اللاذقيّة كما تحدّث عنها المؤرّخون والجغرافيّون والرّحالة
اللاذقيّة هذه المدينة التي طار صيتها في الآفاق من بعد صرخة أبي العلاء المعري: في اللاذقية ضجة... هذه المدينة، تعاقبت عليها أحداث وأزمان. ومر بها قواد عظام وشعراء مفلقون ومؤرخون ورحالة.. وأبدوا إعجابهم بها. وقد كثرت الأقوال في ذكر محاسنها. وأهم ما جذب الأنظار إليها، ميناها، مبانيها المهندسة المهندمة، ودير الفاروس.
قال شمس الدين الأنصاري المعروف بشيخ الربوة (ت/727هـ):
"واللاذقية محاطة بالبحر من جهاتها الثلاث وهذه المدينة أشبه بالإسكندرية في بنائها وليس بها ماء جار يسقي أرضها وهي قليلة الشجر، قديمة البناء، وبأرضها معدن رخام أبيض أضفر موشى وبها دير الفاروس من أعجب البناء في الديور، وله يوم في السنة تجتمع النصارى إليه والمينا الذي باللاذقية من أعجب المواني في البحر وأوسعها لا يزال حاملاً للسفن الكبار وعليه سلسلة من حديد حاصرة لمراكبه مانعة مراكب العدو".
وقال أبو الفداء (ت/732هـ):
"وهي بلدة ذات صهاريج وهي على ساحل البحر وبها مينا حسنة مفضلة على غيرها وبها دير مسكون يعرف بالفاروس حسن البناء. قال في العزيزي ومدينة اللاذقية جليلة من أعمال حمص.... وهي أجل مدينة بالساحل منعة وعمارة ولها مينا عظيم.
ووصفها صفي الدين عبد المؤمن بن عبد الحق البغدادي (ت/739هـ) بقوله:
"مدينة عتيقة رومية فيها أبنية مكينة، وهي بلد حسن في وطاء من الأرض، وله مرفأ جيد محكم وقلعتان متصلتان على تل مشرف على الربض".
ومن المؤرخين ذكرها كل من البلاذري في (فتوح البلدان) وابن الأثير في (الكامل) وابن شداد في (النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية) وشهاب الدين المقدسي في (كتاب الروضتين في أخبار الدولتين) وأحمد بن إبراهيم الحنبلي في (شفاء القلوب في مناقب بني أيوب)... وغيرهم... وغيرهم.....
قال ابن الأثير (ت/630هـ) وكانت عمارة اللاذقية من أحسن الأبنية وأكثرها زخرفة مملوءة بالرخام على اختلاف أنواعه.
وقال ابن شداد (ت/632هـ) وهي بلد مليح خفيف على القلب غير مستور وله ميناء مشهور، وله قلعتان متصلتان على تل يشرف على البلد.
وقال شهاب الدين المقدسي المعروف بأبي شامة (ت/665هـ) في كتاب عمادي إلى سيف الإسلام باليمن عن السلطان قال: (وهذه اللاذقية مدينة واسعة وخطة جامعة معاقلها لا ترام وأعلاقها لا تستام، وهي أحسن بلاد الساحل وأحصنها وأزيدها أعمالاً وضياعاً وأزينها وما في البحر مثل ميناها ولا للمراكب الواردة مثل مرساها وهي جنة...".
وقال الحنبلي (ت/876هـ) وهو بلد كبير له قلعتان متصلتان على تل، وهي أحسن البلاد وأطيبها...
وأجمل وصف لللاذقية وصل إلينا، ما ذكره العماد الأصفهاني (ت/589هـ) في (الفتح القسي في الفتح القدسي) عندما فتحها السلطان صلاح الدين الأيوبي سنة 584/هـ. قال: "ورأيتها بلدة واسعة الأفنية، جامعة الأبنية متناسبة المعاني، متناسقة المغاني، قريبة المجاني، رحيبة المواني. في كل دار بستان، وفي كل قطر بنيان، أمكنتها مخرمة، وأروقتها مرخمة، وعقودها محكمة، ومعالمها معلمة، ودعائمها منظمة، ومساكنها مهندسة مهندمة، وأماكنها ممكنة، ومحاسنها مبنية، ومراتبها معينة، وسقوفها عالية، وقطوفها دانية، وأسواقها فضية، وآفاقها مضية، ومطالعها مشرقة، ومرابعها مونقة. وأرجاؤها فسيحة وأهواؤها صحيحة....".
وكان من الطبيعي أن مدينة بجمال اللاذقية، أن تستأثر باهتمام الرحالة والجغرافيين العرب وغيرهم وأول من أتى على ذكرها ووصفها، المختار بن الحسن بن عبدون الحكيم أبو الحسن الطبيب البغدادي المعروف بابن بطلان (ت/444هـ).
وابن بطلان كما يذكر القفطي (ت/646هـ) طبيب منطقي من أهل بغداد يرتزق بصناعة الطب، خرج من بغداد إلى الجزيرة والموصل وديار بكر ودخل حلب وأقام بها مدة وما حمدها، وخرج عنها إلى مصر وأقام بها مدة واجتمع فيها بابن رضوان المصري الفيلسوف في وقته وجرت بينهما منافرة أحدثتها المغالبة في المناظرة، وخرج ابن بطلان عن مصر مغضباً على ابن بدران وورد أنطاكية راجعاً عن مصر فأقام بها وانقطع إلى العبادة إلى أن توفي بها في شهور سنة أربع وأربعين وأربعمائة.
وقد وجه ابن بطلان إلى أبي الحسن هلال الصابئ رسالة يصف فيها رحلته إلى الرحبة وحلب وأنطاكية واللاذقية التي قام بها سنة 440/هـ. ومما قاله: "وخرجت من أنطاكية إلى اللاذقية وهي مدينة يونانية لها مينا، وملعب وميدان للخيل مدور وبها بيت كان للأصنام وهو اليوم كنيسة وكان في أول الإسلام مسجداً وهي راكبة البحر وفيها قاض للمسلمين وجامع يصلون فيه وأذان في أوقات الصلوات الخمس. وعادة الروم إذا سمعوا الأذان أن يضربوا الناقوس. وقاضي المسلمين الذي بها من قبل الروم. ومن عجائب هذا البلد أن المحتسب يجمع القحاب والغرباء المؤثرين للفساد من الروم في حلقة وينادي على كل واحدة منهن ويتزايد الفسقة فيهن لليلتها تلك ويؤخذن إلى الفنادق التي هي الخانات لسكنى الغرباء بعد أن تأخذ كل واحدة منهن خاتماً هو خاتم المطران حجة بيدها من تعقب الوالي بها فإنه متى وجد خاطياً مع خاطية بغير ختم المطران ألزمه جناية. وفي البلد من الحبساء والزهاد في الصوامع والجبال كل فاضل يضيق الوقت عن ذكر أحوالهم والألفاظ الصادرة عن صفاء عقولهم وأذهانهم..".
وقد نقل ياقوت الحموي في (معجم البلدان) وزكريا بن محمد بن محمود القزويني في (آثار البلاد وأخبار العباد) كلام ابن بطلان، لكن الاثنين اختلفا في اسمه فبينما يذكره ياقوت باسم ابن فضلان، يسميه القزويني باسم ابن رطلين..
وتجدر الإشارة إلى أن ياقوت الحموي ينقل عن لسان ابن فضلان أنه رأى في اللاذقية سنة 446 أعجوبة وذلك أن المحتسب يجمع القحاب الخ... مع أن بطلان توفي سنة 444هـ كما ذكر القفطي. وليس من المعقول أن يكون ياقوت الحموي قد نقل عن ابن فضلان لأن رحلة ابن فضلان كانت إلى بلاد الترك والخزر والروس والصقالبة ولم يمر باللاذقية.
ومن الذين مروا باللاذقية أيضاً، ابن بطوطة أثناء رحلته إلى المشرق التي قام بها في شهر رجب من عام 725/هـ- 1325/م.
وابن بطوطة إنما قصد اللاذقية لزيارة الولي الصالح عبد المحسن الإسكندري. كما يفهم من قوله: "ثم سافرت إلى مدينة اللاذقية. وهي مدينة عتيقة على ساحل البحر، يزعمون أنها مدينة الملك الذي كان يأخذ كل سفينة غصباً. وكنت إنما قصدتها لزيارة الولي الصالح عبد المحسن الإسكندري. فلما وصلتها وجدته غائباً بالحجاز الشريف، فلقيت من أصحابه الشيخين الصالحين سعيداً البجائي ويحيى السلاوي، وهما بمسجد علاء الدين بن البهاء، أحد فضلاء الشام وكبرائها، صاحب الصدقات والمكارم...".
وأهم ما شاهده ابن بطوطة في اللاذقية وتحدث عنه، دير الفاروس وميناء المدينة. قال: "وبخارج اللاذقية الدير المعروف بدير الفاروص، وهو أعظم دير بالشام ومصر يسكنه الرهبان، ويقصده النصارى من الآفاق، وكل من نزل به من المسلمين فالنصارى يضيفونه، وطعامهم الخبز والجبن والزيتون والخل والكبر. وميناء هذه المدينة عليه سلسلة بين برجين، لا يدخله أحد ولا يخرج منه حتى تحط له السلسلة، وهو من أحسن المراسي بالشام".
ولم يذكر ابن بطوطة مدة بقائه في اللاذقية. كل ما ذكره أنه غادرها إلى حصن المرقب. ثم إلى الجبل الأقرع، ومنه سافر إلى جبل لبنان.
وممن مروا باللاذقية أيضاً، الملك الأشرف قايتباي أثناء الرحلة الرسمية التي قام بها سنة 882/هـ- 1478/م في سورية وشملت الصالحية والعريش وغزة وقاقون والناصرة وصفد وبعلبك وطرابلس واللاذقية وأنطاكية وبغراس (بغرص) وعينتاب وديار بكر، ووصل قلعة المسلمين، ثم عاد من ديار بكر بطريق حلب وسرمين وحماة وحمص والنبك ودمشق وسعسع وجسر بنات يعقوب وخان منية وقاقون ثم اتبع نفس الطريق التي جاءها إلى القاهرة.
وقد كتب رحلة قايتباي أبو البقاء بن جيعان وهو أحد الذين رافقوا السلطان وسماها بـ (القول المستظرف في رحلة مولانا الملك الأشرف).
ومما تجدر الإشارة إليه أن ثمة خلافاً حول اسم كاتب رحلة قايتباي. فعلى حين يذكر نقولا زيادة في (الرحالة العرب) إن الذي كتبها هو أبو البقاء بن جيعان. يذكر الدكتور عمر التدمري أن الذي كتبها هو محمد بن إبراهيم الطيبي يقول: من كتب الرحلات هذا الكتاب الذي يحمل عنوان "القول المستظرف في سفر مولانا الملك الأشرف، الذي وضعه مؤلفه محمد بن إبراهيم الطيبي وتتبع فيه رحلة الملك الأشرف قايتباي إلى فلسطين وبلاد الشام، في سنة 882/هـ- 1477/م مرافقاً للملك الأشرف في رحلته هذه فوضع عنها مصنفاً لطيفاً.
وأياً ما كان الأمر، فإن كاتب رحلة الملك قايتباي، كتب عما سمعه عن طاحونة في اللاذقية تديرها الريح قال: "ومما سمعنا عنه في اللاذقية طاحونة تديرها الريح، سواء أكان هبوبها من الشمال أو الشرق أو الغرب على نحو ماهو معروف عند الإفرنج وإذا دارت يوماً كاملاً، ليلاً ونهاراً طحنت 12 أردباً بالكيل المصري وقد أقام هذه الطاحونة رجل من اللاذقية كان الإفرنج قد أسروه، فلما عاد أنشأ هذا الشيء العجيب في بلده. وممن مروا باللاذقية أيضاً وذكروها في رحلاتهم، الشيخ أحمد بن صالح الأدهمي الطرابلسي المتوفى سنة 1159/هـ -1746/م في رحلته المسماة (تحفة الأدب في الرحلة من دمياط إلى الشام وحلب) التي قام بها في سنة 1150/هـ- 1737/م.
وسبب القيام بهذه الرحلة أن الأدهمي كان عند أخيه في مصر، فحن إلى وطنه طرابلس الشام وأحب العودة إليها فركب بحر النيل ثم البحر الملح ومر على حيفا وعكا وصيدا وبيروت وطرابلس وطنه ومنها أخذ مع رفقته ساحل البحر عن شمالهم إلى اللاذقية ومنها سلكوا طريق الوعر إلى إدلب فحلب.
ومعلوماتنا عن هذه الرحلة مستقاة مما كتبه الشيخ عبد القادر المغربي قال: والمؤلف مع رفقته لم يسافروا إلى حلب من طريق حماة، وإنما أخذوا ساحل البحر عن شمالهم إلى اللاذقية ومنها سلكوا الوعر إلى إدلب فحلب. وصلوا جبلة فلم يروا من أهلها حفاوة فلجأوا إلى جامع إبراهيم بن أدهم المشهور ثم دخلوا اللاذقية ضيوفاً على أحمد الزيادي بتشديد الياء كما يظهر من قوله فيه:
خل الغناء بزينب وسعاد
وأقصد مرابع أحمد الزياد
ووصف ما كان من حفاوة هذا الكريم المضياف بهم كما وصف غلمانه وحسنهم وجمالهم من ذلك قوله في الواحد منهم:
فكأن مالكه المفضل أحمداً
غذاه لين الأنس للعواد
ثم وصف حماماً دخله في اللاذقية بأشنع الأوصاف وقال أنه سأل عن اسمه فقيل له أنه حمام العواني أو العشور كذا... ومما وصف به الحمام أن صابونه منتن الروايح واستطرد من بشاعة هذا الحمام إلى ذكر ما قاله الشعراء في الحمامات مدحاً وقدحاً وافتتح ذلك بقوله هو في حمام اللاذقية:
وحمام حوى ما ليس يحصى
من الأوساخ والدنس القديم
ينادي من أتى يبغي قراه
لك البشرى قدمت على الجحيم
وممن زاره في اللاذقية الشيخ عبد الفتاح وقد وصفه بالتقوى والصلاح.. وصلوا في جامع الوزير سليمان باشا ودعاهم للضيافة أحمد بن بديع وقال إن من المدعوين إليها حضرة الشيخ عبد الرحمن أفندي مفتي اللاذقية ولعل عبد الرحمن أفندي هذا هو جد كاتب هذه السطور فقد ترجم له المرادي في تاريخه (سلك الدرر)– ج2، ص 303- وقال إن عبد الرحمن أفندي المغربي استقام مفتياً في طرابلس واللاذقية مقدار خمس وأربعين سنة وكانت وفاته سنة إحدى وتسعين ومائة وألف أي بعد زمن من هذه الرحلة بأربعين سنة ثم قال عنه ما نصه: فجرينا معه في الكلام والمذاكرة وبسطنا له بساط المفاكهة والمحاضرة وهو لا يطوي عن مرامنا كشحا. ولا يضرب عن الذي طلبناه صفحاً. بل كلما فتحنا له مسألة فقهية سلك طريق- المطارحة بالكلية. فعلمنا بقرائن الحال، إنه رجل في غاية الكمال فعندها اعتقدنا محبته وحققنا مع حضرة الوالد صحبته.
ثم غادروا اللاذقية إلى حلب فمروا بقرية البهلولية وهي ملك أحمد الزيادي الذي كانوا ضيوفه في اللاذقية. ومروا بعقبة السكون (أو السفكون) ووادي القرشية ووصف وعورة هاتين العقبتين وصعوبة السير فيهما قال: "وفي أثناء ذلك الضيق لاح لنا بيت على قارعة الطريق فتقدمنا لطلب البيان فإذا نحن بشيخ وثلاثة نسوان فسألنا عن الناس الأجواد فقيل لنا أنهم من أهلهم الأكراد. وإحدى الثلاثة رعبوبة ذات جمال وغادة قد تسربلت برداء الدلال فتقدم إليهن رفيقنا ابن بدران وقال هل من ماء إلى ابن السبيل الوارد العطشان وصار يطيل النظر إليها. ويلقي من أسرار لواحظه عليها. فاندفعت تسقي الوراد وطفقت تطفي ببرودة كلامها حرارة الأكباد ومرت علينا ونحن في ذلك المكان قافلة كبيرة من الركبان فسألنا إلى أين أيها الإخوان. فقالوا لنا من إدلب إلى زيارة حضرة السلطان فقلنا لهم مصحوبين بالسلامة ولا زالت العناية بكم ترعى ولا تنسونا معاشر الإخوان من صالح الدعاء...".
ومما يؤسف له أن هذه الرحلة الممتعة، لم تنشر بعد، ولم تلق العناية الكافية من الدارسين. وممن مروا باللاذقية أيضاً، البطريرك بولس بطرس مسعد بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للطائفة المارونية أثناء رحلته التي قام بها سنة 1866 إلى روما، بطريق البحر.
وسبب هذه الرحلة، أنه في آخر سنة 1866 وردت رسائل من الكردينال كازيني رئيس مجمع الفحص عن المشاكل المتعلقة بالمجمع التريدنتيني بأمر قداسة الأب الأقدس البابا بيوس التاسع إلى جميع البطاركة والجثالقة ورؤساء الأساقفة الكاثوليكيين في العالم كله. تنطوي على الدعوة لهم للحضور إلى روما لتعظيم إشهار قداسة الشهداء والمقدمين الآتي ذكرهم وتكريم العيد الأكبر للقديسين الرسوليين بطرس وبولس زعيمي الرسل في ختام القرن الثامن عشر بعد استشهادهما. فلما بلغت رسائل الكردينال المومى إليه إلى غبطة البطريرك بوسل بطرس مسعد بطريرك أنطاكية وسائر المشرق ومطارين الطائفة المارونية قام بالسفر بحراً إلى روما وكان خط سفره كما يلي: من بكركي إلى بيروت ومن بيروت إلى طرابلس، ومن طرابلس إلى إسكندرونة، ومن إسكندرونة إلى إزمير، ومن إزمير إلى مسينا، ومن مسينا إلى روما. مروراً بمدن الساحل السوري وهي طرطوس وبانياس واللاذقية.
وقد سجل أخبار هذه الرحلة الخوري يوسف الياس الدبس وسماها بـ (سفر الأخبار في سفر الأحبار) وعن اللاذقية قال:
"قد بلغنا مينا اللاذقية صباح الأحد في الثاني عشر من أيار الساعة 9 من ساعات الليل ست ساعات ونصف بعد السفر من مينا طرابلس فأتى لتحية غبطته هناك نائب قنصل دولة فرنسا المسيو إدلف جفروا ووجوه طائفتنا هناك ولم ينزل أحد من رفقائنا إلى المدينة لقصر مدة المكث هناك واضطراب البحر حينئذ حتى اعترى بعضنا قليل من الدوار وليس في المدينة إلا مينا صغيرة لا تدخلها السفن الكبار وعلى جانبها من الشمال برج داخل في البحر والمدينة في طرف لسان ومن ورائها تل صغير وترى فيها المواذن من البحر وحولها أشجار وبساتين تزيد حسن منظرها. وفي المدينة بعض آثار قديمة أخصها قوس نصر يظن أنه أقيم تكرمة لليقيوس وسبتيموس ساويروس وعدد سكانها على ما قيل لنا هناك نحو اثني عشر ألفاً. ومن حاصلاتها التبغ المعروف بأبو ريحة وتبغ وطننا أحسن منه على الأقل نظراً إلى ذوقنا وكان أعظم حاصلاتها قديماً الخمر كما ذكر استرابون...".
ومن الرحلات الطريفة في العصر الحديث رحلة فؤاد أفرام البستاني المسماة (خمسة أيام في ربوع الشام) أو (رحلة الموازييك في سيارة بويك) وهي رحلة قصيرة الزمن، تناولت أنحاء سورية بكاملها ساحلية وداخلية من حدود النهر الكبير إلى طرطوس فأرواد إلى اللاذقية، إلى حلب، إلى المعرة وحماة وحمص رجوعاً إلى دمشق بطريق النبك ودير عطية، وهي رحلة تجمع بين التاريخ والجغرافية والآداب والفنون والعلوم. ويهمنا من هذه الرحلة ما يتعلق باللاذقية، وبعد أن يتحدث المؤلف عن تاريخ المدينة يقول:
"ومما يذكر من آثارها بناء مربع الأركان يرقى إلى العهد الروماني، أقيم إما على عهد أنطونيوس، وإما على عهد سبتيموس ساويروس، في مفرق الطرق المهمة، وازدان بنقوش نافرة في بعضها أدوات حربية. وفي الطريق الآخذة من هذا المربع بقايا أعمدة كورنثية رشيقة القوام، دقيقة الزخارف، هي كذلك من العهد الروماني.
وأقدم منها المقبرة الشهيرة القائمة شمالي المدينة الغربي، ممتدة على نحو كيلومتر محفورة قبورها في الصخر على تصاميم متنوعة فاقت كل المعروف من نوعها في البلاد الفينيقية، على قول رينان، الذي وصفها وصفاً مطولاً في "البعثة الفينيقية" فذكر قبورها الظاهرة على شكل المربعات، والمغاور والآبار، والأقبية وأشار إلى أنه كثيراً ما كان يصادف فيها في زمنه أي في السنة 1860، أوجه من الذهب، وتماثيل صغيرة، ونقود عليها النقوش والكتابات الفينيقية. وكل ما فيها من القبور سابق، على قول رينان، للقرن الثالث قبل المسيح.
ومن الآثار القديمة في المدينة كنيسة المعلقة، وجامع المغربي المتصاعد فوق المنازل حتى أن الناظر من مئذنته يشرف على مشهد فسيح يمتد من البحر إلى وادي النهر الكبير، إلى جبل القصيرية، إلى جبل كاسيوس ولو كان لنا متسع من الوقت لأشرفنا على اللاذقية جميعها من قهوة أبو دردار على تل شرقي.
ويذكر المؤرخون خارج اللاذقية ديراً قديماً اسمه دير الفاروص زاره ابن بطوطة في القرن الرابع عشر فقال فيه: هو أعظم دير بالشام ومصر يسكنه الرهبان، ويقصده النصارى من الآفاق. وكل من نزل به من المسلمين، فالنصارى يضيفونه. وطعامهم الخبز والجبن والزيتون والخل والكبر. أما اليوم فلا يعرف شيء من آثاره. وقد تكون أسسه مدفونة في تل غاروس، بين اللاذقية وبسنادا، كما يرجح دوسو...
المراجع
موسوعة الجغرافيا دراسات وابحاث
التصانيف
تصنيف :الجغرافيا