى ، وكبت هذا التوجه النفسي ـ الجنسي في أعماق اللاشعور ينشأ عنه المركب المركزي لكل عصاب ( عقدة أوديب ) ، وهو الذي يحدد في ما بعد أشكال التعامل مع الواقع لدى الطفل
ويتوقف البناء النفسي السليم للشخصية على الحل السليم لهذه العقدة ، إذ أن عكس ذلك تنشأ عنه في ما بعد اضطرابات عصابية تحتاج إلى علاج . ومعنى هذا أن السنوات الأولى من عمر الطفل تلعب دورا مركزيا في تحديد شخصيته المستقبلية .
إن المحرك الأساسي للشخصية من وجهة نظر التحليل النفسي يتمثل في ما يسميه فرويد الجهاز النفسي الذي يتكون خلال مراحل النمو النفسي الخمسة الأساسية : 1 ـ المرحلة الفمية
2 ـ المرحلة الشرجية
3 ـ المرحلة القضيبية ( الأوديبية )
4 ـ مرحلة الكمون
5 ـ ثم مرحلة المراهقة .
فما هي مكونات الجهاز النفسي للشخصية ؟ … وما هو الدور الذي يلعبه كل مكون من هذه المكونات في بناء الشخصية على المستوى النفسي ؟ …
يتكون الجهاز النفسي من ثلاث قوى افتراضية هي :
ـ الهو Le ça : وهو يتضمن دوافعنا وغرائزنا التي ورثناها عن الأجداد والتي كُبتت بفعل الحضارة ، وهو متمركز حول نزعة أساسية ( الليبيدو ) أو نزعة الجنس ، همها طلب اللذة واجتناب الألم ، إذ المبدأ الذي يخضع له الهو في سلوكه هو مبدأ اللذة .
ـ الأنا Le moi : وهو جزء من اللاشعور انفصل عنه نتيجة الاحتكاك والاصطدام بالواقع وإكراهاته لذلك فهو يمثل الجانب الذي يلامس الواقع من شخصيتنا ، ويتكون من جملة من الأفعال الإرادية واللاشعورية التي أفصحت عن نفسها وتلاءمت مع الواقع بصورة ما ، ومهمته تحقيق توازن بين متطلبات الهو ومتطلبات الواقع وكذا متطلبات الأنا الأعلى ، والمبدأ الذي يخضع له في سلوكه هو مبدأ الواقع .
ـ الأنا الأعلى Le super - moi : ويمثل سلطة المجتمع والدين والأخلاق وغيرها من المبادئ والضوابط التي تنظم العلاقات بين الناس وتحكم سلوكهم ، والتي امتصها الفرد من المجتمع عن طريق التربية والتنشئة الاجتماعية ، وأصبحت تعبر عن نفسها لديه بشكل فردي في ما يسمى الضمير .
إن هنالك آليات يلجأ إليها الأنا لحفظ توازن الشخصية :
كالتعويض والتأجيل ، والتصعيد ، والتبرير ، والكبت ، والنكوص و . . . الخ ، واختلال توازن الشخصية معناه عدم قدرة الأنا على إرضاء متطلبات السلط المتحكمة فيه وفي سلوكه ، ويتمثل ذلك في الأمراض النفسية التي تتراوح بين العصاب والذهان .
إننا هنا أمام حتمية سيكولوجية تتحكم في السلوك الإنساني وتوجهه ، والسلوكات الإنسانية اللاحقة في مرحلة البلوغ ليست إلا تكرارا بشكل من الأشكال للخبرات الطفولية الأولى . فإلى أي حد يمكن الحديث هنا عن انتفاء الحرية ؟ .. وإلى أي حد يمكن اعتبار عقدة أوديب قانونا شموليا ؟ ..
المراجع
الشخصية
التصانيف
فلسفة